بهدوء يؤسس الروائي الفلسطيني أكرم مسلّم معالم تجربته الروائية التي لم تنفصل عن واقعها الفلسطيني لكنه لا يعتمد عليه ركيزة لجذب القارئ بدءاً من روايته “هواجس الإسكندر” عام 2003 والتي كانت فيها فلسطين بقعة جغرافية قد تتقاطع مع غيرها ومرورًا بروايته “سيرة العقرب الذي يتصبب عرقًا عام 2008 ” التي أكد فيها على خصوصيته سواءً على مستوى اللغة التي لا تميل إلى الثرثرة وواقعه الذي ينهل منه حكاياته وشخوصه، ووصولًا إلى روايته “التبس الأمر على اللقلق” عام 2013، وانتهاءً بروايته “بنت من شاتيلا” هذا العام، والتي نحاوره بمناسبة صدورها.
بالعنوان “بنت من شاتيلا” (الصادرة عن الدار الأهلية في عمّان)، قد يتهيأ القارئ لدخول الرواية من زاوية “الكليشيه” الخاص بمعاناة الفلسطيني، خاصة أنه عنوان مغاير لعناوين رواياتك السابقة، ألا تجد أن هذا العنوان قد يعطي القارئ استنتاجاً استباقياً غير مشجع، خصوصاً مع وضع القضية الفلسطينية في العالم العربي الآن؟
في العادة، لا أستغرق في البحث عن اسم العمل، يولد الاسم تماماً من رحم المُسمّى، في رواياتي جميعها تتبدل اقتراحات الأسماء التي تبدأ مع بداية العملية الكتابية عدة مرات، إلى أن تنضج التسمية وتستقر في منتصف الطريق. يختلف “بنت من شاتيلا” عن عناوين رواياتي المتسمة بالغرابة فعلاً: “هواجس الإسكندر”، “سيرة العقرب الذي يتصبب عرقاً”، و”التبس الأمر على اللقلق”، كلّها عناوين تستوقف القارئ وتثير أسئلة محرّضة، وتوحي بغرائبية، لكنني تبعت إحساسي في أن “بنت من شاتيلا” اسم محرّض أيضاً ومراوغ، على الرغم من تقشفه ووقاره ومباشرته. يختزل العنوان ركيزتين تقوم عليهما الرواية: البنت والمجزرة. أردت لشاتيلا أن تكون العنوان لأنها القضية ولأن هذا حقّها، وأحببت البنت لأنها تؤشر إلى مدخل شخصي للتناول، مدخل حياة بشر يركبون قارب موت، البنت في العنوان تحرر المجزرة من شبهة البلاغة والبكائيات النازلة “من فوق” لصالح بكاء شخصي عميق متقطّع يستدرج التفاصيل ويضيء حولها.
معاناة الفلسطيني ليست “كليشيه”، وتكمن المشكلة في استمرارية المأساة منذ نحو قرن، وليس في الحديث المكرر عنها، التحدي: كيف نتحدث عنها فنّياً؟ لا توجد طريقة واحدة، توجد عدة طرق، الضمانة التي أحاولها شخصياً تحرير التعاطي مع الموضوع السياسي من البلاغة اليابسة لصالح لغة قادمة من الحياة/ الموت، هذا يحتاج إلى أشياء كثيرة أحاولها ولا أدعى بلوغ أقصاها، أهمها: “ديمقراطية” الكاتب مع الشخصيات؛ يحتاج الكاتب إلى شيء من التواضع تجاه شخصياته فلا يخنقها بخبرته ولغته وحكمته هو، أن يدعها تتجاوزه وتحلق بعيداً عنه، لتتحول الكتابة إلى لعب، وفق القواعد أولاً، وبعدها لعب بالقواعد نفسها، وبعدها لعب بلا قواعد.
