صدر عن سلسلة “قضايا” في المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات كتاب عبد العلي الودغيري العربية أداةً للوحدة والتنمية وتوطين المعرفة، يتناول فيه مؤلفه وضع اللغة العربية الفُصحى في المرحلة الراهنة وما تعانيه من مشكلات وتحدّيات قد تأتيها من جهة أعدائها وخُصومها، “وهو أمرٌ مفهومٌ، أو من جهة أهلها وذَويها وفي بِيئاتها وداخل مجتمعاتها الحاضِنة لها، وهو ما قد يَستعصي أحيانًا على الفَهم، وإن كان الأمر لا يحتاج إلى عناءٍ في توضيحه وتوثيقه، لأن لسانَ الحال ناطِقٌ به والواقع شاهِدٌ عليه”، بحسب توصيف الودغيري نفسه في مقدمة الكتاب. يتألف هذا الكتاب (216 صفحة بالقطع الوسط، موثقًا ومفهرسًا) من خمسة فصول.
تحديات تواجهها العربية
في الفصل الأول، “العربية وموجات التحّديات”، يحصر الودغيري التحدّيات التي واجهَتها اللغةُ العربية في أربع موجات: الموجة الأولى برزت منذ بداية طريق النهضة العربية الحديثة، “فبمجرد ما بدأ الاحتكاكُ الفعلي والقويّ بآلة الحضارة الغربية الحديثة المتفوِّقة في كل جوانبها المادّية والعلمية والثقافية واللغوية والسياسية والعسكرية والاقتصادية، انكشفَ المستوى الذي انحدرَت إليه اللغة العربية في ذلك الوقت، وما وصلت إليه الفُصحى على الخصوص من ضعفٍ وقصور في معجمها ومفرداتها وجمودٍ في أساليب تعبيرها، وتخلُّفٍ في طرق تعليمها”. وتتلخص الموجة الثانية في جملة من العقَبات الجديدة التي وقفت في طريق اللغة العربية خلال مرحلة الاحتلال الأجنبي الاستيطاني الذي سيطر على البلاد العربية والإسلامية. في حين ظهرت الموجة الثالثة في فترة ما بعد الاحتلال الاستيطاني لعدد من الدول العربية وحصولها على الاستقلال؛ فالاحتلالُ الأجنبي لم يكن ليغادر الأرض التي سيطر عليها إلا بعد تثبيت جذور لغته وثقافته، وغَرسِها في العقول والنفوس. أما الموجة الرابعة فهي موجة العولمة التي بدأت اقتصادية وتجارية وتحولت إلى دعوة إلى عولمة لغوية وثقافية، تكون فيها السيادةُ المطلقةُ في العالم كلّه للغةٍ واحدة متفوِّقة ومسيطِرة، هي اللغة الإنكليزية.
ثم يعرض المؤلف في باقي هذا الفصل العوامل التي كانت وراء تغيُّر نظرة أهل اللغة إلى لغتهم، والتدابير الواجب اتخاذها لتعزيز مكانة اللغة العربية الجامعة.
العربية في سياق العولمة
في الفصل الثاني، “العربية في سياق العولمة وتحدياتها”، يتناول الودغيري العولمة، وهي، بحسبه، في جانبها الثقافي “معناها تعميمُ نموذجٍ معيَّن من القِيَم والأذواق والمفاهيم الثقافية والاجتماعية المُصاحِبة لنموذج القِيَم الاقتصادية، ورؤيةٍ خاصة للعالَم، وفلسفةٍ للحياة، وتفسيرٍ خاص لأمور الدين والأخلاق والسلوك والعادات، ومحاولةُ فرض ذلك بطريقة أو أخرى، نمطًا موحَّدًا، فيُطالَب العالَمُ المختلِفُ فكرًا وثقافةً وحضارةً وديانة وأخلاقًا وسلوكًا، بأن يأخذ به ويتبنَّاه ولا يَحيد عنه. وهذا النموذج المطلوب فَرضُه هو النموذج الغربي الأمريكي”.
يتم فرض هذا النموذج من طريقين: الطريق الحريري الناعم الذي تتسرَّب بواسطته هذه المفاهيم وتنتقل إلى الناس من دون شعور ولا إبداء مقاومة، وطريق الفرض والإكراه والإلزام الذي يتم به نقلُ المفاهيم الغربية للعولمة التي يُراد تعميمُها إجباريًا، وتفرضُه بصورة أو بأخرى القوى العالميةُ المُهيمِنة. ويتناول أيضًا مسألة التعليم بشروط العولمة، واللغة العربية في سياق العولمة.
