ضمن بحثها المحموم عن أراض تستعمرها وترحل إليها يهود أوروبا، وضعت المنظمات اليهودية الأوروبية وعلى رأسها البريطانية جزيرة قبرص كأحد الجهات المغرية والمحتملة. بدأت تلك المحاولات مباشرة بعد معاهدة برلين بين القوى الأوروبية والسلطنة العثمانية سنة 1878 في أعقاب نهاية الحرب العثمانية الروسية، والتي كان من ضمنها انتقال قبرص إلى السيطرة البريطانية. المثير في فكرة الاستيطان اليهودي في قبرص أن بعضها انطلق من فلسطين وتحديداً من خلال نشاط أرملة القنصل البريطاني في القدس جيمس فن، (اليزابث ـ آن فن)، في أواسط القرن التاسع عشر، والذي كان ذاته من غلاة المسيحية الصهيونية ومؤيدي جلب اليهود إلى فلسطين في أواسط القرن التاسع عشر (أي قبل تبلور المشروع الصهيوني بشكله السياسي والإيديولوجي على نحو نصف قرن تقريباً). وقد تواصل الوجود اليهودي الاستيطاني في قبرص من نَوَياتها الأولى وظل في مد وجزر إلى سنة 1939، وإن كان قد ضعف تدريجياً ومعه فقدت فكرة الاستيطان في الجزيرة بريقها والمتحمسين لها بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى وسقوط فلسطين في أيدي بريطانيا وفتح أبواب “أرض الميعاد” ليهود العالم.
قام مشروع تهجير اليهود إلى فلسطين على ثلاث روافع أساسية خلال نصف القرن الحاسم الذي توزع على الربع الأخير من القرن التاسع عشر والربع الأول من القرن العشرين. أولها، اندفاعة المسيحية الصهيونية (ومنظمات الألفيات) التي آمنت بضرورة عودة اليهود إلى فلسطين كشرط لظهور المسيح، وأهمها كانت بريطانية مثل Millenarian British Association ومرة أخرى سبقت هذه المنظمات كل التفكير الصهيوني السياسي إزاء فكرة توطين اليهود في فلسطين. والرافعة الثانية كانت انتشار السامية في أوروبا والرغبة المعلنة أو الدفينة لدى الدول الغربية للتخلص من “المسألة اليهودية” وإيجاد حل لها خارج الفضاء الأوروبي، بمسوغات ودعاوى مساعدة اليهود. حكومات ونخب روسيا وألمانيا وكثير من الدول الأوروبية الشرقية كانت تستقبل أي فكرة حول تهجير اليهود إلى خارج القارة بحماس معلن أو خفي، لأن ذلك يخلصها من اليهود ومن اللاسامية التي تعصف وتُتهم به. بالتوازي مع ذلك، كانت بلدان أوروبا الغربية مثل بريطانيا وفرنسا (مُضافاً إليها الولايات المتحدة) حيث كمنت مشاعر العداء للسامية تحت سطح الدعاوى الليبرالية والحداثة ولم تكن ظاهرة ومباشرة، تخشى من هجرات اليهود المتتالية القادمة من روسيا وأوروبا الشرقية ولاحقاً ألمانيا. وهكذا تلاقت رغبات الدول الأوروبية (شرقها وغربها) إزاء فكرة “التخلص” من يهود القارة بشكل أو بآخر، والتسابق في تأييد المقترحات التي تبرز هنا وهناك، وتقديم المساعدة لها وإخراجها على شكل تعاطف مع اليهود. الرافعة الثالثة هي النظرة الكولونيالية والإمبريالية لأي استيطان أو كيان يهودي في البلدان والمناطق المُستعمرة على أنه أداة في يد الدولة الاستعمارية المعنية المُسيطرة (وهي النظرة التي تبنتها واستبطنتها الصهيونية وقبلها معظم المشروعات الاستيطانية اليهودية ذاتها). فإن نشأ مثلاً كيان يهودي في شرق إفريقيا، أو في العراق، أو في سيناء، أو في فلسطين، يتعرف ذلك الكيان تلقائياً، ذاتيا ومن الآخرين، بكونه امتداداً كولونيالياً لبريطانيا وخادماً لها بشكل مباشر وحريصا على تنفيذ مصالحها. تفيدنا النظرة الإجمالية هذه في موضعة الصهيونية ومشروعاتها في السياقات الأوسع، وتُحرر الفهم من فكرة “عبقرية الصهيونية” وقادتها و”دقة تنظيمهم وتخطيطهم”. ذلك أنه من دون الدور المركزي والتأسيسي لتلك السياقات الدولية والإمبريالية التي وفرت وفي لحظة تاريخية فاصلة دعماً مذهلاً ومتوافقا عليه من قبل الدول الكبرى، لما أمكن رؤية أي نجاح للصهيونية مهما بلغت قوتها الذاتية وتخطيطها. وفي ضوء فهم ما سبق يمكن قراءة المشروعات الاستيطانية اليهودية في العالم من زوايا أكثر شمولية، ومنها ما تناقشه هذه المقالة.