إذا كان هناك من يرى خلاصه السياسي في إسقاط فلسطين من حساباته، فبئس الرؤية وبئس الخلاص. وإذا كان هناك من يرى أن النص “النظيف” من فلسطين هو نص أجمل، فهذا لا يعرف شيئاً عن فلسطين ولا عن الجمال ولا عن النظافة، هكذا ببساطة؛ غياب فلسطين أو تغييبها ليس شرطاً جمالياً ولا معياراً فنيّاً!
هناك من سيختار دائماً كتابة نصوص ذاتية، وهذا حقّه تماماً، وهذا ضروري وله دوره ومتعته وجمهوره ومادته التي يرفد بها المشهد، لكن اعتبار تناول الكوارث السياسية الجماعية شأناً غير أدبي، فهذا انحياز سياسي ضد فلسطين، وضد الأدب.
في العام 1982، حدثت مجزرة في منتهى الغدر، عجزنا عن التعامل معها ثورياً، وعجزنا عن محاكمة مرتكبيها جنائياً، وحتى أن تعاطينا السياسي مع مرتكبيها “ارتجف” في محطات عديدة، ممكننا الوحيد الآن محاكمة مرتكبيها أخلاقياً وجمالياً، وهذا ليس فقط في صلب الأدب، إنما من دوافع اجتراح الإنسان للسرد كفعل إنساني يتولى نبش الأرض لاستخراج ما دفنته القوة الغاشمة من حكايات وجثث.
يبدو أن أبطالك عادة هي الأماكن والأحداث وليس الأشخاص، ولهذا لا نجد أسماء شخصية إلا نادرًا، لكنك تمنح كل شخصية لقباً يعبر عنها مثل “الحورية” و”المناضل” وغيرها، هل أردت التأكيد على عمومية التجربة، وأنها قد تكون قصة أي شخص وجد بالصدفة في هذه الإحداثيات؟ أم أن الأسماء هنا لا تهم؟
في هذه الرواية كل الشخصيات أبطال، كلّ على طريقته، هناك بطولة الفدائي في المشي على حافة الموت في مواجهة القَدر الكولونيالي، وهناك بطولات البقاء وهي الأكثر والأوضح. تُوسّع الرواية مفهوم البطولة وتحررها من تفرّد المقاتل دون إلحاق الغبن به. نعم، الأمكنة تتقاسم البطولة مع شخوصها، فالشخوص من طينة الأمكنة، والمكان كما في سائر رواياتي متورط في الحكاية عبر انقساماته والهيمنة التي في هندسته، وثقله على الشخصيات لغة وأجساداً، وأحياناً انسحابه من تحت أقدامها. المكان الفلسطيني غير مُطمئن، وهذا لا يمكن إخفاؤه عند كتابة رواية واقعية.
بشأن الأسماء، أنا فعلاً أتجنب استخدام أسماء، وفي كل رواياتي قليلاً ما تجدين اسماً، أُفضّل الألقاب التي تنبت مع الشخصية أثناء الكتابة، تماماً كما ينبت اسم الرواية أثناء كتابتها، هذا أولاً يعفي الشخصية من التحليلات حول مغزى التسمية، ويفتح للشخصية آفاقاً إنسانية لتتحرك في فضاءات غير متوقعة. لا يعني هذا أنني أقسمت ألا أسمي شخصياتي؛ فأحياناً أتسامح مع وجود أسماء عندما أحس أن الاسم بلا حمولات، وأنه لا مناص منه.
