يتناول حقيبته المدرسيّة، يحملها بصعوبة قبل أن يُلصقها بظهره لتحتلّ مساحته كاملة. يضع نظّارته السّميكة ويتحرّك بتثاقل على الدّرجات المؤدية إلى الشّارع. يخطو بضع خطوات ليقابل جارهم البقّال عند باب دكّانه. يسلّم عليه بصوت حادّ: “كيف حالك أبو محمّد، يسعد صباحو.” يبتسم الرّجل رادّاً السّلام على الطفل الذي سابق سنّه. يحيّي أيضاً شادي سائق التاكسي وعامل النّظافة وأمّ شريف التي تسقي الأزهار. غير أنّ أمّاً متربّصة خلف ستارة نافذة تظلّ صامتة الجوارح ترقبه حتّى يختفي. يتوغّل بين جموع الأولاد الهائجة في ساحة المدرسة. كان محطّ الأنظار كلّما اقترب منهم، تعلو صرخاتهم هاتفة باسمه: “سالم!” “صباح الخير.” “إيش ولا؟” تمتدّ أيديهم ضاربة رأسه، و(ربّما) أرجلهم رافسة حقيبته. يبتسم في كلّ الحالات، ويواصل تقدّمه نحو مكانه المخصّص على الصّفة الإسمنتية. يُقرع الجرس. ينتظم الطّلاب ويدخلون القاعات. تلك بداية يوم جديد كئيب في نظر سالم حين يدخل المعلّم القاعة. “ترى ما الذي سيفعله الآن!” تأتي الإجابة سريعة إذ يبان الّلون الأبيض بين يدي أستاذ الرّياضيّات: “محمد، أحسنت، علامة كاملة. سعيد، أحسنت. رباح، لا بدّ أن تذاكر أكثر. جميل، ألم أشرح هذا الخطأ كثيراً، انتبه…” إلى أن يقول: “سالم.” ينظر بصمت ميمنة الولد في الصّفّ الأوّل قبل أن ينفجر صارخاً: “ألا يملّ أهلك من إرسالك إلى المدرسة!، ألم يلاحظ أحد منهما أنّك لبثت كثيراً في هذا المكان دون فائدة! صفر يا سالم. صفر من جديد.” يضرب الورقة أمامه، تتخلّل أصوات ضحكات الأولاد ذلك الصدى المتردّد في القاعة. يخفض سالم رأسه إلى أن ينتهي الدّرس ويرحل البغيض. تقفز مجموعة من الطلاب إلى الأمام. تتجمهر عند سالم الذي يصدح قائلاً: “المرّة الجاي بدّي أكسرله رجله وأعلّقها بالسّقف، هاد فيثاغورس أبو شخّة.” ينفجر الجميع حوله ضحكاً، كما يبادلهم ذلك. تبرز أسنانه في فكّه العلويّ للأمام كلّما انفرجت أساريره. حان وقت الاستراحة. يخرج الأولاد لتناول وجبات فطورهم. يتحلّق عدد منهم حول سالم يستمعون لكلماته الممتلئة بالخيال والجرأة. يلمح ذلك أحد الأساتذة من النّافذة المرتفعة، حيث لا يزال أستاذ الرّياضيّات غاضباً من الفتى الغبيّ.
وأخيراً قُرع جرس نهاية الدّوام. اهتاج الطّلاب حتّى اختفوا. فرغ المكان. ظلّ سالم باب المدرسة منتظراً. انقضت ساعة قبل أن تُسمع أصداء جرس آخر في مدرسة أخرى. مرّت دقائق قليلة قبل أن يمتلئ الشّارع من جديد. كانت الأجساد أكبر حجماً وأفرع طولاً. برزت أسنان سالم ثانية، وألصق حقيبته بظهره. بلغه المتقدّمون. منهم من عانقه، ومنهم من ضربه على رأسه، ومنهم من سبّه. التحم بالجمع مبتعدين.