في سنة 1882 تأسس “صندوق استعمار سورية” في بريطانيا وكانت اليزابث ـ آن فن أحد أهم الفاعلين فيه. ورغم أن هدف الصندوق كان تشجيع ودعم الهجرة إلى فلسطين تحديداً لكنه نشط أيضاً في استقدام يهود أوروبيين إلى سورية ثم قبرص. وفي العام الذي تلا التأسيس تمكن الصندوق وعبر دعم حثيث من نائب القنصل البريطاني في اللاذقية من شراء مساحات مُقدرة في المنطقة (التي كانت ما تزال خاضعة للحكم العثماني آنذاك)، وتم جلب أربعين عائلة يهودية إليها لزراعتها واستعمارها. لكن المشروع اليهودي في اللاذقية فشل لأسباب عديدة، وتم نقل هذه العائلات إلى قبرص حيث تم جمعها مع عشرات من العائلات الأخرى التي قدمت من أوروبا، في مساحة من الأرض تجاوزت 25 هكتاراً من الأراضي الزراعية الخصبة التي اشتراها الصندوق قريباً من مدينة بافوس الشاطئية في الجزيرة. وعلى وجه التحديد أقيمت في مستوطنة يهودية في منطقة المنطقة كوكليا استقبلت يهوداً من روسيا ورومانيا.
بالتوازي مع ذلك الاستيطان “القبرصي” وفي نفس الفترة الزمنية وعلى إثر الصعوبات التي واجهتها المنظمات اليهودية في تملك أراض في فلسطين، توجه بعض اليهود نحو شرق الأردن وسهل حوران التي يمتد عبر جنوب البادية السورية وشمال البادية الأردنية. وقد طرحت تلك المنطقة كاحتمال ثان تتوجه إليه بعض العائلات التي فشلت في التأقلم في الساحل السوري. وفي سنة 1892 تأسست منظمة يهودية جديدة، في شيكاغو هذه المرة، اسمها شايفي صهيون هدفها الاستيطان في سورية وشرق الأردن وفي سهل حوران تحديداً. وفي وقت لاحق تواصل الاهتمام الصهيوني في سورية وتركز على الأراضي التي اشتراها اللورد البريطاني إدمون روتشيلد في سهل حوران أيضاً في عشرينيات القرن العشرين بهدف توطين يهود من بريطانيا فيها. كانت سورية عمليا تحت السيطرة الاستعمارية الفرنسية، وقد رفض الفرنسيون فكرة جلب يهود بريطانيين إلى المنطقة، مما اضطر روتشيلد للتواصل مع يهود دمشق العرب لإقناعهم بالاستيطان في حوران، كمرحلة أولى نحو فلسطين. لم يلق ذلك المُقترح آذاناً صاغية لدى يهود دمشق وانتهى عملياً إلى الفشل. لكنه عاد وبرز ثانية في ثلاثينيات القرن العشرين على خلفية استقواء المنظمات الصهيونية في فلسطين وتمأسسها. وقد عمل بعض تلك المنظمات، البالماخ تحديداً، على اختراق يهود سورية وخاصة الجيل الشاب وتنظيم البعض لإعادة تنشيط فكرة الاستيطان في حوران وتحضيرها هذه المرة لاستقبال يهود روس كمحطة أولية لنقلهم إلى فلسطين. ويذكر أن قيادات اليهود السوريين وقفت بقوة ضد النشاط السري لهذه المنظمات في الأوساط الدمشقية وأبلغت السلطات عن ذلك واعتقل بعض الجواسيس من تلك المنظمات. ومن المهم الإشارة هنا إلى أن اليهود الغربيين (الأشكناز البيض) لم يهتموا باليهود العرب أساساً، واعتبروهم عرباً ومتخلفين، ولم يتم أي تواصل جدي معهم إلا في أواخر عشرينيات القرن الماضي. وكان الاهتمام الأولي بهم وظائفياً وأمنياً وبهدف تجنيدهم جواسيس في الأوساط العربية سواء في بلدانهم الأصلية أو في فلسطين نظراً لإتقانهم العربية وبسبب ملامحهم الحنطية التي تساعدهم على الاندماج في أي أوساط عربية، وقد بدأ هذا الجهد التجنيدي والتخريبي مع يهود سورية ثم يهود العراق لاحقاً.