بلغة محكمة لا تشبه الصخب في شيء وكتابة متأملة رائقة يتمحور العالم الداخلي للرواية، وهو الأمر الملفت، خاصة حينما تكون قصة العمل سلعة عند الكثيرين لاستدرار التعاطف والدعم، فكيف استطعت النجاة من فخ الوقوع في رثاء الذات؟
دعيني أقول بداية: إن الرواية هنا رحلة في حقل ألغام، وليس فقط فخاً أو فخاخاً… نحن نتحدث عن مكانين بالغيّ التعقيد بالنسبة للفلسطيني: لبنان وألمانيا. ونتحدث عن مجزرة حيّة وإن كانت ابتعدت قليلاً بالمعنى الزمني، لكن بيئتها وروافع تكرارها تقترب باستمرار، وتفريخاتها في المنطقة العربية تتناسل، هذا لأنها لم تُحاكم كمجزرة، ولا حوكمت كفكرة، لقد جرت تسويات لتجاوزها، أو أن التواطؤ على تجاوزها كان شرطاً لتسويات لا علاقة للضحايا بها. ما حمى الرواية من كمائن الرثاء وشبهة استدرار العطف، روحية المحكمة التي وجهت الشخصيات، والوعي الموجّه بأن المجزرة ليست حدثاً عابراً، إنما سياق عميق، وأنها ليست حادث سير، إنما حدث مدبر ومنهجي ناجم عن وعي كامل. وأن الحدث ليس قَدَراً إلهياً يشبه زلزالاً، إنما قدر سياسي دولي، لا يمكن عزله عما سبقه وعما لحق به. بهذا الوعي قررت ككاتب ألا أساوم في محاولتي تبصّر ألم الضحية وقول جملتها المغيبة، حتى أنني كنت مرعوباً من فكرة أن أصادر صوتها ككاتب.
وبهذا صارت الرواية تكتبني، صارت الشخصيات تعلّمني، احتكمت حركة الشخصيات وخياراتها إلى روح المحكمة، لذا لم يكن البكاء وارداً، فالرواية ككل غير محايدة، ولا تقترح الحياد، لا المؤلف محايد ولا الشخوص، ودعيني أقول: إنه حتى لا يوجد مقعد يجلس عليه القارئ المحايد، ثم إن الرواية لا تترك متنفساً لشبهة جلوس الضحية على مقعد المتهم، وترفض الاكتفاء بالجلوس في موقع الشاهد، بل تركل مقعد القاضي عندما يلزم الأمر. حررت هذه الروح الرواية من البكاء على أكتاف من لا يستحقون أن نبكي على أكتافهم، كل أولئك “القضاة” الذين اختاروا الوقوف على مسافة واحدة، بينهم وبين القتلة، وبينهم وبين المقتولين.
ولكن المحاكمة لم تتكئ على جمل قانونية، لقد استعادت الموت عبر حكايات حياة، حياة مفككة تجرّ موتاها، يبدو فيها المستحيل ممكناً والبديهي مستحيلاً، حياة مرتبكة ومربكة مشاهدها “زائغة”، شبحية أحياناً، وأحياناً لها ملمس ورائحة وملامح، “أبطال” بحمولات تراجيدية يتجولون على خشبة تاريخ يشبه مسرح اللامعقول.
تنقلت بين العديد من التواريخ، وكأنك كنت تمسك حبلاً يأخذك إلى الماضي القريب أو البعيد أو الحاضر، إلى أي مدى أرهقك هذا التنقل، خاصة أنه يحتاج إلى البحث الدؤوب؟ وهل كانت كل الأزمنة تصبّ في صالح الرواية؟
الرواية كلّها -كما أعيها على الأقل- قصة تأرجح -ما دمت تتحدثين عن حبل- تأرجح بين الأشكال الفنّية: الشعرية، المسرح، المشهد السينمائي، تأرجح بين التقنيات السردية، بين القسوة واللين، بين التراجيديا والسخرية المرة، بين البطولة ونقيضها، بين الأمكنة، بين الأزمنة، يحدث هذا ضمن محاولة تطوير أدوات للإمساك بعمومية المجزرة، وتمثيل فواجعها، والتغلب على استعصائها كحالة تهشيم لنظام الحياة بما فيها من موت، وبالتالي تهشيم لأداء الحواس وقدرتها على تلقي التهشيم، ومن ثم هيئة السرد ولغته. ثم هناك تأرجح بين الغرائبي والواقعي يكبّر مع فقدان الثقة بالحواس بعد خراب الهندسة: الذبابة أكثر شيء موجود في حياة الحورية لكن وجود الذبابة موضع شك. جثة العجوز هي الأكثر حضوراً في حياة “الرجل الدائري” لكن اثنين من رجال الشرطة يقولون: إنه لا وجود لرائحة أصلاً. وعازفة الكمان شبحيتها أكثر حضوراً من الحضور ذاته.
