«ممالك النار»… حرب القوة الناعمة!

أحمد مجدي همام

روائي وصحافي من مصر

هكذا أصبح هذا الشركسي هو صوت مصر، ولم يكتف فريق العمل بذلك، بل تمادوا في عملية تزيين طومان باي بالزي المصري، فاختاروا الممثل خالد النبوي للدور، وهو يحمل وجه مصري عربي لا يشبه أبداً ملامح ووجوه الرجال من القوقاز ودولها الثلاث جورجيا وأرمينيا وأذربيجان،

...للكاتب/ة

اشتراكك بنشرتنا البريدية سيحمل جديدنا إليك كل أسبوع

الأكثر قراءة

الصحافة الثقافية وما نناضل من أجله
أين نحن في السير قدما...
عشرة أفلام عظيمة عن المافيا (ترجمة)
10 أفلام تشويق إيروتيكية رائعة (ترجمة)

من أجل صحافة ثقافية فلسطينية متخصصة ومستقلة

23/12/2019

تصوير: اسماء الغول

أحمد مجدي همام

روائي وصحافي من مصر

أحمد مجدي همام

عُرِض مؤخراً على الفضائيات العربية مسلسل «ممالك النار»، أحد أضخم الأعمال الدرامية العربية من حيث ميزانية الإنتاج والتي تجاوزت رقم 40 مليون دولار، وضعتها شركة “جينوميديا” كميزانية للمسلسل المكون من 14 حلقة، من بطولة المصري خالد النبوي والسوري محمود نصر وإخراج الإنجليزي بيتر ويبر ومن كتابة المصريين محمد سليمان عبد المالك وأحمد ندا.

مماليك وعثمانيون

ارتكز المؤلفان على مصادر تاريخية محددة لكتابة المسلسل، تتمثل في كتب: «بدائع الزهور في وقائع الدهور» لابن إياس، كتاب «رجال مرج دابق» لصلاح عيسى وكذلك «واقعة السلطان الغوري مع سليم العثماني» لابن زنبل الرمّال. وفقاً لتصريحات السيناريست محمد سليمان عبد المالك.

لم يذهب «ممالك النار» في مساره الدرامي بعيداً عن التاريخ رغم تعدد رواياته، إلا أننا على الأقل نعرف أن هذه الدراما التي تحاول أن تقارب التاريخ هي أقرب إلى الصحة، ولكن، على الرغم من ذلك، فإن صناع العمل اختاروا أن لا يكتفوا بسرد وقائع تاريخية تقريرية، بل اختاروا الانحياز لفريق على حساب آخر، عملاً بتعريف الإنجليزي جوزيف ناي لمصطلح “القوة الناعمة” أو القدرة على الجذب والضم دون إكراه. 

يبدأ المسلسل بمسارين متوازيين يصوران الأوضاع في كلا الجانبين: الأول هو البيت العثماني، وموت محمد الفاتح ثم الصراع بين ابنيه جيم وبايزيد، والذي انتهى بسيطرة الأخير وتنصيبه سلطاناً، ثم الصراع بين أبنائه ومن بينهم سليم الأول (الممثل الصغير معتز هشام ثم السوري محمود نصر) الذي قضى على إخوته جميعاً وقتل كل الذكور من آل عثمان ليستفرد بالسلطنة. أما المسار الثاني فيعرض قصة جلب طومان باي من شركاسيا في القوقاز وحتى استقراره عند عمه قانصوه الغوري في القاهرة ومسيرة تحوله من طفل إلى الأمير المقرب للسلطان الغوري، ويعرض هذا المسار أيضاً العلاقات بين المماليك وبعضهن البعض، والعلاقة بينهم وبين عامة المصريين، خصوصاً مسألة اقتحام الفرق المملوكية المقاتلة للأسواق وسلب المصريين حقوقهم وبضائعهم، كان ذلك يحدث كلما تأخر المماليك الكبار في صرف مستحقات ورواتب رجالهم من الجلبان، فيقتلون ويضربون ويسرقون..