يقول المؤلف: “بحجة العَولمة ومتعلِّقاتها، إذن، أصبح مطلوبًا من العربية رغم كونها تحتل المرتبة الرابعة أو الخامسة بين أكبر لغات العالم من حيث حجم الانتشار على الأقل أن تتخلى عن مكانتها وموقعها ودورها الأساسي في التنمية المحلّية والإقليمية، لصالح لغة العولمة بامتياز وهي الإنجليزية، والاكتفاء بدور المساعد لها في المشرق العربي”.
ضرورة العربية للتنمية العربية
في الفصل الثالث، “العربية: ضرورتُها للتَّنمية ودَواعيها الاقتصادية”، يرى الودغيري أن البحث في علاقة العربية بالاقتصاد هو في جوهره “بحثٌ في العلاقة الجَدَلية بين تنمية العربية باعتبارها لغةَ الأمّة الجامِعة، وتنميةِ المجتمع تنميةً شاملة عميقة وقابِلة للاستمرار والدَّيْمومة”. والتَّنمية كلمةٌ حلَّت مَحلَّ كلمة النَّهضة، وهناك شروط ضرورية كثيرة لقيام أيِّ إقلاعٍ اقتصادي واجتماعي وثقافي سليم أو تنميةٍ حقيقية شاملة لكل الجوانب الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، أهمّها: أمنٌ واستقرارٌ سياسي واجتماعي؛ رأسُ مالٍ بشري؛ رأسُ مالٍ مَعرفي. بحسب المؤلف، استيرادُ المعرفة بلغاتها الأجنبية لا يؤدي إلى تحصين الثروة المعرفية وتحقيق ما يمكن أن نسمِّيه الأمن المعرفي، “فالمعرفةُ ثروةٌ باهظةُ الثمن ووجودُها أمرٌ حيويُّ وضروريٌّ جدًّا لتنمية المجتمع، ولذلك فإن امتلاكَها، لا استعارتَها أو استِئْجارَها، هو الشيء الوحيد الذي يضمن هذا الأمن ويُحقِّقه. وخيرُ وسيلة لامتلاكها وهَضمها هو نقلُها إلى اللغة الوطنية المشترَكة (لغة الأمّة)، واستِنباتُها داخل مجتمعاتنا بهذه اللغة لا بغيرها”.
يضيف: “لا شك في أن المعرفة، بكل أشكالها وأنواعها وتجلِّياتها المختلفة التي تُكوِّن في جملتها ما يُعرَف بمجتمع المعرفة، مرتبطة أشدَّ الارتباط بالثقافة التي تُنتِجها وتنتمي إليها من ناحية، واللغة التي تعبِّرُ عنها وتُكتَسَب أو تُصاغُ بها، وتؤدّيها أو تكون حامِلًا لها، من ناحية ثانية؛ إذ لا معرفة بلا لغة، مهما كان الأمر. وارتباطُ اللغة بالمعرفة بهذا الشكل الضروري، هو الذي يجعلنا نقول إن اقتصاد المعرفة مرتبط أشدّ الارتباط باقتصاديات اللغة. أي إن الرأسمال المعرفي لا يمكن أن ينفصل عن الرأسمال اللغوي، كلاهما وجهانِ لثروة واحدة”.
لغةُ التدريس وتدريسُ اللغات
في الفصل الرابع، “لغةُ التدريس وتدريسُ اللغات (في التجربة المغربية)”، يقول الودغيري إن الدعوة إلى تدريس الدارجة أو جعلها لغةً للتدريس ولو في المراحل الأولى ليست سوى مدخل لتنفيذ مخطط يرمي إلى الإجهاز على اللغة العربية والتمكين من وراء ذلك للّغة الأجنبية التي لم يستطع الاحتلالُ نفسُه أن ينشرها بالطريقة التي ينشرها اليوم، وإن الدعوة إلى ضرورة استعمال اللغة الوطنية المشتركة في تلقين كافة المعارف والعلوم لا يعني إقصاء اللغات الأجنبية أو تهميشها في العملية التعليمية، وإن الدعوة إلى استعمال العربية في التعليم أمرٌ طبيعي جدًا في كل بلد ينتمي إلى المجموعة العربية، وليس معناه القضاء على لغات وطنية ومحلّية أخرى.
