“جوكر”… لعبة الربح والخسارة

وائل سعيد

كاتب من مصر

 إنها نقطة الانطلاق التي تستقبل بها شخصية الفيلم العالم المحيط، ما يتولد عنها كراهية للعالم واستخفاف بتفاصيله المعقدة الطبقية، حيث يُكتب اسم "الجوكر" على الشاشة، ويظهر في اللقطة التالية "آرثر" يضحك بشكل هستيري متقطع وهو يدخن أثناء جلسة متابعة علاجية متسائلاً أمام مُعالجته "هل أنا فقط، أم أن الوضع أكثر جنوناً بالخارج" فيما تُخبره "أن الجميع منزعجون"، إنها نفس الضحكة الاعتراضية التي أشار إليها أرسطو، للنيل من القُبحاء من الأشخاص.

للكاتب/ة

اشتراكك بنشرتنا البريدية سيحمل جديدنا إليك كل أسبوع

الأكثر قراءة

عشرة أفلام عظيمة عن المافيا (ترجمة)
خمس ممثلات إيطاليات أيقونيّات (ترجمة)
10 أفلام تشويق إيروتيكية رائعة (ترجمة)
10 أفلام عظيمة عن الوحدة (ترجمة)
عن السيرورة والصيرورة

من أجل صحافة ثقافية فلسطينية متخصصة ومستقلة

26/10/2019

تصوير: اسماء الغول

وائل سعيد

كاتب من مصر

وائل سعيد

ومدير تحرير مجلة "عالم الكتاب"

منذ أن عُرض فيلم الجوكر لأول مرة في مهرجان فينيسيا السينمائي الدولي في دورته الـ 76 أغسطس/آب 2019، وهو يثير الكثير من ردود الفعل المتباينة سواء داخل أمريكا أو خارجها، وكان قد أثار من قبل أثناء حملات الدعاية الضخمة في العام الماضي الكثير من الترقب.

والفيلم بطولة النجم العالم خواكين فينيكس وإخراج تود فيليبس الذي شارك في كتابة السيناريو مع الكاتب والمخرج سكوت سيلفر، وحصد جائزة الأسد الذهبي. 

منذ أيام قليلة وصل إلى محطة عرضه في مصر، فازدحمت واجهات السينمات بالمشاهدين الذين ارتصوا في تأهب وحماس لمشاهدة الفيلم المثير لكل هذه الضجة حوله، ولكن معظم الوجوه التي خرجت من صالات العرض كان يكسوها الوجوم أو الحزن والإحباط؛ ثمة صدمة ما أو شيء من هذا القبيل.

تابعت هذه الوجوه عبر المواقع وعن قرب في الشوارع في الساعات القليلة عقب وصول الفيلم إلى دور العرض، حتى دخلت التجربة وشاهدته بنفسي. 

التراجيديا المرحة

يقول أرسطو “نحن نضحك على من هم أقل منا وعلى القبحاء من الأشخاص، والفرح يأتينا من الشعور بأننا طبقة أعلى منهم”، والفيلم يتخذ من تيمة الضحك الخط الدرامي الأساسي لشخصية الجوكر، حيث تفتح الشاشة في المشهد الأول على “آرثر” أمام المرآة بعد أن فرغ من وضع مكياج “الجوكر”، يختبر فعل الضحك والبكاء على وجهه بغرز إصبعي السبابة في طرفي فمه.

بالانتقال بين المشهد الأول وما يليه، يخرج البطل إلى الشارع مباشرة، وهو يمارس عمله بالدعاية أمام أحد المحلات التجارية، حاملا لافتة من الخشب وسرعان ما يقتحم المشهد مجموعة من الصبية يسرقون اللافتة ويفرون لتجري مطاردة بين البطل وبينهم عبر شوارع إحدى المدن الأمريكية الواسعة دون أي تدخل من المارة. ينزوون في أحد الشوارع الجانبية ويوسعونه ضربًا بوحشية دون مبرر مرددين: أوسعوه ضرباً.. هذا المهرج ضعيف لا يمكنه عمل شيء.

ينتهي المشهد التقديمي بلقطة قريبة (Close-up) تظهر جسد “آرثر” أفقياً على مستوى الأرض تتوسع تدريجيًا مبتعدة عنه وهو يتألم وحول قطع اللافتة المكسورة، مفسحة مجالاً لأسفلت الشارع بوضوح في ثنائية مع البطل، لرسم حالة الفقد التي يحياها حيث لا يعانقه في شارع جانبي يعج بالمخلفات سوى أسفلت الطريق. 

 إنها نقطة الانطلاق التي تستقبل بها شخصية الفيلم العالم المحيط، ما يتولد عنها كراهية للعالم واستخفاف بتفاصيله المعقدة الطبقية، حيث يُكتب اسم “الجوكر” على الشاشة، ويظهر في اللقطة التالية “آرثر” يضحك بشكل هستيري متقطع وهو يدخن أثناء جلسة متابعة علاجية متسائلاً أمام مُعالجته “هل أنا فقط، أم أن الوضع أكثر جنوناً بالخارج” فيما تُخبره “أن الجميع منزعجون”، إنها نفس الضحكة الاعتراضية التي أشار إليها أرسطو، للنيل من القُبحاء من الأشخاص.