لم يرهقني التنقل، فهذه إستراتيجيتي عموماً في الكتابة، استدراج القارئ، المهم أن يتبعني إلى المحطة التالية، يتم هذا بتخطيط، وبرشاوى، وبلا حبكة بالمعنى التقليدي، إنما عبر ما أسميه في سرّي “الحبكة/ السراب”؛ مُغريات سرعان ما تكتشف كقارئ أنها ليست الموضوع، وأنها ليست مهمة تماماً، ويحدث أن أتناساها إذا شعرت أنها أدت غرضها، ويحدث أن يلعنني القارئ، أعرف ذلك، لكنه لا يلغي العقد بيني وبينه، ولا يلقي بالرواية جانباً، وفي النهاية ينظر إلى الخلف ويقول: يااااه لقد قطعت كل هذا الطريق، حتى لو لم تعجبه أشياء كثيرة فيها. رحلة القارئ هي الرواية وليست مضامينها، ولتكن الرحلة عابرة للأزمنة وللأمكنة، لم لا؟
طبعاً أعتقد أن هذا التقافز لصالح العمل، فالفواصل بين الأزمنة -فلسفياً- مجرد وهم، الأزمنة متجاورة وإن تباعدت، نحن وأمكنتنا قِطع على خط الزمن، ونتوهم أن الزمن هو المقطّع.
وعن الزمن السياسي، لا يمكن الحديث عن أيلول 2001 دون الحديث عن أيلول 82، ولا الحديث عن 82 دون الـ 48، وقبلها 1917، وبعده الانتداب، ولا يمكن الحديث عن ديموغرافيا لبنان بمغزل عن ديموغرافيا فلسطين، ولا عن ديموغرافيا فلسطين بلا الهولوكوست. الزمن الكولونيالي واحد.
تعمدت تكرار بعض الثيمات الجملية على امتداد الرواية وكأنك تحاول من خلالها إيصال رسالة ما إلى القارئ، مثل “لقد خبرت هذا جيداً” لم كان كل هذا الإصرار؟
نعم أنا أحب الثيمات، الثيمات البصرية والصوتية، وأيضاً المقولات المتكررة بحساب، لأنها تشدّ العمل إلى بنية واحدة، شرط ألا ترهقه، وهي قد تخفف من ضرورة الاعتماد على الحبكة بمعناها التقليدي.
بشأن ثيمة “خبرت ذلك جيداً” راهنت أن تثري التأرجح بين البساطة والقسوة وتكشف بداهة الحصول على الفجيعة لطفلة؛ وتؤثث لفكرة أساسية في العمل مفادها أن خبرة المجزرة لا تشبه السماع عنها أو محاولة كتابتها، فلا أحد “يعرف” مثل الضحية ولا يمكن لأحد أن يعرف مثلها، ثم إنها تأكيد على القسوة، فالأصل أن تَخبُر طفلة في السابعة أشياء أخرى غير سلوك ذباب الموت وسيرة الروائح وتقنيات القتل وتكتيكات النجاة.
من الواضح أن هذه الرواية تحمل مجازفات مختلفة، بدءاً من العنوان ومروراً بلعبة المسرح، وانتهاء بتضمين جزء من مخطوط فوينيتش القديم، ربما كان بالإمكان الاستغناء عنه، هل ترى الآن أن خيارك بالمجازفة هنا كان في محله؟
وأضيف لك أيضاً مغامرة الابتعاد عن اعتمادي السرد البارد في رواياتي الثلاث السابقة، إلى سرد لا يتحرج من رفع الحرارة عندما يقتضي الأمر.
