يصعب على كل فنان أو أديب صاحب ضمير حر ويقظ، أن يتجاهل مأساة الإبادة التركية العثمانية للأرمن (1915)، والتي كانت وستظل جرحًا داميًا في تاريخ الإنسانية، إذ اختفى مليون ونصف المليون أرميني، من منطقة شرق الأناضول، في غضون الفترة ما بين أبريل وحتى أغسطس 1915. وأقول إن الالتفات للمأساة الأرمينية لا ينبني فقط على الجانب الإنساني أو السياسي، لا يقف الأمر عند هذه الحدود، فالقصة الأرمينية الحزينة، تنطوي على إمكانات فنية كبرى وخامات ممتازة لصناعة الأدب، فضاء مكاني موزع على دول كتركيا وأرمينيا ولبنان وسوريا ومصر والعراق والأردن واليونان وروسيا إلخ.. وأيضًا تتوفر على مدة زمنية تبدأ بالإبادات الصغرى في 1894 ثم الفجيعة الكبرى في 1915 وتمتد إلى ما شاء الله من السنوات، وقبل هذا وذاك ثمة حكايات رهيبة وفريدة وباكية حكاها الناجون الأرمن.
كثير من كتّاب العالم، من الأرمن وغير الأرمن، كتبوا نصوصهم في هذه المنطقة الدامية من تاريخ شرقنا الأوسط، مثلاً، اليوناني نيكوس كازنتزاكيس (1883 – 1957) أفرد فصلاً في سيرته الروائية “تقرير إلى غريكو” بعنوان “كريت تواجه تركيا” وكتب نفس المؤلف رواية كاملة عن الصراع بين وطنه كريت – قبل أن تتوحّد مع اليونان – وتركيا العثمانية، بعنوان “الحرية أو الموت” وهناك رواية “الحصن” للألباني إسماعيل كادريه أو إسماعيل قدري (1936) و”الأيام الأربعون لجبل موسى” للنمساوي فرانز فيرفل (1890-1945)، و”يريفان” للفرنسي جيلبيرت سينويه ذي الجذور المصرية (1947)..
ومؤخرًا، صدرت عن دار “الأهلية” في عمّان، رواية “وردة الأنموروك.. سَنة الأرمن”، للروائي العراقي عواد علي، في 176 صفحة من القطع المتوسط. والتي تحتفي بذكرى الشهداء الأرمن، وواقع الترحيل القسري لأرمن شرق الأناضول في المحافظات الأرمينية الست: فان، أرضروم، معمورة العزيز، بطليس، ديار بكر، سيفاس. واقتلاعهم من ديارهم في مسيرتين واحد قاصدة الموصل في العراق، والأخرى اتجهت إلى سوريا، وتحديدًا إلى حلب.
استبق الروائي نصَه باقتباس من أغنية أرمنية شعبية حزينة عن الإبادة، جاء فيها:
“أين كنتَ يا الله
لما شعبنا بأكمله نُبِذ
حتى فقد عقله وجُن جنونه؟
أين كنتَ يا الله
لمَ الألم الذي لا يطاق
جعلنا نتضرع: آمين؟
أين كنتَ يا الله
لمَ عيون العدالة أُغلِقت وصارت عمياء؟”
على الرغم من وفرة المادة التاريخية عن واقعة الإبادة العرقية في حق الأرمن، وسهولة الوصول لتلك المعلومات سواء عن طريق شبكة الإنترنت أو التجمعات الأرمينية البارزة في عدة دول عربية كالعراق ولبنان ومصر وسوريا وفلسطين، إلا أن عوّاد اختار أن يبتعد عن جفاف المعلومة التاريخية المدبّجة كحقائق دامغة، واختار أن ينسجها عبر حكاية، وأن يخلق بداخلها حياة وأبطالًا وطموحات وعقبات، وإمعانًا في الهروب من هذا الشكل المعلوماتي، الذي يتحرّى التاريخ وتسلسله تصاعديًا، فقد لجأ عوّاد إلى حيلة ذكية، وعمد إلى تكسير خط الزمن، إذ تبدأ الرواية بزيارة المعمّرة الأرمينية لوسين إلى المتحف الملحق بكنيسة الشهداء الأرمن في دير الزور، والتي جرى افتتاحها في 1991، ومن ذلك المنطلق، يقفز بنا الروائي إلى أزمنة الإبادة التي حدثت خلال فترة الحرب العالمية الأولى.
