1
تُثير الدورة الثانية لـ”مهرجان إيليا للأفلام القصيرة”، التي تُقام بين 12 و16 سبتمبر/ أيلول 2019 في 7 فضاءات مختلفة في المدينة الفلسطينية القدس، اهتمامًا نقديًا بمسألتين اثنتين: واقع الفيلم القصير في العالم العربي، والحضور المتنوّع والمهمّ للسينما الفلسطينية الحديثة، عبر إنتاج الفيلم القصير أيضًا. ذلك أنّ صناعة هذا النوع السينمائي في العالم تزداد أهمية وجماليات واشتغالات بديعة، خصوصًا مع التطوّرات التقنية، وبراعة التحريك في بلورة النصّ السينمائيّ، وصوغ حكاياته وتفاصيله وهوامشه ومساراته؛ وفي الوقت نفسه تنكشف السينما الفلسطينية حديثة الإنتاج، أقلّه في الأعوام القليلة الفائتة، عن حِرفية تمزج التقني بالدرامي والسردي، وتبلغ مراتب أولى في المشهد السينمائي الدولي.
ورغم أهميّة فنّ التحريك في صناعة السينما في العالم، بأشكالها المختلفة؛ ومع أنّ السينما العربية مُنتجة له في أفلامٍ روائية عديدة، أو مستندة إليه في إنجاز أفلام وثائقيّة تمزج التوثيق بالسرد المتخيّل للحكايات والحالات، فيُضفي التحريك عليها جماليات وحِرفية؛ إلاّ أنّ الأفلام القصيرة الفلسطينية، المُشاركة في الدورة الثانية لـ”مهرجان إيليا”، خاليةٌ من هذا الفنّ، لأسبابٍ عديدة، لعلّ أبرزها كامنٌ في كلفتها المادية الكبيرة، وفي حاجتها إلى أجهزة تقنية حديثة، أو ربما لانتفاء حاجتها الدرامية والسردية، أو لأنّ مخرجيها غير مهتمّين بإدخاله في نتاجاتهم تلك.
2
لن يكون عابرًا فوز “أمبيانس” (2019) لوسام الجعفري بالجائزة الثالثة (مناصفة مع Duszyczka للبولونية بارْبارا روبتيك) في مسابقة الأفلام القصيرة، في الدورة الـ72 (14 ـ 25 مايو/ أيار 2019) لمهرجان “كانّ” السينمائي الدولي. هذه محطة أساسية في المسار التاريخي والصناعي والإبداعي للسينما الفلسطينية، في إطار الفيلم القصير. في حين أنّ “مهرجان إيليا للأفلام القصيرة”، المنفتح على إنتاجات مختلفة الهويات والجنسيات والأساليب، قادرٌ على تقديم نماذج إضافية من آليات الاشتغال السينمائي الفلسطيني في مجال الفيلم القصير.
استعادة اسم وسام الجعفري، وفوزه في مهرجان “كانّ” السينمائي، نابعان من مسألتين اثنتين: أولى مرتبطة بكون “كلية دار الكلمة الجامعية للفنون والثقافة”، منتجة “أمبيانس“، حاضرة في “مهرجان إيليا”، بفيلمين اثنين، هما “منطقة ج” لصلاح أبو نعمة و”هو وأنا” لإبراهيم حنضل؛ وثانية لأن الجعفري نفسه سيكون أحد المُساهمين في صناعة هذين الفيلمين. كأنّ “كلية دار الكلمة” تؤكّد حرصًا على تفعيل العمل السينمائي الطلابي والشبابيّ، فتتعاون مع الجعفري، كما مع سينمائيين محترفين (سائد أنضوني وسهى عرّاف ومؤيد عليّان، وغيرهم)، يُشاركون في تخريج طلبة يريدون أن يكونوا سينمائيين.