يتقارب المساران على مدار الـ 14 حلقة التي تشكل قوام مسلسل «ممالك النار»، بمناوشات بين العثمانيين والمماليك في الشام الخاضعة للسلطنة المملوكية والقريبة جغرافياً من أراضي العثمانيين في الأناضول، إلا أن اللقاء النهائي يحدث في الحلقات الأخيرة حينما يشتبك الجيشان في موقعة مرج دابق في 1516 والتي تنتهي بمقتل السلطان قانصوه الغوري وانتصار العثمانيين، ثم يقرر سليم الأول غزو مصر، ويشكل طومان باي والمماليك المتبقين فرق مقاومة وحروب شوارع، ينتصرون في موقعة قبل أن يسحقهم الجيش العثماني بمدافعه الثقيلة المتطورة وتسليحه الأحدث الأكفأ من تسليح المماليك.

حرب القوة الناعمة

يمكن فهم توقيت عرض المسلسل وكذلك الهدف -غير الفني- منه، في ضوء التوتر الكبير في العلاقة بين مصر وتركيا، والصراعات الدائرة في شرق وجنوب المتوسط، والبداية كانت مع اكتشافات الغاز الكبرى في شرق المتوسط حيث عمدت مصر لترسيم حدودها المائية مع قبرص واليونان ودول الشام، لتجد تركيا نفسها خارجة من (حفلة الغاز) بخفّي حنين، الأمر الذي دفع الرئيس التركي أردوغان إلى إبرام معاهدة مع حكومة الوفاق الليبية الإخوانية برئاسة فايز السراج، لترسيم الحدود البحرية بينهما، وهي معاهدة عجيبة وغير قانونية إذ تتجاهل الجزر التابعة لقبرص واليونان وتخلق رواقاً مباشراً بين الجنوب التركي والشمال الليبي. هذا الرواق غير متحقق على أرض الواقع من واقع الاتفاقات الدولية وقوانين أعالي البحار.

النزاع المصري التركي، كان له تجليات اقتصادية وسياسية واجتماعية واضحة، وبالمثل كان له انعكاسات فنية، إذ كثر مؤخراً المنتج الأدبي والفني المصري الذي يسعى لتناول وكشف الوجه القبيح لتركيا العثمانية كدولة توسعية استعمارية، فصدرت عدة روايات تتناول مأساة الأرمن -لا سيما الأرمن المصريين- ومنها مثلاً رواية «ميمي زهرة أرمينيا البيضاء» للكاتب والتشكيلي عبد العزيز السماحي، وأيضاً رواية «بالأمس كنت ميتاً.. حكاية عن الأرمن والكرد» للكاتبة رضوى الأسود غيرهما. والآن انتقل الصراع إلى الدراما والشاشة الصغيرة، من خلال «ممالك النار»، وأظنه سينتقل قريباً إلى شاشات السينما.

لكن في سياق هذا الصراع، اختار صنّاع العمل، أن يقدموا طومان باي بوصفه الزعيم المصري العادل المحب للشعب، طومان باي المولود في بلاد بعيدة تماماً عن مصر، بل في قارة أخرى، صار في «ممالك النار» ممثلاً لمصر لا محتلاً لها مثله مثل العثمانيين، والفارق بينهما أن طومان باي كبر ونشأ في مصر، وقيل إنه كان مصري الهوى، وكتب أزجالاً بالدارجة المصرية، ولهذه الأسباب، جرى تقديمه بوصفه صوت مصر، في حين أن الحقيقة التاريخية تقول إنه لم يكن مصرياً، ولم يكن حتى مجلوباً نشأ في قلب الشعب المصري فتمصّر، بل نشأ في قصور وقلاع الأمراء المماليك وبين قادة مثل الأشرف قايتباي وقانصوه الغوري.

هكذا أصبح هذا الشركسي هو صوت مصر، ولم يكتف فريق العمل بذلك، بل تمادوا في عملية تزيين طومان باي بالزي المصري، فاختاروا الممثل خالد النبوي للدور، وهو يحمل وجه مصري عربي لا يشبه أبداً ملامح ووجوه الرجال من القوقاز ودولها الثلاث جورجيا وأرمينيا وأذربيجان، ثم إمعاناً في ممارسة القوى الناعمة أو “الجذب دون إكراه” لعبت الموسيقى التصويرية دوراً هاماً في استمالة المشاهد لصالح طومان باي ضد سليم الأول، فكانت موسيقى التونسي أمين بوحافة القادرة ببراعة على تجسيد هذا الحب والمودة والصفاء على شكل نغمات تقوم بدور سحري في الاستقطاب، مقابل الموسيقى المشدودة القاسية المتوترة التي تصاحب كل ظهور لسليم الأول.