بالعودة إلى قبرص، استهوت فكرة الاستيطان في الجزيرة الجمعيات اليهودية التي أرادت تفادي فكرة استهداف فلسطين لما كان يترتب على هذه الأخيرة من عقبات وصدام متوقع سواء مع الحكم العثماني أو العرب. وكانت قد تبلورت قناعة مبكرة عند الكثيرين منهم بأن فلسطين مأهولة بالسكان وغير صالح لهجرة اليهود إليها (كما أشارت مقالة شهيرة لأحد أهم قادة الصهيونية (الثقافية) “آحاد حاآم” الأوكراني بعد أن زار فلسطين سنة 1891. ويُذكر أن هذه التوجهات نحو مناطق غير فلسطين ظلت قوية وفاعلة في قلب التجمعات اليهودية ولاحقاً في قلب الفكرة الصهيونية ذاتها، وتبلورت على شكل فاعل سياسي بعد المؤتمر الصهيوني الثالث سنة 1899، تحت اسم “المنظمة اليهودية التوطينية” Jewish Territorial Organization والتي أسسها وقادها إسرائيل زانغويل. لكن في نفس الوقت وإلى جانب هؤلاء، فإن التيار الرئيس الثاني داخل التجمعات اليهودية ثم في قلب الصهيونية السياسية لاحقاً تمركزت جهوده حول تهجير اليهود إلى “أرض إسرائيل”، لاعتبارات عديدة أهمها جاذبية الإسم والجغرافية والبعد الديني وما يوفره ذلك من إمكانيات الحشد والتعبئة وسهولة التهجير. وهكذا قويت فكرة الاستيطان في قبرص عند التيارين، كونها قريبة من “أرض إسرائيل” وتمثل محطة للانتقال إلى فلسطين عند تيار المتحمسين لها، وكونها أيضاً ليست “أرض الميعاد” عند التيار الآخر الذي لم يتحمس لفكرة فلسطين وفضل دوماً الابتعاد عنها كخيار.
استمرت المستوطنة “القبرصية الأولى” عدة سنوات بعد تأسيسها عام 1882 لكن ما لبث مشروعها أن فشل بسبب عدم حماس اليهود للهجرة إليها، وفشل مستوطنوها في تحويل الأرض “إلى جنة زراعية” مغرية للآخرين. كان معظم اليهود الأوروبيين راغبين في الهجرة إما إلى أوروبا الغربية أو الولايات المتحدة، ومعظمهم من خلفيات مدينية لم ترق لهم فكرة التحول إلى فلاحين والاشتغال بالزراعة على الرغم من كل الدعم المادي والتدريب الزراعي. في تلك السنوات، أي عقد ثمانينيات القرن التاسع عشر كاد نفس الفشل يضرب بعض تجمعات اليشوف اليهودية في الجليل، مثل زخرون ياكوف وروش بيناح، بسبب عزوف اليهود عن الزراعة وشكواهم من وعورة الأرض وعدم ملاءمتها للحرث والزراعة. لكن الوجود المديني في فلسطين وقرب تلك التجمعات من مدن (فلسطينية) قائمة كان أحد الأسباب التي أقنعت يهودها على البقاء (وهذا لا ينقض وحسب الدعاية الصهيونية بأن فلسطين كانت أرضاً بلا شعب، بل ويشير إلى أن الطبيعية المدينية وليس الصحراوية الخالية من الحياة هي التي جذبت اليهود).
ظلت قبرص عنواناً للشد والجذب والتوسع والانكماش لجهة استقطاب يهود جدد إليها، وشهد المشروع ذروة نجاحه عندما تسلمت جمعية الاستعمار اليهودي Jewish Colonization Association الأراضي التي اشترتها المنظمات اليهودية في سنوات سابقة. وعملت الجمعية على توسعة الوجود الاستيطاني إلى مساحات أخرى بين مدينتي لارنكا وليماسول، في منطقة مارغو. ومن المهم الإشارة هنا رلى أن هذه الجمعية التي مثلت الذراع الاستيطاني الأهم في مشروعات الهجرات اليهودية وإقامة المستعمرات كان جل اهتمامها متركزاً على مناطق غير فلسطين حتى سنة 1896. بعد ذلك التاريخ والذي لحقه قيام المؤتمر الصهيوني الأول في بازل سنة 1897 وبعده المنظمة الصهيونية العالمية، انقلب ميزان الاهتمام وتصدرت فلسطين أجندة معظم المنظمات اليهودية.