أكثر ما يمكن أن يستفز المرء، المعني بمتابعة ما يحدث في البلدان العربية، والتي اشتعلت فيها الحروب، بعد قيام ثورات الربيع العربي، هو اختصار بعض وسائل الإعلام المرئية لمآسي الناس، أو تأطير قصصهم، أو إعادة رواية قصصهم بما يتماشى مع التوجه السياسي، أو الأيديولوجي لقناة إعلامية ما.
ودائماً ما يصاحب أي تقارير ميدانية مصورة صوت المراسل أو الصحفي، والذي يروي بصوته قصص الناس ومصائرهم. لكن هذه التقارير، تذوب كالملح، في ماء الذاكرة، وإن لم تذب، فهي بالأساس لا يتجاوز التقرير الواحد منها خمس دقائق. وبعد نهاية التقرير، لا القناة التلفزيونية، ولا من أعدّ التقرير، ولا من روى قصة التقرير، سيعرف ما مصير هؤلاء الناس، الذين تم إعداد التقرير عنهم.
أما عندما يجري تناول موضوع ثورة ما، وما تلاها من حروب، من خلال فيلم تسجيلي أو وثائقي، فيختلف الأمر. إذ أن القصة، وأبطالها الحقيقيون، داخل فيلمٍ تسجيلي، خيوطها تتمدد وتتفرع داخل شريط الفيلم. ونادراً ما ينجح مخرج سينمائي في رواية قصة بديلة، أو كاذبة، عن قصة واقعية تجري أمامه. خلافاً لما يحدث أحياناً في الأفلام الروائية. وإن حدثت أي محاولة لقولبة قصص وأحداث، استناداً لإيديولوجية سياسية أو دينية، فلا يمكن أن يمرّ الفيلم، دون أن يتعرض لنقد ما، أو مُساءلة. وأحياناً تكون القصص المتناولة في فيلم ما، عصيةً على القولبة أو التحوير.
من هذا المنطلق، يمكن أن نتحدث هنا عن الفيلم التسجيلي “أرواح صغيرة” (2019) المشارك في مهرجان “أيام فلسطين السينمائية”. فالفيلم يتناول موضوعة اللاجئين السوريين في مخيم الزعتري في الأردن، هذا المخيم الذي تناوله الإعلام المرئي والمكتوب بكثرة، في تقارير إخبارية، كلما جرت مصيبة جديدة، من غرق خيام تحت الأمطار الغزيرة، أو اقتلاع بعضها إثر حدوث عواصف شديدة، أو بتجمد النازحين فيها، أثناء تساقط الثلوج.
لكن مخرجة الفيلم الأردنية من أصل فلسطيني دينا ناصر، تدخل المخيم، لتتبع حكاية عائلة سورية من درعا، مرّ على وجودها في المخيم قرابة أربعة أشهر، في عام 2012. وعلى وجه التحديد، حكاية أصغر أفراد العائلة، مروة، 11 عاماً، وآية، 9 أعوام، ومحمود 5 أعوام. لتضعنا المخرجة أمام حكاية سورية، يرويها الأطفال بصوتهم. والحكاية هنا، لن تنتهي، برواية الماضي القريب، أي ما حدث لهؤلاء الأطفال، حتى وجدوا أنفسهم فجأة، نازحين، خارج بلدهم، ويعيشون حياة قاسية، داخل خيمة ” اليونيسيف”.
تبدأ الحكاية على لسان مروة، إذ تحكي للكاميرا كيف خرجت مع عائلتها من درعا، وتقول للمخرجة كيف كانت عائلتها متخبطة، وفي حيرة من أمرها، حول قرار خروجهم من درعا. ويلاحظ المشاهد من خلال رواية مروة للحظة خروجهم من درعا، الأثر الذي حُفر داخل ذاكرة الطفلة لتلك اللحظة. تقول، إنهم بكوا طوال الطريق داخل الميكروباص الذي خرجوا به، وكان أخوها الصغير محمود، وعمره الخمسة أعوام، يرتجف من الرعب.
أما الأخت الأصغر سناً آية، ستحكي كيف أتى عناصر من النظام السوري، وأخرجوهم من بيتهم، وأحرقوه أمام أعينهم، بسبب انشقاق أخيهم الكبير سليمان، عن الجيش النظامي.