يعاني “آرثر” من ثنائية الاضطهاد الطبقي التي يشعر بها بعض أفراد الطبقات الاجتماعية المهمشة في المجتمع، وبالتالي تُسيطر عليه فكرة الانتقام من هذا الظلم المجتمعي أو الرد عليه في أحسن الأحوال، فهو مهرج غير متحقق لكنه يشعر في نفسه بأنه لم يولد سوى ليُضحك الناس، الأمر الذي تؤكده له أمه المريضة التي يعيش معها ويرعاها في شقة صغيرة بأحد الأحياء الفقيرة، والتي تواظب على مراسلة أحد السياسيين البارزين المرشح لسباق عمدة الولاية حيث كانت تعمل في قصره خادمة، لطلب المساعدة دون استجابة. 
 

الجوكر… بين “الغريب” وفلسفة التقنُع

في سنة 1995 قُبض على لص أمريكي شهير يُدعي “ماك آرثر ويلر” وهو يحاول سرقة بنك في وضح النهار، وحين سُئل من الشرطة عن سبب ارتكابه الجريمة في هذا التوقيت بدون أي وسيلة للتنكر، نفى ذلك وأكد أنه كان متنكرًا بالفعل فكيف كشفته كاميرات المراقبة! اتضح في التحقيقات أنه غطى وجهه بسائل الليمون، مُعتقدًا أن ذلك سيجعله غير مرئي للكاميرات.

هذه الحادثة ألهمت عالمي النفس دانينغ وكروجر من وضع نظرية سُميت بـ “تأثير دانينغ وكروجر “Dunning–Kruger effect، تُفيد “بأن الأشخاص متدني الذكاء وقليلي الكفاءة يراودهم إحساس بجنون العظمة ويثقون بقدراتهم الضعيفة إلى أقصى حد. وهو ما يمكن  تطبيقه على “آرثر” الذي يتشابه اسمه مع اللص الشهير في تحميل قدراته المحدودة أكبر من حجمها الطبيعي. خاصة ومنذ ظهوره على الشاشة وهو يعاني من الفشل في إضحاك الناس أو المهرج الذي يتلبسه؛ بداية من كسر لوحة الإعلان وضربه، ومروراً بأدائه السيء أثناء عرض دعا إليه جارته، وحتى مشهد الانتصار الأخير حين يظهر بمصاحبة روبرت دي نيرو الذي ينتهي بجريمة قتل، ناهيك على تكوينه الجسماني الهزيل للغاية، ثم اضطراباته النفسية التي يتعالج منها. كل تلك المعطيات ترسم لنا صورة لشخصية قليلة الحيلة لا تمتلك ما يؤهلها لتحقيق مثل هذه الأحلام.

والفيلم لا يطرح الكاركتر المعروف للجوكر؛ عدو باتمان اللدود وقواه السحرية التي يمارسها على خلفية كوميدية، بل يصنع خليط من التيمات المجمعة -بقصد أو بدونه- تتخذ من فلسفة “القناع” منهجًا لها في التنامي الدرامي.

ولا تنحصر فكرة التقنع هنا على بطل الفيلم وحده؛ فالكل في تلك البلدة يرتدون أقنعة؛ العمدة، مرشح الحزب، والدة “آرثر” الذي يكتشف بأنها زيفت الحقيقة في موضوع أبوة مرشح الحزب، وأخيراً مقدم البرنامج الشهير، حين يُخبر آرثر إنه رغم كل هذه الأضواء والشهرة المحيطة به إلا أنه كان يتمني أن يكون له ولداً مثله. وبعد ذلك لجوء المتظاهرين في نهاية الفيلم للاختفاء وراء الأقنعة حتى لا يتم معرفتهم، تيمناً بصاحب أول قناع قام بقتل ثلاث رجال تحرشوا به في المترو. وتعد هذه هي الجريمة الأولى لآرثر، حيث يقابل هؤلاء الثلاثة في وقت متأخر بمترو الأنفاق بعد طرده من العمل، ويقوم بقتلهم، ثم يتضح أنهم يعملون في شركة أبيه المتخيل مرشح الحزب، الأمر الذي يجعلهم محسوبين على الجهة المعادية للفقراء.

هناك تقاطع آخر يطرح نفسه بين شخصية آرثر وبطل رواية الغريب لألبير كامو مورسو، الذي استقبل موت أمه في بداية الرواية بلا مبالاة، ثم التحول الغريب في نهاية الرواية وكان غير متوقع أن يقوم مورسو بفعل القتل.