لكن الكلام على “كلية دار الكلمة” لن يحول دون التنبّه إلى اشتغالاتٍ أخرى، تعكس حِرفية عاملين في صناعة صورة سينمائية فلسطينية، بعضها مُنتج من جهات بريطانية، كـ”المدن الغريبة المألوفة” لسعيد تاجي فاروقي، إنتاج مشترك بين Creative England وBFI وThe National Lottery، بالتعاون مع “الصندوق العربي للثقافة والفنون (آفاق)”. صورة سينمائية فلسطينية منبثقة من أحوالٍ راهنة، يرتبط بعضها بالصراع الدائم مع الاحتلال الإسرائيلي، بعيدًا عن كليشيهات وانتصارات وخطابية فجّة، غالبًا؛ ويتناول بعضها الآخر حالات فردية بحتة، تعكس وجعًا بسبب فراق، وألمًا بسبب ضياعٍ وتوهان في منفى أوروبي، مثلاً.
أفلامٌ فلسطينية، مُشاركة في المهرجان، تتناول أحوال المُقيمين في الاحتلال، وكيفية مواجهتهم إياه رغم القلق والخوف والارتباك، لكنها (الأفلام) تبتعد عن شعارات المواجهة وخطابية التحدّي، لانغماسها في رسم ملامح تلك المقاومة عبر اشتغالاتٍ يومية لأفرادها. بينما هموم الأفراد وانكساراتهم وخيباتهم ومواجعهم، المتأتية من انفصال أو موت أو تمزّق ذاتي، فتعثر في أفلامٍ أخرى على مساحات سينمائية لها، مشغولة (المساحات) بحساسية تجتهد لقول بعض المعاناة والاضطراب.
3
إذًا، هناك ميزات عديدة تسم الأفلام القصيرة الفلسطينية تلك:
أولاً، ابتعادها البصري عن كلّ خطابية ومباشرة، باستثناء “3 دقائق تحذير” (إنتاج Dynamiq Films) لإقبال محمد، الذي يقع ـ في ختام مساره الدرامي ـ في تلك الخطابية والمباشرة، بإطلاق صرخة، يُراد لها أن تكون مدويّة، في حبّ فلسطين. بالإضافة إلى نشر ما بثّته وكالة “رويترز” عام 2014 من تقارير صحافية عن “حرب غزّة” حينها، وآثارها السلبيّة، ونتائجها الكارثيّة على الفلسطينيين (2100 شهيد، بينهم 495 طفلاً و253 امرأة). بهذا، يتحوّل الروائي القصير (11 دقيقة) إلى تسجيل لوقائع، بدلاً من الاكتفاء بنصّ بصريّ عن أمٍ مريضة، وعن ابنتها العاجزة عن إنقاذها أثناء تلك الحرب، وهو (النص البصري) عادي ومتواضع في كتابته ومعالجة حكايته وإدارة ممثلتيه (ميمي نالي في دور الأم، وشميم إبراهيم في دور الابنة مريم).
الابتعاد البصريّ متنوّع الأشكال، إذْ يكشف “منطقة ج”، المُنجز ضمن مشروع “أحبّ بيت لحم“، تفاصيل المعاناة اليومية لفلسطينيين يتعرّضون لاعتداء دائم من مستوطنين، في ظلّ الصراع المعروف بين الاحتلال وأبناء البلد، من دون كلامٍ أو بكائيات، بل بسلاسة صورة وندرة قول، ومواجهة تمزج بين السخرية من المستوطن وكيفية ابتكار أنماطٍ شتّى من المقاومة العملية، علمًا أن الخاتمة مفتوحة على إسقاطات، يُتاح للمُشاهد فرصة ابتكارها.
والابتعاد البصري نفسه يتمثّل أيضًا في “الماسورة” (“كولاّج للإنتاج” بالشراكة مع “صندوق الثقافة الفلسطينية”) لسامي زعرور، المتميّز بالتباس سينمائيّ بين سجين وسجّان، في لعبة مرايا مُثيرة للانتباه والمتابعة. فالانتقال بين الزنزانة وخارجها جزءٌ درامي أساسي من التعرّي النفسي والروحي والمعنوي أمام مرآة الذات، عبر طرح أسئلة الاعتقال والحصار داخل مساحة ضيّقة للغاية، والاستماع إلى صوتٍ عبر ماسورة مياه، تنفتح أمام السجين/ السجّان (!) على عوالم خفيّة داخله.