الطفلة البالغة من العمر تسع سنوات، كانت شاهدة على انتقام عناصر النظام من غرفة أخيها، التي كان يجمع فيها تجهيزات زواجه المرتقب، بعد انتهاء الخدمة الإلزامية. وتروي أمام الكاميرا كيف تم تدمير غرفة أخيها وتمشيطها بالرصاص، قبل إحراق البيت بأكمله.
صُوّر الفليم على مدار أربعة أعوام، وهي المدّة التي مكثت فيها هذه العائلة في المخيم، وكان من ضمنها ستة أشهر، حاولت العائلة فيها الانتقال إلى مدينة عمان، والسكن في بيت يستأجرونه. لكنهم لم يستطيعوا الصمود، أمام غلاء المعيشة، وقلة المدخول المادي. ليعودوا بعد ذلك إلى مخيم الزعتري مرغمين.
ظلت مخرجة الفيلم، تتابع حياة هذه العائلة، ومصيرها. فقد وثّقت أيضًا داخل شريط الفيلم، المعوقات التي كانت تواجهها للحصول على تصريح من الجهات الرسمية للدخول إلى المخيم، في كل مرة تأتي فيها إلى المخيم لمتابعة التصوير.
كما أن الماضي الشخصي للمخرجة، كان يتجسد أمامها، وهي تجول في كاميرتها داخل المخيم، لتتذكر حكايات والدها الفلسطيني عن النزوح والمخيمات والتهجير القسري من فلسطين، لتقول في لقطة بصوتها: ” كل القصص اللي حكالي ياها.. صارت صور.. شفتها بعيوني!” فالحاضر السوري الذي تصوره المخرجة في كاميرتها، ليس سوى الماضي المستمر لمأساة الفلسطينيين.
وفي مقطع آخر تقول المخرجة: “مرة سألت والدي؛ في بالمخيم حرب؟” ليجيبها والدها “في المخيم مافي حرب، ولا سلام، كل يوم في ترقب وفي خوف، ممكن اليوم تكون موجود هون، وبكرا لأ” لتقول المخرجة في نبرة يأس: “هي حياة المخيمات، في حاجة لكل شي، وحاجة لولا شي”. تقول المخرجة المقطع أعلاه، وكاميرتها تتجول في الخيم بعد يوم ماطر أحال أرضها الترابية إلى وحل.
الانتظار الطويل، والترقب، والخوف، هو محور حياة أطفال بات المخيم هو عالمهم الذي فرض عليهم. هم يكبرون، وملامحمهم تتغير، في واقع يزداد قسوة يوماً بعد يوم. مروة التي قدمت إلى المخيم وعمرها 11 عاماً، تبدأ ملامحهما الأنثوية في الظهور، ويبدأ بعض الشباب المراهقين الذين من سنّها بالإعجاب بها. وفي إحدى محادثات مروة مع المخرجة، تقول لها، أنها في حال عادت إلى سوريا، مع من ستتكلم؟ ومع من ستتحدث؟، فهي لا تعرف أحداً هناك، ولم تكوّن في حيّها في مدينة درعا أي صداقات، أما هنا في المخيم، فقد كونت صدقات عديدة، وهناك شاب تحبه ويحبها بالسّر، رغم منعها من الخروج للعب بالشارع، من قبل أمها، وإلباسها الحجاب، بعد أن صارت فتاة مراهقة.
الصراع ما بين العودة إلى سوريا، والحياة التي تشكلت في وعي أطفال كبروا داخل المخيم، يستحوذ على الجزء الأخير في الفيلم، ففي محاولة المخرجة للدخول إلى المخيم، لوداع العائلة بعد أن علمت أنهم وجدوا حلاً للعودة إلى درعا، تتأخر كالعادة الموافقة على طلب التصريح بالدخول للمخيم من قبل الجهات الرسمية. ليبقى مصير العائلة، التي حاولت المخرجة طوال الأربعة أعوام ملاحقته وتوثيقه، مجهولاً.
https://www.youtube.com/watch?v=ysoEVmrUJfU