ارسلت الجمعية اليهودية الاستعمارية Jewish Colonization Association بعثة دراسة ميدانية إلى العراق سنة 1909 لجمع المعلومات والتعرف على البيئة المحلية ورفع تقريرها للجمعية لمواصلة نقاش فكرة إقامة وطن قومي لليهود في بلاد الرافدين. وصلت البعثة إلى العراق ومكثت فيه أكثر من نصف سنة ما بين نوفمبر 1909 ويونيو 1910، وخلال هذه الأشهر الطويلة درست كل ما له علاقة بالعراق من ناحية المصادر الطبيعية والمناخ والزراعة والمياه وخصوبة التربة والسكان وإمكانيات استقبال مئات المهاجرين اليهود من روسيا تحديداً في ذلك الوقت، ثم من سائر البلدان الأوروبية والعالم. المخطط الأولي كان يتضمن ترحيل مائة ألف يهودي من أوكرانيا إلى العراق، يمثلون بداية لمشروع استيطاني كبير يوفر كياناً ليهود أوروبا.
كانت بلاد الرافدين قد أصبحت من وقت مبكر على رأس المناطق والبلدان التي رشحتها الصهيونية باعتبارها جغرافية مفتوحة وتحتوي على عوامل مشجعة لإقامة وطن قومي لليهود. إلى جانب العراق اختبرت الصهيونية عبر بعثات ميدانية أو مفاوضات مع الدول الكبرى والاستعمارية عدة احتمالات أهمها: منطقة العريش في سيناء، الجزء الشرقي من ليبيا، جزء من شرق إفريقيا (عُرف باسم “مقترح أوغندا”)، أجزاء من كندا، أجزاء من أستراليا، قبرص، أجزاء من الأرجنتين، أجزاء من أنغولا، وطبعاً فلسطين. لكن فلسطين لم تكن الخيار الأول في التفكير الصهيوني المبكر الذي طرحه ليون بنسكر المؤسس الحقيقي للفكرة الصهيونية، قبل ثيودور هرتسل، في كتابه “الانعتاق الذاتي” سنة 1882. بنسكر ركز على أن “عبقرية” الشعب اليهودي أهم من الجغرافية التي من الممكن أن يقيم عليها دولته، ولهذا يمكن أن تبقى فلسطين القبلة الروحية لليهود لكن لا تصلح لأن تكون وطناً لهم لأنها تحت سيطرة قوى أخرى. حتى هرتسل نفسه في كتابه “الدولة اليهودية” كان متردداً بين فلسطين والأرجنتين كاحتمالين لإقامة الوطن القومي لليهود فيهما. وقد استمر التشتت والشد والجذب داخل الحركة الصهيونية بين مقترح فلسطين والمقترحات الأخرى لأزيد من عقدين، ولم يُحسم بشكل شبه نهائي إلا مع صدور التصريح الشهير والمشؤوم لوزير الخارجية البريطاني آثر بلفور عام 1917، والذي حدد موقفاً بريطانياً رسمياً مؤيداً لفكرة هجرة اليهود إلى فلسطين ولاحقاً الاستيلاء عليها.
فكرة إقامة وطن قومي لليهود في بلاد الرافدين، أو في Aram Naharaim وهو التعبير التوراتي الذي درج استخدامه آنذاك في المراسلات الصهيونية والنقاشات، برزت لأول مرة في أواخر سنة 1899 خلال لقاء بين السفير الأمريكي في استانبول (أوسكار شتراوس، يهودي الديانة) وثيودور هرتسل. وبقيت تلك الفكرة على الأجندة الصهيونية وتقدمت على كثير من المقترحات الأخرى بسبب القرب الجغرافي للعراق مع فلسطين، ونظراً للبعد الديني أيضاً بكون العراق أصل الديانة الإبراهيمية والمكان الذي انطلق منه إبراهيم إلى فلسطين. وكان أحد أهم المتحمسين لفكرة استعمار بلاد ما بين النهرين من قبل يهود العالم الصهيوني الشهير يسرائيل زانغويل مؤسس وزعيم ما كان يعرف بالمنظمة اليهودية الإقليمية (أو التوطينية) Jewish Territorial Organization. وكان زانغويل ومنظمته على خلاف مع تيار المنظمة الصهيونية الذي ركز كل جهوده على فلسطين، واعتبر زانغويل أن الضرورة العملية وإنقاذ يهود أوروبا وروسيا من الاضطهاد يجب أن يدفع الحركة الصهيونية للبحث عن بديل لفلسطين حتى لو كان مؤقتاً، وليس أفضل ولا أقرب من العراق. بل إن زانغويل اعتبر أن تعبير “بلاد الرافدين” يشمل جغرافية المنطقة الواقعة بين فلسطين ونهر دجلة، وبالتالي فإن إقامة وطن لليهود في طرف من تلك المنطقة سوف يتيح التطور والتوسع تدريجياً باتجاه فلسطين. لكن حتى داخل “المنظمة الصهيونية نفسها والتي اختلف معه زانغويل كانت هناك قناعة كبيرة بفكرة استيطان العراق من قبل اليهود، وكان الرجل الثالث في المنظمة، وهو أوتو واربيرغ أحد أهم القيادات التي روجت واشتغلت على هذه الفكرة. وتفاوض مع مهندسين زراعيين ومساحين لدراسة الأرض ميدانياً.
