بعد أغنية “مستنياك” لعزيزة جلال مباشرةً، يقترح علينا الفيلم مقتطفات من الخطاب الأول لياسر عرفات عام 1974، في اجتماع منظمة الأمم المتحدة في نيويورك. في الخطاب يؤكد عرفات على ضرورة قيام الدولة الفلسطينية التي ستضم بين مواطنيها اليهود والمسيحيين والمسلمين. بعدها نتابع تقريراً صحفياً من التلفزيون الفرنسي يعرض الصراع القائم بين ياسر عرفات وبين تيار رافض لسياساته في قيادات فصيله (فتح). هذا التيار المعارض قاده حسن صبري البنا المعروف بـ “أبو نضال”، مجموعة من عمليات الاغتيال يعرضها التقرير الصحفي لأشخاص فاعلين في النضال الفلسطيني، لكن كل منهم يتهم الآخر بالعمالة لإسرائيل والانحراف عن طريق النضال الصحيح بحسب رأي كل منهم. هذا الإطار السياسي هام في فهم تفاصيل فقدان العديد من المناضلين الفلسطينيين، والعديد من حالات الإختفاء القسري فيما بينهم.
هل إبراهيم العبد الذي يحمل الفيلم اسمه كعنوان هو أحد الضحايا في عمليات التصفيات الفلسطينية المتبادلة تلك؟ هل يُعثر على رفاته بين جثث المقابر الجماعية التي بدأت تتكشف بعد سنوات عن عمليات التصفية تلك؟ أم هو مجرد أب عائلة قرر ترك عائلته والعيش وحيداً في عزلة؟ أم أنه أصيب بفقدان ذاكرة كلي وُجد بعدها على شط البحر أو في منطقة جديدة ليكمل حياته بلا ماض ويبدأ حياة لا تتعلق بالماضي؟ أم أنه محكوم في السجون السورية؟ كل هذه احتمالات تتداول فيها عائلة إبراهيم العبد، من أخوته إلى زوجته إلى أولاده الخمسة، التي تصنع عنهم المخرجة لينا العبد فيلماً بعنوان «إبراهيم… لأجل غير مسمى»، عُرض الشهر الماضي في مهرجان تورنتو السينمائي، عن فئة الأفلام الوثائقية، ويُعرض اليوم ضمن مهرجان “أيام فلسطين السينمائية”.
ينشأ الفيلم على عدة مستويات: هناك مستوى حكاية البحث عن الأب المفقود، الغائب، والمستوى الآخر هو علاقة اختفاء هذه الشخصية بالحدث السياسي المرتبط بالقضية الفلسطينية والنضال الفلسطيني، وهناك المستوى المتعلق بأثر اختفاء هذه الشخصية على أفراد العائلة من أبنائه وبناته وزوجته وأخوته، والمستوى الأخير هو مستوى المونولوجات الذاتية لصانعة الفيلم -إبنة إبراهيم- لينا.
غياب الأب موضوعة محظورة
“كنت أصغر من أن أتذكر وجودك، لأنتبه على غيابك، أول شي كان ممنوع نحكي فيه، إجابة واحدة لاختفائك علمتنا اياها ماما، بابا تاجر ومسافر، فأنكر غيابك، وحاجتي للتعامل مع هذا الغياب”، هذا ما ترويه صانعة الفيلم بصوتها عن غياب الوالد، وحين تحاول المخرجة تصوير بعض مشاهد الفيلم مع والدتها في لقاء يجمعهما في بيروت، نتلمس أن الأم لا تفضل أن يصنع فيلماً عن هذا الموضوع. من هنا تظهر واحدة من حساسيات الفيلم، وهي التعامل مع أفراد عائلة في حالة من التجاوز والتكتم على قضية اختفاء والدهم، أصبح اختفاؤه حدثاً واقعاً في الماضي البعيد، بالإضافة إلى كونه موضوعاً لا يسهل الحديث عنها لاعتبارات سياسية واعتبارات عائلية.
رغم هذا الحظر والتابو، تصر صانعة الفيلم على أن تسأل أفراد عائلتها عن غياب أبيهم، تعرفت الأم على الأب في الإسكندرية، كان ذلك منذ 53 سنة في محطة قطار الإسكندرية، ترحل كاميرا الفيلم إلى المدينة المصرية البحرية بحثاً عن العمارة 21 التي قطنتها العائلة في الماضي، رحلة من نوع التعرف على الأماكن الأولى التي جمعت أمها وأبيها في حكاية حب من ثم زواج. تم الانتقال بعدها إلى الشام، وبعد إنجاب خمسة أولاد، اختفى إبراهيم، خرج ولم يعد. تبين الأم أن السنوات الخمس الأولى كانت في حالة انتظار، خلال خمسة سنوات تأملت عودته، ومن بعد أصبح مصير الأولاد الخمسة مرتبطاً بشجاعتها، والتزامها بالعمل، تقول الأم: “في البداية، كان الخوف، وكنت أجبر جميع الأطفال بما فيهم أنا على النوم في غرفة واحدة”، ثم ركزت الأم على العمل، كانت تعمل 12 ساعة في اليوم لتعيل أطفالها.