لست نادماً على المجازفة، وإن كانت المجازفة ليست هدفاً بحدّ ذاتها، مجازفتي محسوبة في جزء منها، واقترح الموضوع جزأها الآخر مع تطوّر التناول؛ المجزرة أياً كان اسمها أو موقعها، تجربة فوق طاقة اللغة، وفوق طاقة الأشكال الأدبية، وفوق طاقة التقنيات السردية، ربما لذلك اختارت الرواية شكلها على هذا النحو.
أنا راضٍ عن التلقي إلى الآن، ليس لأن المتلقي يصل إلى ما أردت قوله، إنما لأنه يقول أشياء نظرية وجمالية كثيرة لم أكن أعي الكثير منها، وتتم مقاربتها بإحالات لا أعرفها فعلاً. أحياناً أذهب لقراءة مواد تعينني على فهم كثير من المداخلات تشير إلى أسماء أعمال أو كتاب أو مخرجين سينمائيين أو مسرحيين، لا أعرفهم، هذا مهم لأنه يعني أن العمل مفتوح على طبقات من التأويلات، يعني أن فضاءاته مفتوحة للتحليق عالياً، وأنه مشدود إلى منجزات إنسانية مؤثرة وجادة.
طبعاً هناك بالمقابل أصدقاء همسوا في أذني، أو كتبوا بأناقة، أنني خيبت أملهم، وهذا متوقع، فالعقد بيني وبين القراء الذين يعرفونني هو عقد بينهم وبين أعمالي السابقة بعوالمها، وها أنا أذهب إلى عالم آخر لا يشبهني، أو لا يشبه سابقاتي. أقول دائماً: للكاتب ما يريده من كتابته، وللقارئ أن يجد فيها ما يشاء: هذه سُنّة اللغة.
بشأن جزئية مخطوطة فوينيتش، وهي واحدة من أكثر المخطوطات إلغازاً في التاريخ المعاصر، فقد جاء توظيفها كواحدة من لعب السرد الكثيرة. تحتاج رواية تفوح منها روائح الجثث أن تتنفس قليلاً، ولعبة المخطوط تمنحها شيئاً من الهواء، ثم إن هذه الجزئية ضرورية للتدليل على “لا عادية” “الجمل”؛ البطل الكامن في عوالم غامضة، والذي نفذ مهمات بالغة التعقيد، وأوصلتنا اللعبة أيضاً إلى يومياته لنقرأ شهادته عن نفسه بعدّة ضمائر، هناك قراء مرّوا عن هذه الجزئية وكأن لعبة المخطوط كلها شأن خيالي، وهذا جميل إذ يدل أنها ليست عبئاً على الرواية، وهذا ما يهمني، أما الحكم بشأن صوابية الحلّ المقترح، فهو متروك للزمن وللخبراء، وفي العموم، الرواية -أي رواية- هي صفقة تواطؤ متكاملة بين الكاتب والقارئ.
الصوت والرائحة، حضور الجسد بكل تجلياته، اللغة المعتنى بها، من مميزات “بنت من شاتيلا”، غير أن حضورها القوي كان بمثابة رسالة تريد إيصالها، هل توافقني الرأي؟
طبعاً، الجسد عمود هذه الرواية، هو الطبقة العميقة التي يتحرك ما فوقها، فالجسد موضوع المجزرة ومادتها، الإبادة في شاتيلا إبادة جسدية؛ يعني إبادة الإنسان الوحش لأخيه الإنسان، إبادة بدائية حتى في أدواتها؛ الأسلحة البيضاء بما يعنيه ذلك من تماس مقصود مع جسد الضحية. تبدأ الرواية بالأجساد، وتمر بتماس جسد الشاب الملتبس بجسد الحورية على البحيرة عندما يلفهما شال واحد، هناك الأجساد المنتفخة، وجسد الجثة العجوز الجالسة على كرسي، وهناك الجسد النقيض المصقول، جسد عازفة الكمان، حيث “يتبخر النعاس مع أول إشراقة لنهدين يقظين يبللهما الندى”.