بحسبه، لا يمكن العربية أن تنمو وتتطور إلا بإدخالها في مجال تعليم التقنيات والعلوم الدقيقة، وفي التعليم العالي على الخصوص، ومن يعمل على التراجع عن استعمال اللغة الوطنية الدستورية، فإنما يعمل على قتل الفصحى وتراجعها، وفي قتل الفصحى قضاءٌ على العربية كلها؛ ومن يقول بإرجاء استعمال العربية إلى حين الفراغ من تَهيِئتها وإصلاحها والنظر فيها، إنما يُماطِل ويُسوِّف ويُخادع الناس ويستهزئ بعقولهم ويستخفُّ بقُدراتهم العقلية، لأن أيّ لغة لا يمكن تطويرها وتنميتها وتهيِئتها وهي مُبعدةٌ ومهمّشَة.
يتهم المؤلف الإعلام المسموع والمرئيّ بالتواطؤ ضد العربية والفصحى، فلا بد من إصلاحه ليقوم بدور المسانِد للمدرسة في خدمة اللغة الوطنية. ويرى أن تَغوُّل التعليم الخاص على العمومي من دون إخضاعه للمراقبة التربوية الصارمة، وإلزامه تطبيق مقرّرات الدولة ومناهجها وسياستها اللغوية، خطرٌ كبير يجب تصحيحُه.
المسألة اللغوية عند النّخب الوطنية
في الفصل الخامس، “المسألة اللغوية عند النُّخَب الوطنية (علال الفاسي نموذجًا)”، يقول المؤلف إن النُّخَب التي قادت الحركة الوطنية التحرُّرية في المنطقة المغاربية من تونس إلى المغرب الأقصى “انتبَهت مُبكِّرًا إلى دسائس الاحتلال الفرنسي حين بدأ تطبيقَ سياسته اللغوية والتعليمية الرامية إلى إبعاد العربية والفصحى على وجه الخصوص، من المدرسة والإدارة وتعويضها بالفرنسية، وإصدار التعليمات الصارمة لحُكّام المناطق بعَرقلة المدارس العربية والقرآنية على وجه الخصوص، وحَمْلِ الأُسَر على توجيه أبنائها نحو المدارس الفرنسية. وهكذا بدأ مسلسلُ تهميش اللغة العربية شيئًا فشيئًا والطَّعنِ في صلاحيتها وكفاءتها وتحريض أهلها عليها. وكان سلاحُ مواجهة هذا المخطَّط الاحتلالي، متمثِّلًا في نشر الوعي لمواجهته بكل الوسائل الممكِنة والقيام بحملة مضادّة عملت من جهتها على فتح مدارس أهلية تحافظ على العربية والثقافة الإسلامية بجانب الانفتاح على اللغات الأجنبية. وحين حصلت البلدان المغاربية على استقلالها واصَلت هذه النُّخَبُ العمل من أجل وضع أُسُس مدرسةٍ وطنية يكون من جملة أهدافها تحقيقُ الاستقلال اللغوي وتنمية روح الاعتزاز بالهوية الثقافية والوطنية في نفوس الناشِئة”.
ويتناول الودغيري علال الفاسي نموذجًا، وهو أحدَ كبار زُعماء الحركة الوطنية التحرُّرية في المنطقة المغاربية، ومن أبرز مفكّريها ومنظِّريها قبل الاستقلال وبعده، وقد استماتَ في مَواقفه ونضالاته الميدانية وكتاباته التَّنظيرية دفاعًا عن اللغة العربية باعتبارها اللغةَ الوطنية المشتركة بين المغاربة وغيرهم من أبناء الدول العربية الأخرى، وعن أهميتها في التعبير عن وجدان الأمة وأحاسيسها وثقافتها وتجسيد هويّتها وصياغة فكرها، وصلاحيتها لتكون لغةَ الحاضر والمستقبل، ومواكبة التطوّر العلمي والتقني والحضاري في كل المجالات. ومعروف عنه دفاعُه عن تعريب لغة التعليم والإدارة والمرافق العامة ومقاومته الشديدة للهيمنة الفرنكوفونية وكل مظاهر التغريب والاستِلاب الفكري والغزو الثقافي واللغوي الموروث عن مرحلة الاحتلال.