صعد الدّرجات مسرعاً. هرول في الممرّ قبل بلوغه باب البيت. فُتح. ألقى حقيبته على العتبة. صرخت أخته: “تعال تعال زي الحمار، قيم شنتتك.” لم يسمع أيّ شيء. كان قد خلع قميصه وتربّع على الأرض أمام الشّاشة الكبيرة، فسيبدأ الآن فيلمه المنتظر. جلب صوتُ أخته المرتفع أمّه من المطبخ. اقتربت منه. “ها سالم، كيف كان يومك؟” كان مغشيّاً عليه فيما يتقلقل أمامه من عالم. “سالم. سالم!” مدّت يدها وأطفأت الجهاز. انتفض من مكانه مستشيطاً غضباً: “شو بتعملي؟ شو بتعملي! بدّي أحضر هلّأ بِروح عليّ.” دفعها بعيداً قبل أن يعيد تشغيل التلفاز ويجلس مكانه. لم تحرّك ساكناً. راحت تفتّش حقيبته لتجد كالعادة قاذورات مختلفة من صنع شياطين المدرسة، (لا تنسى أبداً حينما وجدت ذات يوم في حقيبته فأراً ميتاً نتن الرّائحة). قلّبت كتبه التي تبدو جديدة دائماً. عثرت على ورقة الرياضيات. “صفر جديد فوق أكوام لا تنتهي من الأصفار.” دقّ قلبها لتستمع عيناها فتنفر منهما دمعة. اتّجهت نحوه منفعلة: “إيش هاد سالم؟ درّسناك لآخر الليل أنا وخواتك!” لم يتحرّك شيء في جسده، لكنّه كان مصغياً لما تقول. فلتت زمام نفسها فانقضّت عليه وضربته حتّى آلمتها يدها وبكى. بكت معه ثمّ غادرت الغرفة. أحاط المجرمون البطل في الفيلم، انقطعت أصوات نحيبه بعدما انشدّ للمَشاهد من جديد. كانت عيناه وخدّاه مليئة بالدّموع.
في صباح اليوم ذاته قبل موعد انطلاق سالم لمدرسته بساعة، انفتح باب في الطابق العلويّ. تسلّلت منه أقدام لا يُكاد يُسمع دبّها، أنهت قاطعَيْ درج بين البيتين، ثمّ الممرّ، إلى أن وصلت الباب الأخير. اختفت في الأسفل حتّى جاء باص المدرسة الأصفر، صعدته كهبّة ريح سريعة. حاولت أن تتقوقع على نفسها بعد جلوسها، لكنّ ذلك كان مستحيلاً على رجليها الطّويلتين وهامتها المرتفعة التي تكاد تلامس سقف الباص من علوّها. اكتفت بالاختفاء مخفضة رأسها كنعامة، غير سامحة لأحد بالجلوس جوارها. انتهى التجوال. اصطف الباص في ساحة المدرسة. خرج جميع من فيه إلا هيَ. “يلّا يا رجاء وصلنا.” قامت من مكانها دون أن ترفع ناظرها وهرولت من دون وعي. ارتطم رأسها بحافّة الباب العلويّة قبل أن تخرج وتكمل الجري. قال سائق الباص للمشرفة: “منيح اللي حطّينا اسفنج على هالزاوية، كم مرّة خبط راسها.” “سيدي خبط والا ما خبط، ناقصنا معقّدين.” توجّهت مباشرة لقاعة درسها. جلست في المقعد الأخير المزويّ. ظلّت ساكنة في مكانها حين قُرع الجرس. ثم سمعت الطالبات يهتفن النّشيد الوطنيّ. وكلمات الصّباح. ثمّ أصوات أمواج تقترب ويُفتح الباب. فتنقلب الرّاحة عناءً، والجمال قبحاً.
تدخل معلّمة، تخرج أخرى. تتحرّك الطالبات ويحدّثن بعضهنّ. تفرغ القاعة وقت الاستراحة، ترفع رأسها قليلاً لتتأكدّ من خلوّ المكان. تُخرج من حقيبتها طعامها المُعدّ بحرص. يُفتح الباب فجأة، يعود رأسها للانغماس. يقترب ظلّان من الزّاوية. يتوقّفان. “مرحبا رجاء كيف حالك؟” صمت يعتري الفتاة الجالسة. تكمل المتكلّمة: “بدناش نزعجك، بس معك دفتر الانجليزي بدنا ندرس عشان امتحان اليوم.” سكون. تومئ برأسها المنخفض. تتحرّك ببطء، تسحب حقيبتها وتخرج المطلوب. تمدّ يدها وترفع رأسها مبتسمة. كانت تلك من المرّات القليلة التي ترى فيها الفتيات وجهها بشكل مباشر. لم تستطيعا تمالك نفسيهما من الخوف إثر تلك النّظرة. اختفت ابتسامتاهما وتراجعتا للوراء. ذلك وجه يشبه وجه الوحوش، ابتسامة تخبّئ أحجاماً وأشكالاً مختلفة لأسنان غريبة. وعينان مسحوبتان للجوانب ترتفع إحداهما عن الأخرى. قطعت رجاء ابتسامتها. تجرّأت إحدى الفتاتين فمدّت يدها وخطفت الدفتر، ثمّ اختفتا من المكان عدواً. ارتفع معدّل نبض الفتاة المتروكة. اهتاج صدرها وانفجرت باكية حتّى ملأت المكان أنيناً وبلّلت الطعام أمامها.