أظن أن الشخص الذي خطط لاستخدام التاريخ وتطويعه درامياً لتوظيفه في سياق السجال المصري التركي، لم يوفق في اختيار الحقبة الزمنية الأنسب للتعبير عن هذا الصراع، لقد كان هناك جيش كامل من المماليك في مصر، وهذا يعني أن مصر كانت تحت احتلال هؤلاء الجلبان الشراكسة، الذين نكلوا بالمصريين، صحيح كانوا أقل بطشاً بالمصريين من العثمانيين، لكنهم في النهاية بطشوا بهم.

لكن، وعلى الرغم من ذلك، أظن أن «ممالك النار» نجح في القيام بدوره، لقد تنبه المصريون إلى أن الوجود العثماني في مصر لم يكن فتحاً، بل غزو، وأن مصر لا تصلح لتكون حجر كريم في سلسلة الدول الخاضعة للعثمانيين، بل هي قطعة مستقلة متفردة بحد ذاتها، كما أن شريحة عريضة من الجمهور الذي تابع المسلسل، بات يميل لفكرة أن المصريين وإن كانوا عرباً، أو أقرب للعرب ثقافياً، فإنهم لا ينسون سنوات طويلة عاشتها بلادهم تحت حكم أمم أخرى، خالطوهم وأخذوا منهم وأعطوهم وترك كل منهم شيئاً في الآخر، فمصر العربية سبق لها وأن كانت فرعونية ورومانية ومملوكية وكل تلك الهويات لا زالت باقية بشكل أو بآخر في ثقافة المصريين ونظرتهم لأنفسهم. 

ملامح

بعيداً من هذا السجال حول القوة الناعمة وتوظيف الفن لصالح الحسابات السياسية، ظهر الكثير من الممثلين في «ممالك النار» بأداء مميز، على رأس هؤلاء بالطبع كان السوري محمود نصر، والذي جسد شخصية السلطان المهووس بنفسه وبالقوة، المتوحد بذاته والمتعالي عن العالم بأسره، الغازي، الرهيب كما كان يقال عنه. لقد فاجأ محمود نصر المصريين، بل فاجأ الجميع، لاسيما وأن الكثير من أدواره السابقة تحصره في دور الشاب الوسيم الرومانسي. لكن نصر خرج عن هذه الصورة وجسد شخصية سليم الأول ببراعة يستحق التحية عليها.

وبالمثل قدم المصري خالد النبوي شخصية طومان باي، والحقيقة أن للنبوي رصيداً هائلاً من الخبرات في تجسيد أدوار تاريخية، لكني آخذ عليه، وعلى كل الممثلين العرب في هذا المسلسل، أنه كان يسهل على المشاهد استنتاج جنسيته الأصلية من طريقة نطقه للعربية الفصيحة، لا يزال المغاربة يكسرون ألف المد ويجعلونها تراوح بين الألف والياء، ولا تزال الجيم المعطشة أزمة لكل مصري، ولا تزال حروف مثل العين والظاء تخرج ثقيلة ومشبعة من ألسنة عرب المشرق.

وأخيراً يبقى التنويه بالممثل الشاب معتز هشام الذي أظهر براعة فطرية كبيرة في تجسيد شخصية سليم الأول في صباه وحتى سن الثالثة عشر، لقد استخدم هشام كل أدوات الممثل المحترف، وجسد بملامحه ونظراته وتصرفاته وصوته كل ما يجعل المشاهد يرى في سليم الأول طفلاً استثنائياً دموياً.

هوامش

موضوعات

الأكثر قراءة

عشرة أفلام عظيمة عن المافيا (ترجمة)
10 أفلام تشويق إيروتيكية رائعة (ترجمة)
أين نحن في السير قدما...
الصحافة الثقافية وما نناضل من أجله

GOOGLE AD

نكـتـب لفلسطين

اشتراكك بنشرتنا البريدية سيحمل جديدنا إليك كل أسبوع

اختيارات المحرر

من أجل صحافة ثقافية فلسطينية متخصصة ومستقلة

اشتراكك بنشرتنا البريدية سيحمل جديدنا إليك كل أسبوع