التصالح مع الغياب
“التصالح مع غيابك غير حقيقي، الحل هو أن أطاردك بدلاً من أن أترك لغيابك أن يطاردني”، بعد هذه العبارات ينتقل بنا الفيلم إلى القاهرة، ترغب المخرجة بتصوير مشاهد من الفيلم مع أختها هناك، تسألها: هل تجاوزت قصة غياب إبراهيم؟ تجيب الأخت نجوى: نعم، وذلك عن طريق التعامل مع الواقع، بالشغل وبالحياة العملية واليومية، لقد صرت أكره السياسية والسياسيين، كل ما يرتبط بالقضية، بالمبدأ، بالعقيدة، صارت كلمات لا قيمة لها، هذا كان أثر غياب الوالد عليّ، يمكن أن تصبح الأحكام العائلية قاسية عند النقاش عن مناضل سياسي تعتبره أسرته وقد خُدع في نضاله، تقول الإبنة: شعرت في البداية بأنه غبي، ثم انتابني شعور بالغضب. بينما تقول الإبنة الثانية: أنا كرهت السياسة والانتماءات والأحزاب. انضحك علينا، أقصد علينا كلنا كشعب. منذ العام 1984 وهم يقولون عشر سنوات وتتحرر فلسطين، ولم يحدث هذا حتى الآن. ومن المدن الأخرى التي ينتقل إليها الفيلم، عمان-الأردن، هناك عائلة إبرهيم من الأخوة والأخوات، معهم نتعرف كيف أحيط الحديث عن موضوعة اختفاء إبراهيم بالغموض وبحظر النقاش والحديث عنه.
لحكاية احتفاء إبراهيم مستوى سياسي، هنا تتضارب المعلومات التي تجمعها المخرجة، يقول المسؤول المالي لتنظيم أبو نضال إن إبرهيم كان في ليبيا ثم انتقل إلى الشام. احتمال آخر يظهر في العام 2004 حين تكتشف مقبرة جماعية يعتقد أنها للتنظيم ذاته، تكتشف في منطقة البقاع في لبنان، في قرية الروضة حيث كان معسكر ومعتقل للتنظيم، تعتقد المخرجة أن والدها من بين الجثث التي عثر عليها هناك، فتزور المقبرة التي تحولت الآن إلى حقل من أعشاب الأحراش. معلومات أخرى تقول إن التنظيم تخلص من كل المسجونين لديه بقتلهم حين تعرض معسكرهم لغارات من الطيران الإسرائيلي واضطروا للهروب. آخرون يقولون إن إبراهيم ترك التنظيم حين زادت ممارساته العنفية والإجرامية عن الحد القادر على تقبله، وعلى إثر ذلك تمت تصفيته. هكذا يتداخل الفردي في حكاية إبرهيم، بكامل الحدث السياسي الذي كان سائداً في تلك الفترة. تخاطب المخرجة في أحد مونولوجاتها في الفيلم والدها الغائب: يبدو فات الأوان، أكثر من 30 سنة على غيابك، لا وجود لجواب حاسم، ما فيني أمسك الماضي بأيدي، الأهم أني حاول أفهم كيف أخدت خياراتك.
منذ 18 عاماً، قرأت صانعة الفيلم عن والدها في كتاب لباتريك سيل بعنوان “أبو نضال بندقية للإيجار”: إبرهيم العبد، أدار شركة تجارية مقرها زيوريخ -سويسرا العام 1987، ألقي القبض عليه واتهم بأنه عميل للمخابرات الأمريكية والموساد. كانت هذه المعلومة الأولى التي حصلت عليها المخرجة عن أبيها، وها هو الفيلم ينتقل بنا إلى ألمانيا، هناك تقابل المخرجة شقيقها إياد لمتابعة خيط القصة من هذا المنحى. لقد عثر الإبن إياد على وثائق تتعلق بالحساب البنكي الذي كان يديره والده في زيوريخ، وحين التقى بإدارة البنك، أكدوا له وجود هذا الحساب في الماضي، لكنهم تحفظوا عن إعطاء أية معلومات تتعلق بمصير صاحبه.
يتمنى الإبن، إياد، لو أن أباه، إبرهيم، قد عُثر عليه فاقد الذاكرة في مكان ما على شاطئ البحر، فتجمعها الصدفة من جديد، هي أمنيات ابن بألا يكون أبوه ميتاً أو مقتولاً. إياد هو الإبن هو الوحيد من الأبناء الذي ما يزال يذكر تفاصيل من الحياة العائلية في حضور الأب قبل غيابه: من الطفولة، ما زلت أتذكر مدى الحزن الذي كان يصيبني لما يسافر، ومدى السعادة التي أشعرها لما يرجع. الآن، ومنذ أن تصافح ياسر عرفات واسحاق رابين، يشعر إياد بأن حياة والده دفعت مجاناً، ومع ذلك ما زال يعيش على قناعة، بأن والده إبرهيم مهما أخطأ بأسلوب نضاله السياسي وخياراته، فإن حكاية اختفائه هي قصة مسيرة بطل تلك التي عاشها والده، ودفع ثمنها في نهاية المطاف، الإبن يحاول ما أمكنه أن يدافع عن هذه الطريقة برؤية الحكاية ورويها.