تعود لبيتها بالطّريقة نفسها. تهبّ رياحها وهي تغادر باص المدرسة، تجري صاعدة. يوقفها صوت حادّ تألفه: “رورو.” تتسمّر مكانها. هي ليست بحاجة لترفع رأسها فسالم هو الذي يفعل ذلك حينما يخاطبها. كانت تستطيع النّظر في عينيه الصّغيرتين دون أن تصنع نظّاراته حاجزاً، كما أنّ أسنانه البارزة تشعرها بالانتعاش دائماً. “وينك يا بنتي، كنت بستناكي!” كان الشّيء الوحيد الذي يجعلها تضحك بصدق. لم تكن تسأل نفسها كثيراً قبل أن تحاول الكلام في حضرته، فقد انتظرها دائماً إذا تكأكأت دون أن تختفي أسنانه. لم تزعجه أبداً نغمة صوتها الثقيلة المتردّدة. “ال ال اليووم بد بد بدنا نلتقي عال عال عالمرجيحة بالساحة؟” “آه والّا. ولك هبلة، اليوم الخميس ما في بكرا دراسة. متل كلّ مرّة بتخليكِ إمّك تيجي.” رحُبت ابتسامتها وهي تنظر إليه، ثمّ انطلقت صاعدة. لحقها وسبقها، ثمّ انتظرها لتسبقه (مثل كلّ مرّة).
عاد إلى البيت. تناول غداءه وهو يشاهد حلقة من مسلسل أجنبيّ. هيَ حضّرت دروسها للأسبوع القادم. اعتدلت حرارة الشّمس في طريق مغيبها. وصل سالم أوّلاً، صعد الأرجوحة وهزّها بأقدامه التي بالكاد تلامس الأرض. لم تتأخّر رجاء، اقتربت وجلست جانبه. ارتفعت ركبتاها قليلاً عن مستوى خصرها، لكنّها كانت مرتاحة. “آه رورو، صرلي أسبوع مش شايفك. شو في ما في، إحكيلي!” “م م متل كو كو كل مرة، ما ما مابدي أش أشوف حد، كل كل ال الناس مش مش مناح، بَك بَك بكرهم. بد بدي أش أشوفك إن إنتا بس.” “الله ياخدهم النّاس. ويكسّر إيديهم. ويخرسهم. أنا كمان ما بسمعوني، بس بضربوني.” اختلف لهج سالم واختفت أسنانه. مدّت رجاء يدها ذات الأنامل الطّويلة ومرّرتها على شعره القصير الّلزج. بدون أن ينظر لها تابع كلامه: “مبارح بالّليل لمّا الكل نام، سمعت صوت أبوي رجع عالدّار، قمت أسلّم عليه. كانت أمّي بتحطّله أكل، سمعته بحكي عنّي. تخبّيت وركّزت. حكا إنّو أنا خلص ما رح أكبر أكثر، هيك حكاله آخر دكتور.” شدّت ابتسامته خدّيه للجوانب، وأبلجت أسنانه ثمّ قال: “حكا إنّه رح أضلّ صغير.” أنزلت رجاء يدها وجذبت بإصبعها دمعة تراكمت في طرف عينه. “و و وأنا ال ال البنات بح بح بحكولي يا يا غولة، و و وبرمو ع ع عليّ زبالة.” غيّر سالم جلسته، أركى جسده على وركه الأيمن، أخذ نفساً وقال: “إسمعي، طزّ فيهم. قررت أجيب طيّارة، وبدّي أشتري بدلة كمان. وحمار أحطّه عالجبل، بس ما معي مصاري. شو رأيك؟” جعلها تضحك. انطلق بالحديث، لم يكن لما يقوله أيّ معنى، بينما كانت كلماته بالنّسبة لها عالماً خاصّاً.
