لعل أبرز ما يميّز كتابة الشاعر السوري تمام هنيدي هي تلك اللغة الإيمائية الشفيفة في وصف أحداث مؤلمة وذكريات تكاد أن تكون غايةً في القساوة وحنونة في الآنِ معاً؛ لغته سلسلة آسرة وغير مبهمة، فيما قصائده متحررة من أسر العنونة، وشبيهة بخيول البراري في صهيلها الحرّ. كتابةٌ مفتوحةٌ على آفاق جماليّة غير مطروقة، بالإضافة إلى شحنها بمزيد من التضاد والمتناقضات المحبّبة، حيثُ نقرأ مُفردات تخصّ الحرب والخراب، جنباً إلى جنب مع مفردات أخرى عن الحبّ والشغف بالحياة.
مجموعة الشاعر السوري تمام هنيدي «يُجدر بك أن تتبخّر»، الصادرة حديثاً عن “دار ممدوح عدوان للنشر والتوزيع”، 2019، تدفعك وتحفزك للتأمل الجمالي، ومن ثمّ الاستعداد للتخلص من آلام الحياة. فقصائده تدق على باب الشعور ليفتح أعماقه، ولكن بمنتهى الهدوء والقسوة. صوره قاسية وهي تكشف زيف ملابسات حياتنا اليومية حتى لا ننسى آلامنا وإن تخلصنا منها، طبعاً لن نتخلص من الآلام، فخيباتنا وهزائمنا اليومية تحتاج إلى معجزة: “يجدرُ بك أن تغيب تماماً، أن تختفي، ألا تُرى، أن تتبدّد، ألا تذوبَ فحسب. لأنهم قد يجدون أثراً، ولو صغيراً، من حياتِك عالقاً في الهواء، وقد يُعيدون ذكركَ دائماً، بلطفٍ زائدٍ… يجدرُ بكَ أن تتبخر!”.
والشاعر مهما شَعَرَ وأشعَرَ، فهو يقوم بممارسة عالية للوعي، لكنه كلما وعى؛ توعّى، ترى في نسيج قصيدته تلك الشحنات الانفعالية العالية التوتر، تمام هنيدي تراه متوتراً، ووحيداً يواجه هذا الخراب: “لنقل ذلك بوضوح الآن، في جعبتنا ملايين الخيبات، نستحقّ أن نبوحَ لأصدقائنا من الأجيالِ الأخرى، مِمّن لم يعرفوا معنى أن يولدَ المرءُ ساكِتاً، أن يعيشَ ساكتاً، صموتاً، أصم/ لا يقولُ ولا يشيرُ ولا يتفوّهْ، أن نصرخَ الآنَ، أن نحتجّ على الملأ… ونحزنَ بهدوء، أنتم لا تعرفون أبداً معنى أن نأخذَ صوراً، ولو كاذبةً، مع الحياةْ”. شاعرٌ في مواجهة العالم، ولكن وهو يتأرجح ما بين الأمل واليأس: “هذا العالمُ مجزرة على هيئة طفل، طفل على هيئة شجرة ليمون، شجرة ليمون على هيئة جدّة، جدّة لا تعرفُ القراءةَ والحساب، لكنّها تحصي أحفادها جيّداً، وتخبّئ لغائبهم قطعة السكّر. غائبهم الذي أخذته مجزرة، مجزرة على هيئة هذا العالم”.
الشِعر كشفٌ وخلاص
شمول واستثناء، وإدراك حسي يصير أداةً للتأمل، فثمة أماكن، أحلاماً صلدة متماسكة تدفعنا للتمسك بالوجود، ولأننا بها نقوى، ونعالج الضجر والسأم، فالروح؛ روحنا ترى عن طريق الشعر الحياة عاريةً، فالشعر كشفٌ وخلاص، الشعر يريحنا من متاعبنا، من آلامنا الحسية والعقلية، ترانا نرتعش ونتنفس بعمق، وقد نبكي من شدة الفرح بأنّ أحلامنا لم تحترق: “عرفت أباً سويدياً مات ابنُهُ في إعصار تسونامي، فجلب جثته وأحرقها، وذرا رمادها في البحيرة. لا شيء؛ رماد. هكذا ينتهي الإنسان رماداً في بحيرة. بينما ينبتُ موتانا ورداً وشوكاً وقمحاً وفاكهة لأمسياتنا… نحن الذين لا يموتون، ولا يحبون الموت”.
إحراقٌ وموت ورماد، ووجود. التحام بين الفكرة وموضوعها. لكن تمام لا يكف عن السخرية والتحدي، فموت طفل شبعان بين أولادٍ يموتون من الجوع هو ما يثيره، هذا عقل مفعم بالحياة. عقل لم يتحوّل إلى فولكلور، ولا أطلال، عقل يفكّر وبمشقة، لأنه يكافح من أجل الإنسانية.
وهنا نتلمس بعضاً أو أصداء من تأثيرات رياض الصالح حسين ومحمد الماغوط، فهو كما الشاعرين، يقوم بممارسةٍ عالية للوعي الاجتماعي والسياسي، وهذا لا يقلل من أهمية تجربته، فهو يحفر ليرسي قيماً شعرية ذات شحنات انفعالية وصور. بل أفكاراً في صورة شعرية: “مراراً رجوتُهم، عمال البلديّات الذين يجمعون أوراق الخريف في محيط جذع الشجرة: اتركوا الموتى على أرضهم، لا تُبعدوا جثثهم إلى أماكنَ غريبة فيموتوا مرتين!”.
قضايا الحريّة الإنسانيّة
إنها رؤية ثورية ضد أشكال الاغتراب والاستلاب الإنساني، وهي رؤية ترتبط بواقع الحياة التي تحكمها السلطات الرجعية وإن ادّعت التقدمية. فالشاعر يحمل ويدافع عن قضايا الحرية الإنسانية، عن مآسٍ تطحن الإنسان وتحوله إلى “شيء”: “لا أنا أيضاً مللتُ انتظارَ العاصفة، لكنّ الجدرانَ الخاوية موحشة، والفراغ فسيحٌ جداً، وأنا وحيدٌ أجيلُ ناظري وأنتظرُ زيارات الأصدقاء الذين يجيئون وفي جعبهم ما يكفي من الحزن والنبيذ والكلام، بينما أمارس حياتي اليومية كواجبٍ مقدّس، أو كعادةٍ سيئة…أحتاجُ هذه الأشياء، لكي أملأ فراغاً عميقاً مثل طلقةٍ في الصدر، لشقيقةٍ تستنكرُ الغبارَ على طاولةِ الطعام، أو لأمٍ تدمعُ كلما رأت منفضةَ السجائر ممتلئة برمادٍ، نارُهُ صارت في صدرِ طفلها”.
وهو بهذا يخرج من الفردية والنرجسية والغموض والثرثرة الثورية، لأن الشعر تعبير، أو هو صوت الضمير الإنساني الذي تكسره وتدوس عليه عجلات الاستبداد السياسي والقهر الاقتصادي. تمام هنيدي يكشف عن وجه الإنسان الواقعي، وبحريّةٍ شعرية في صراعه مع قوى تهتك شرفه: ماذا يفعلُ رجلٌ يجلسُ وحيداً بجذعٍ وحيدٍ وساقينِ ورأسٍ، ماذا يفعلُ رجلٌ، ترك يديهِ في المنام تشدّان يديكِ حين كنتِ خائفة؟!