وهناك تعمق في الاغتصاب كأحد تجليات العلاقة الإكراهية مع الجسد، والاستعارة الطقوسية للجسد في ذروة توحشها، عندما يطلب القاتل من الضحية أن ترقص.
سوف تعلمني الرواية أن القتل الجماعي له تقنيات متشابهة إلى حدّ كبير، في أبحاثي ظهرت دائماً آليات تجميع متشابهة، مسيرات جماعية نحو مذبح، هناك دائماً جدران موت، وهناك قتلة يطلبون من ضحاياهم إدارة الظهور ورفع الأيدي؛ هذه هندسة موت متكررة، هندسة مقصدها الأجساد، وحتى تقنيات الدفاع عند الضحايا على الجدران متكررة: السقوط متظاهراً أنك مصاب، نجاة قِصار القامة لأنهم دون مدى “الرش”.
ثم، المعضلة البيولوجية، معضلة الجسد، عندما يبزغ جسد جديد من جسد أم مغتصبة، “سيدة الحناء” فقدت معظم عائلتها على يد القاتل، ثم ترى ملامح الأب في وجه جنين تعمدت إجهاضه، فساعدت مولودها على الموت، يدفعها إلى ذلك الحبّ! هي أجهضته لأسبابها، لكنني أنا ككاتب نسيت أن أدفنه بلا سبب واضح؛ في مرحلة من مراحل الكتابة مرت في ذهني فكرة أن أدفنه، أو أترك “الخالة” تدفنه في مقبرة الشهداء، لكن الرواية كانت في المطبعة عندما تذكرت ذلك، وبقيت الجثة معلقة في فضاء الكون. أنا لا أمزح. أحس بالحزن كلما تذكرت أنني نسيت دفنه. أعرف أن بعضه من طينة القاتل المغتصب، لكن مكانه الحقيقي على الرغم من ذلك في مقبرة الشهداء، في المقبرة الجماعية على طرف المخيم تحديداً.
أوليت اهتماماً واضحاً للمسرح تحدثنا عنه سابقاً، هل كان الدافع هو الحمولة التراجيدية للمسرح وتاريخه والتي قد تكون الصورة الأبلغ لتوصيف حالة تراجيديا المذبحة، وبالتالي قصة الرواية؟
بشأن جزئية المسرح، هناك تساؤلات كان أول من أطلقها الصديق الروائي أنور حامد، على حسابه على “فيسبوك”، إذا حذفنا إشارة السؤال سنحصل على الجواب: “تكثيف المدلول التراجيدي لما حصل؟ إسقاط الشكل على المضمون؟ هل هي حيلة للخروج من عباءة السرد والتعلق بأستار المسرح للاقتراب من جوهر التراجيديا الأول ومقاربته بالتراجيديا موضوع الرواية؟”
هذه رواية موضوعها التراجيديا؛ الكثير من القتل المادي والمجازي: قتل المخيم، قتل الأب، قتل الابن، قتل البنت، قتل الأخ. المسرح عموماً كان خيار “الحورية”، هي التي دفعت به إليّ، ولست من دفع بها إليه، لقد كتبت المشهد الافتتاحي بعدما تعرفت إليها جيداً -كشخصية داخل النص أقصد- كتبت هذا المشهد بعد كتابة أكثر من نصف الرواية، الخشبة التي في الرواية منصوبة بمخيلة الحورية، والمقطعان المسرحيان الافتتاحي، والافتتاحي/الختامي، يحدثان في حلمها، تصعد هي إلى الخشبة، وتصعد المُغتصبة، وينفتح المسرح على 4 آلاف رواية/ شهادة ممكنة، أما اللغة المهشمة الملاحقة بالكوابيس، فربما يرممها جزئياً الحلم.