أثر الغياب النفسي والعاطفي
ما الفارق بين حضور الأب إبرهيم أو غيابه؟ واحدة من الأسئلة العميقة التي تحاول صانعة الفيلم أن تطرحها على نفسها وعلى من حولها من أفراد العائلة: ما الذي يتغير لو أن إبراهيم كان موجوداً بيننا الآن؟ هل أشبهه، هل أشبه والدي؟ هل كنا سنتفق معاً لو كان والدي ما يزال موجوداً ؟ كيف كانت ستكون حياتنا الحالية لو أن إبرهيم ما يزال بيننا ؟ هذه الأسئلة التي تلامس المستوى النفسي والعاطفي والحياتي لغياب الوالد أو حضوره، تكررها صانعة الفيلم في كل مرة تقابل فيها عدسة الكاميرا شخصية جديدة من شخصيات الفيلم التي تُروى عبرهم تفاصيل الحكاية، حكاية العائلة التي لا تملك جواباً حاسماً عن غياب إبرهيم، موته، أو استمراره بالوجود والحياة.
في تتبعها لحكاية والدها تنتقل صانعة الفيلم إلى قرية دير مشعل في فلسطين، المكان الذي شهد ولادة إبراهيم، وحيث مقبرة عائلته الأولى، تتجول الكاميرا بين قبور الأعمام والعمات، لكن لا قبر لإبرهيم هناك طبعاً، كأن الفيلم يكشف لنا بأن مصير المختفي أو المفقود يمتد أيضاً إلى مقبرة العائلة، حيث لا رفات أو جثمان لإبراهيم بين جثث أفراد عائلته من الموتى.
في المونولوجات الذاتية للمخرجة، والتي تتخلل الفيلم بين الحين والآخر مقروءة بصوتها، تتساءل لينا العبد: شو هي هالفلسطين يلي كتار بدّن يموتو كرمالها؟ كيف قدرت فلسطين تختزل حكايتنا الشخصية بحكايتها الطويلة يلي ما منعرف كيف مننهيها؟. سؤال جوهري لإبنة فقدت أباها لأجل النضال السياسي لفلسطين، ومازلت متأثرة بتبعات ذلك الغياب، سؤال جوهري يتلمس كامل النضال حول القضية الفلسطينية. ولكن حين تصل المخرجة إلى قرية دير مشعل في فلسطين تجد الإجابة على هذه الأسئلة: الآن عرفت لماذا الموت لأجل فلسطين؟ لأنها الذكريات، وبدون الذكريات لا يعرف الواحد إن كان عايش أو ميت. هذا على مستوى الوطن فلسطين، أما على مستوى حكاية إبراهيم الفردية، فتقول المخرجة في المونولوجات الأخيرة للفيلم: حقيقة شو صار معك مدفونة بحكاية تنظيم أمني، كل واحد بيخبي حكايتو فيها.
عبر الصور الفوتوغرافية العائلية، عبر الذكريات المشتركة المروية بلسان الشخصيات، عبر المونولوجات الذاتية لصانعة الفيلم، وعبر حكاية وطن مايزال النضال مستمراً لتحقيقه، تحاول المخرجة أن تروي قصة اختفاء والدها، كأن الفيلم يسعى لنسج الذكريات، ليشبع الحاجة لإيجاد ماض، لا يمكن الاستمرار في الحاضر دون الإجابة عن أسئلته. عبر التنقل بين مدن عديدة الشام وبيروت والقاهرة والإسكندرية وعمان وألمانيا وفلسطين، تتناثر تفاصيل هذه الحكاية التي يحاول الفيلم أن يرويها بين البداية والنهاية، بغاية أساسية هي الكشف عن الشحنة العاطفية والمشاعر العائلية الحميمية الملازمة لحكاية اختفاء أب، مناضل، وسياسي.
في المشهد الأخير من الفيلم صورة تجمع كامل أفراد العائلة بلقطة فوتوغرافية واحدة، بينما تسأل صانعة الفيلم كلاً منهم سؤالاً موحداً: أنت أو أنتي، وين بتحس الوطن تبعك؟، فتتعدد الإجابات بين أبناء العائلة الواحدة والأجيال المتعددة، منهم من يجيب في سورية، ومنهم من يجيب في فلسطين، وجميعهم يدركون أن حكاية اختفاء إبرهيم ترسم ملامحها على امتداد المنطقة العربية وعلى امتداد بلدان المهجر، وعلى امتداد تاريخ مستمر منذ العام 1948، وعلى امتداد أحداث سياسية تتجاوزهم، وعلى امتداد مشاعر وآثار نفسية وعاطفية ترسخ عميقاً في بواطن كل منهم ومنهن.