ثانيًا، البحث في تمزّقات تلك الذات الفردية، الناتجة من صدام أو انفصال أو غربة أو توهان أو قلق أو عجز عن فهم لحظة أو راهن.
مثلٌ أول: “هو وأنا” لإبراهيم حنضل. امرأة في مقتبل الشباب (ريهام اسحق) تُكمل يومياتها المعتادة، من دون عيش حِدادها على فراق جورج، الذي يبدو أنّه متوفٍ منذ فترة. بسلاسة وهدوء، يتابع حنضل تفاصيل عيشها وروتينها وطقوسها اليومية، كأنّ شيئًا لم يحدث. أو كأنّ صدمتها وحزنها وانكسارها مبطّنة في جوّانيتها الحميمة، بينما سكينتها الظاهرة والمُخادِعة متأتية من رفضها المثول أمام واقع الغياب، في لعبة سينمائية تُبيّن الحدود الواهية بين القبول والرفض، وبين الحزن وعدم الرضوخ للواقع المؤلم، وبين الألم والتباهي بهدوء (مصطنع)، لا بُدّ أنه مطلوب في لاوعيّ ذاتي.
مثلٌ ثان: “المُراد” لمجد عيد. لعبة المرايا، أو الالتباسات المتشابك بعضها بالبعض الآخر تتحوّل إلى شريط من الصُور والكلام، يوهم متابِعه بما سيكون نقيض الوهم هذا. تبدو الحكاية عادية: صوت شابّة (تعليق صوتيّ لمجد عيد أيضًا) يروي ألمًا جرّاء انفصالٍ عن حبيب، عبر رسالة تسردها الشابّة (من دون أن تظهر على الشاشة أبدًا)، كي تُخبره انفعالاتها ومواجعها وقلقها واضطراباتها وأحوالها. أثناء ذلك، تعكس متتاليات بصرية مسار الشابّ (من دون أن تظهر ملامح وجهها كاملة على الشاشة)، الذي يُفترض بالرسالة أن تكون موجّهة إليه. لكن، هناك ما هو ملتبس، والالتباس تُظهره النهاية، كلعبة مرايا، هنا أيضًا، تضع الطرفين أحدهما أمام الآخر، وتضع كلّ طرف منهما أمام ذاته.
مثلٌ ثالث: “المدن الغريبة المألوفة” لسعيد تاجي فاروقي. حياة المنفى تنكشف كنوع من راحة، وإنْ تتبدّل الأمور لاحقًا، فيظهر شقاؤها وتمزّقاتها وخرابها الداخلي. لوهلة، تبدو الأمور عادية وبسيطة وهادئة، في مقهى يُنشِد فيه شبانٌ نشيدًا ما، والناس مرتاحون. لكن، هناك ما يُبدّل كلّ شيء، مع اتصال هاتفي يتلقّاه أشرف (محمد بكري)، لإخباره بمصيبة تحلّ عليه في بلده، فيبدأ رحلة هذيانٍ تكاد تُطيح به، لكنها تدفعه إلى التأرجح بين غربة وذاكرة بلد، وبين منفى وجرح عميق يذرف ألمًا وتحطّمًا من بلد محتلّ إلى غربة كأنها أقسى من احتلالٍ، وبين هلوساتٍ تدفعه إلى التوهان في خراب روح، كما في أزقّة وشوارع، ووقائع تُعيده إلى بلدٍ مُصاب بلعنة الاحتلال.
4
النماذج الفلسطينية هذه انعكاس لواقع سينمائي يزداد أهمية، ويُنبّه إلى جماليات تُصنع بهدوء وعمق، غالبًا، وتكشف أنّ للفيلم الروائيّ القصير حضورًا وبراعة في اقتناص تفاصيل يومية، يصنع منها صُورًا توثّق وتروي وتبوح.