امتلك زانغويل تأثيراً كبيراً سواء داخل الحركة الصهيونية او خارجها، كما تمتع بشبكة علاقات دولية قوية حتى داخل الدولة العثمانية. وجاء من خلفية يهودية أرثوذكسية لأب روسي وأم بولندية هاجرا إلى بريطانيا. وفي لندن بزغ اسمه ككاتب كوميدي ناجح وفرض نفسه في دوائر الثقافة والإعلام والسياسة. وقد تبنى نظرة استعمارية واستعلائية تجاه الشعوب الأخرى ولم يكن يتردد في استخدام أوصاف عنصرية إزاء السكان المحليين الذين يتواجدون في البلدان والمناطق التي كانت منظمته تدرسها كجهات محتملة لإقامة الدولة اليهودية عليها. وبالنسبة له فإن الحل الحاسم لأي سكان أصليين قد يعيقون مشروع هجرة اليهود ودولتهم هو الترحيل القسري وبالقوة. ولم يكن يؤمن بالإبقاء حتى على أية أقلية من السكان الأصليين ضمن المجموعة السكانية الأكبر التي يجب أن تكون يهودية صرفة.
وحول سكان العراق ومآلاتهم والنظرة إليهم في حال أقيمت الدولة اليهودية هناك كانت أفكار زانغويل تعج بالعنصرية والاحتقار وعدم اللامبالاة. وفي صيف 1909 وقف خطيباً في مدينة ليدز البريطانية وسط أنصاره ليقول: “…أنتم تعلمون أن المنظمة اليهودية الإقليمية قد اختارت بلاد الرافدين كي ينظر فيها الشعب اليهودي كخيار أول. ما هي بلاد الرافدين هذه؟ إنها جزء مهمل من الإمبراطورية التركية ليس فيه إلا عدد قليل من المدن والسكان، بعضهم استوطن سلمياً لكن الغالبية بدو متنقلين متوحشين ويخضعون للسيطرة التركية اسمياً فقط… إنها أرض غير مأهولة… لا تساوي شيئاً في السوق! ومن الذي سيحرث أرض بلاد الرافدين (ميزوبوتاميا)؟ من الذي سيبني سكك القطارات، والأهم من الذي سيركبها؟ هل سيركبها الأكراد والبدو؟ هل سيقوم هؤلاء ببيع خيولهم العربية ويستقرون في المزارع؟”. عبر زانغويل عن النظرة الاحتقارية الاستشراقية والكولونيالية التي استبطنتها الصهيونية بشقيها حين تحدثت عن الشعوب والجماعات خارج سياق “الأسياد الأوروبين” المتسيدين. وقد اعتبر الزعماء الصهاينة أنفسهم وحركتهم جزءاً من الحضارة الأوروبية التي لها الحق أن تستعمر حيث شاءت على وجه الأرض من دون أي اعتبار لشعوب البلدان التي تُستغل وتُستعمر. ويذكر هنا أن هرتسل نفسه كان التمثيل الأهم لهذا الاستبطان الكولونيالي في التفكير الصهيوني، وكان قد سجل بوضوح في كتابه “الدولة اليهودية” (1896) بأن بناء دولة يهودية في فلسطين سوف يمثل “جزءاً من الجدار الحامي لأوروبا في آسيا، وقاعدة أمامية للحضارة في وجه البربرية”!
الأمر المهم إيراده هنا هو أن يهود العراق وبغداد رفضوا بشدة المقترحات الصهيونية بجلب يهود أوروبا إلى العراق. وقد عبر عن هذا الرفض حاهام يحزكيل أحد قادة ووجهاء يهود بغداد وعضو الوفد البرلماني التركي الذي توجه إلى انكلترا وفرنسا في تلك السنوات. وفي هذه الزيارة صرح يحزكيل بوضوح أن الحكومة التركية ويهود العراق لا يقبلون الفكرة الصهيونية بجلب يهود أوروبا إلى بلدهم. وأن هذا الرفض ينسجم مع هويته وهويتهم، فهو يرى نفسه يهودي الديانة، عربي الثقافة، عراقي القومية، وبالتالي فإن اليهودية من هذا المنظور لا تتعارض مع العروبة.
بعد صدور وعد بلفور حُسم النقاش داخل الحركة الصهيونية بشقيها، المتوجه نحو فلسطين حصرياً، والمتوجه نحو مناطق أخرى عموماً. وفي إثر ذلك أغلقت ملفات المقترحات المتعددة لبناء كيان يهودي عليها، بما في ذلك مُقترح العراق. لكن العراق ظل دائماً (وحتى الآن) في دائرة الهدف الصهيونية، حيث أعيد فتح ملف العراق من قبل الصهيونية الإقليمية (التوطينية) بعد أن وحدت جهودها من الشق الثاني من الصهيونية وتحول تركيزها الكلي نحو فلسطين. وإعادة فتح الملف هذه المرة كانت بهدف معالجة إحدى المعضلات الاساسية التي تواجه الصهيونية في فلسطين، وهي وجود شعب متجذر فيها ولا يمكن تجاوزه. فكان الحل الذي عرضه زانغويل هو ترحيل الفلسطينيين إلى بلاد الرافدين وبالتالي إفراغ الأرض وتجهيزها لتستقبل غالبية يهودية من أوروبا. وجادل زانغويل بأن هذا الترحيل هو أفضل بكثير من العيش في احتكاك وصراع متبادل مدى الحياة، وهو بمثابة إحداث ألم كبير مرة واحدة بدلاً من الآلام المتواصلة، تماماً مثل “خلع الضرس المؤلم”، الذي يزيل الألم مرة واحدة.