المدينة الخيالية… وجه أمريكا الآخر

“غوثام سيتي” هي مدينة خيالية تقع بأمريكا ظهرت في عدة كتب عن الكوميكس، وتعتبر المدينة التي ولد بها باتمان وروبن هود، وكانت مسرح الأحداث بالطبع في السلاسل الشهيرة آنذاك. بالتالي اتخذها المخرج “فيليبس” كي تجري فيها أحداث الفيلم، في هذه المدينة تنفتح الرؤية على وجه آخر من أمريكا؛ مدينة الأضواء وعاصمة الرأسمالية العالمية؛ حيث نرى الطبقات الدنيا من المجتمع التي لا يتم الإشارة إليها في الحديث عن أمريكا، وقد مثل عضو الحزب السياسي المرشح للعمدية -والد آرثر المتخيل- أحد فروع نظرة السياسة الطبقية العليا التي تستخدم الفقراء وأحلامهم واحتياجاتهم وفق مخططات سلطوية -أبوية- تعطي لنفسها الحق في التحكم بمصائر الضعفاء والوصاية عليهم. 

فحين يُصرح العمدة في حديث تليفزيوني بأن السلطات ترى أن المدينة أصبحت تحت الحصار بقوة الفئران، يُصرح هو في حديث صحفي بأنه سيترشح للقضاء على هذه الجرذان، فيما يسخر مقدم البرنامج الكوميدي “موراي” -روبرت دي نيرو- من تصريح العمدة بأنه وجد الوسيلة المناسبة للقضاء على هذه الفئران الخرافية بالقطط الخارقة!

بين الصراع البارد لهذا الثالوث “الإعلام-السلطة-السياسة” تجري حياة آرثر وحياة الفقراء في المدينة، التي نلاحظ أن معظم حالات القتل تمت في أماكنها العامة مما يدل على استباحتها وعدم أمانها، بداية من مقتل الثلاثة في المترو، ثم الأم في المستشفى، ونهاية بقتل مقدم البرنامج الكوميدي على الهواء مباشرة.

ثنائية المُبالغة المُحتملة

برع “تود فيليبس” في رسم صور كثيرة من التعبير البصري عبر الفيلم، حملت الكثير من الحالة الشعورية المتدرجة للبطل، وذلك على عدة مستويات؛ كتناسق ألوان الأماكن التي يقطنها آرثر مع ملابسه، باعتباره دليلًا على التماهي النفسي الذي يبحث عنه بينه وبين محيطه في محاولة للتأكيد على انتمائه للمجتمع، وهو تقديم دفاعي لمتغيرات الشخصية في نهاية الفيلم وتحولها لارتكاب الجريمة.

كما لعبت اللغة السينمائية دورًا مهمًا في خلق حالة دائمة من التأرجح بين المتخيل والواقعي عبر مشاهد آرثر المنتقلة من الفلاش باك والحالي، طارحة تساؤلاً بشأن واقعية الحدث من عدمه، أهذا ما جرى بالفعل أم هو محض خيال آرثر؟ يظهر ذلك بوضوح في المشاهد التي تجمعه بجارته وعلاقتهما الحميمية واستنكارها لكل شيء. 

نقطة أخرى مهمة وغاية في الرهافة؛ أن جميع المشاهد في ذهاب آرثر لبيته يتم رصدها من أسفل الدرج الطويل المفضي للحي الشعبي الذي يسكن فيه، وحالات من التراخي والانكسارات في صعوده للدرج الموازي لسلّم أحلامه بأن يكون مهرجًا مشهورًا، وصعوبة ذلك وسخرية البعض منه أيضاً، والمشهد الأخير للسلّم وقد حقق آرثر جزءًا من هذا الحلم بالظهور في البرنامج الكوميدي الأشهر مع “روبرت دي نوريو” مرتديًّا ملابس المهرج متعددة الألوان وواضعًا مكياج الجوكر، فإذ بنا نراه لأول مرة ينزل من الدرج من أعلى كدليل على تحقيق الحلم.

إلا أن هناك حالة من اللعب على “المبالغة” على مستوى طرح الشخصية ومجريات الأحداث، أسهم فيها إلى حد كبير أداء “خواكين فينيكس” نفسه الذي استمرأ فعل الضحك الهستيري المستمر، ثم التأكيد على العدمية واللامبالاة بتعبيرات وجهه التي وصلت حد الافتعال، وتعذر تعاطفي في المشهد الأخير الذي نال استحسان الجمهور، حين يرسم الابتسامة هذه المرة على وجهه بالدم. 

 

الكاتب: وائل سعيد

هوامش

موضوعات

الأكثر قراءة

عشرة أفلام عظيمة عن المافيا (ترجمة)
10 أفلام تشويق إيروتيكية رائعة (ترجمة)
عن السيرورة والصيرورة
10 أفلام عظيمة عن الوحدة (ترجمة)

GOOGLE AD

نكـتـب لفلسطين

اشتراكك بنشرتنا البريدية سيحمل جديدنا إليك كل أسبوع

Vector
Vector

اختيارات المحرر

Vector
Vector

من أجل صحافة ثقافية فلسطينية متخصصة ومستقلة

اشتراكك بنشرتنا البريدية سيحمل جديدنا إليك كل أسبوع