وهكذا، لم تأتِ المعلومة التاريخية، على شكل بطاقات تعريفية مقحمة على الحكاية، وإنما منسوجة نسجًا في روح الحكاية، وعلى ألسنة أبطالها كما يرد مثلًا في مذكرات لوسين عن حوار دار بينها وبين كاهن إحدى الكنائس في بلدة تلكيف بمدينة نينوى في العراق: “حدّثني الكاهن الموسوعي على انفراد عن بلدة تلكيف قائلًا: معناها باللغة الآرامية (تل كيبا( أي تل الحجارة، وكانت من أكبر القرى المسيحية منذ القرن السادس عشر. كنيستنا قلب يسوع الأقدس من أهم معالمها، شُيّدت على أنقاض كنيسة قديمة وصغيرة تدعى كنيسة مار قرياقوس الشهيد، قبل خمسة عشر عامًا. ومنذ مطلع القرن قامت الكنيسة بتعليم اللغة الكلدانية واللغة العربية ومبادئ الحساب وأصول الدين، حتى فُتحت عام 1919 أول مدرسة حكومية رسمية. لا أدري إن كانت سالي قد أخبرتك بأن أغلب سكان البلدة من الكلدان، يليهم الآثوريون والعرب والإيزيديون”.
تحكي لوسين، عبر مذكراتها، سنوات النفي، والشتات، واليتم والفقد، واضطرارها – مثل غالبية الأرمن – إلى أن تبدأ من جديد، من الصفر، في بلدة أخرى غير تلك التي نشأت فيها. وتعرض عبر مذكراتها صورًا بشعة وأليمة لقسوة الإنسان، واستبداد تركيا العثمانية بالطائفة الأرمينية، للدرجة التي اضطر معها البولندي رفاييل ليمكن (1900 – 1959)، مؤسس مصطلح “الإبادة العرقية”، إلى اعتماد الحالة الأرمينية كمثال رئيسي عن ذلك التعريف أو المصطلح.
في مسيرات الموت، في اليوم الأول منها، سقطت أم لوسين ميتة، اختارت أن تتجنب العذاب ورحلت مبكرًا، ومن قسوة الجندرمة العثمانية أنهم كانوا يجبرون أهالي موتى المسيرات على ترك جثث أحبائهم نهبًا للحيوانات والضواري. وبعدها بيوم أو اثنين انهال دركي آخر على رأس أخيها آرام بهراوة فقتله، ثم طلقة أخرى في رأس أبيها، قبل أن ترى بعينيها مساومة بين العصابات العثمانية أو الكردية غير النظامية، لقائد الجندرمة العثمانية، بغية شراء “زاروهي” الشقيقة الصغرى للوسين، قبل أن يقوم أحد هؤلاء الجنود بإلقاء لوسين عن أحد الجسور قرب مدينة “البيرة” في فلسطين. وقبل أن ينقذها الصيادون.
تتخلل تلك المذكرات، فصول بألسنة رواة آخرين، مثل “مريم” الصديقة المقربة للوسين والتي افترقت عنها أثناء مسيرة الترحيل ولم تلتق بها إلا بعد سنوات صدفة في كركوك. وثمة أيضًا، فصول أخرى قصيرة، عبارة عن حواشي، كتبها أرمين، زوج لوسين، وهو أرميني بالمثل ومبعد عن بلدته أروهاي.
ترسم المذكرات والفصول المروية بلسان مريم أو حواشي آرمين، صورة للمجتمع في منطقة الجزيرة الفراتية وشمالًا مرورًا بالأناضول وملامسة للحواف الجنوبية من القوقاز، أتراك وعرب وكرد وأرمن وكلدان، مسلمون ومسيحيون ويهود وصائبة وأزيديون.
وتعرض الرواية أيضًا نموذجًا لمحاولات الأرمن المبعدين لمواصلة حياتهم، وكيفية تكوين مجتمعاتهم الجديدة، واختيارهم السكن في أحياء متقاربة، ثم عملية “توفيق رأسين في الحلال” كما نقول، أي الكيفية التي يدبر بها الأصدقاء المبتورين عن أهلهم وأسرهم، المواعيد، الملفقة، التي تسمح بالتقاء شاب وفتاة من المبعدين، والتي قد تقود إلى الزواج وتكوين أسرة أرمينية جديدة في الدياسبورا.
مرر علي في بعض المواضع، وعبر شخصيات ثانوية، وجهات نظر إزاء بعض القضايا الكبرى، كالأديان مثلاً، وسطوة رجال الدين، عبر النقاشات الممتعة التي كانت تدور بين المبعدين الأرمن، وتحديدًا والد لوسين، وهاغوب، الأرميني الذي لم يشأ أن يرمي بهمومه إلى الله، والذي لم يحب تقديس الأرمن للقساوسة أو تقديس رجال الدين عمومًا الذين كانوا محض تجار من وجهة نظره.
“وردة الأنموروك.. سنة الأرمن” رواية تاريخ بامتياز، إلا أنه تاريخ مصاغ روائيًا، ومغزول بمجموعة من الحكايات، التي تخلّد الشهداء الأرمن، وتؤكد مجددًا على الحقوق التاريخية للشعب الأرميني، وأيضًا، على قابلية وصلاحية الإبادة الأرمنية لتتحول إلى عمل أدبي رفيع.