ثمّ تمرّ الأيّام ثقيلة عليهما. الجميع يقضي حاجته في الاستمتاع من طريقة كلام الولد الّذي لا ينمو. كما أنّ الأمّهات يكرهن البشعة سارقة المرتبة الأولى من بناتهنّ في المدرسة. لم يسبق لهما أن أخبرا أحداً ما يدور في خاطريهما. في يوم خميس آخر، رفع سالم قميصه ليُري رجاء سرّاً. كدمات زرقاء داكنة تنتشر على جانبيه. “أي أي أيش هاد؟” “إمّي وخواتي بضربوني بالقشاط لإنّي ما بدّي أدرس. وبعدين بيحكولي أنا أصلاً ما بفهم شي.” ” ال ال الله ياخدهم.” “لا ما تحكي هيك. أصلاً إمّي بتحزّن. مبارح ضلّت تضرب راسها بالحيط لتقريباً نزل منّه دم.” سكتت رجاء قبل أنّ تَغْرَوْرق عينيها بالدّموع. صوت نحيب مخنوق تصعّد من صدرها. “مالك رورو شو في؟” “ال ال ال ال اليوم ال ال ال البنات س س سحبوا الكرسي، او او ووقّعوني ع ع عالأرض، او او وبعدين كب كب كبوا ع ع عليّ ع ع عصير و و وكولا.” مالَ طولها عليه كبناء يقع. وبالكاد أمسكها ودفعها من جديد لمكانها. وقف أمامها ورفع يديه عالياً ليمسك كتفيها. هزّهما. حاول جاهداً أن يخرجها من تلك الحالة. نجح بصعوبة، لكنّه في قرارة نفسه علم أنّه بحاجة ليصنع لها فرحاً من نوع آخر. فرحاً أكبر من آلامها.
ينتهي الأسبوع يوم الخميس، أو يبدأ. في الحالتين سيكون الأمر مختلفاً هذه المرّة بالنّسبة لسالم. عليه أن يجد فكرة عظيمة يُدخل بها الابتهاج إلى قلب ابنة عمّه التي لا تتعاطى مع أحد غيره. كما أنّ عليه أن ينسى أحواله الخاصّة لسبعة أيّام قادمة. “أمر شاقّ أن تجد ضالّتك إذا أردتها.” هكذا أثبتت الأيّام الثّلاثة الأولى من الأسبوع، فلم يخطر بباله شيء. حاول جاهداً عدم ملاقاة رجاء على طريق البيت أو في أيّ مكان. لم يكن يريد أن تسأله. تقرّب يوم الإثنين من أختيه في محاولة لسؤالهما عما تحبّ البنات ويفضّلن، غير أنّهما لم تعيرانه أيّ اهتمام. صوت التلفاز المتذبذب من بعيد يفقده اتّزانه، يحدث صراع قبل أن تنتصر الصّورة المتحرّكة. من دون إحاطة تمرّ ثلاثة أيّام أخرى. تُحْكم يده الصّغيرة التفافها حول جهاز التّحكّم. يضغط بإصبعه فيتنقّل بين القنوات. تتجمّد عيناه وتبرز أسنانه على مشهد في محطّة رياضيّة، كان غريباً أن يجد مراده فيه. ابتسامات تحت الخوذ ونظّارات صدّ الرياح، شريكان يدوران في فلك بعضهما في رقصة أخّاذة خلال دنوّهما من الأرض بعد أن قفزا من الطّائرة. فتاة في غاية السّعادة تعتلي ظهر صاحبها. التصقا فأصبحا جسداً واحداً. تنفتح المظلّة وتتحوّل الحركة المتسارعة إلى متأنية. أصوات موسيقى هادئة أضفت رونقاً لجهنّميّة الحدث. وصلا بسلام لينتهي المشهد بقبلة. ضغط سالم الزّر الأحمر. استفاد من هدوء المكان في تخيّل ما سيفعل. ثمّ نطَّ من مكانه. أحضر سلّماً بلاستيكيّاً وصعد إلى السّقيفة. لم يطل البحث حتّى وجد الشّمسيّة الكبيرة. نزل بها ثمّ فتحها مُجرّباً. كلّ شيء على ما يرام. توجّه إلى فراشه ونام مبكّراً على أحلام غده.
لم يرَ شيئاً ولم يكلّم أحداً، فقد سرقته خيالات الخطّة من يومه. انطلق مسرعاً للبيت بعد الجرس الأوّل. لاحظت عينان مراقبتان وصوله المبكّر. رمى حقيبته وصعد ثمانية قواطع درجيّة للسّطح. ابتدأ معاينة المساقط والحواف. يبدو أنّ أفضل أماكن الهبوط هو ذلك الذي ينتهي جانب الأرجوحة لسببين: الأوّل أنّ الأرض هناك منبسطة تماماً، والآخر هو أنّ للأرجوحة عند رجاء تأثيراً مُحبّباً له دور فيه. اقترب من الحافّة. وضع الكرسيّ ومدّ رأسه. “يا له من شعور ويا لها من إثارة.” انتابه إحساس بالخوف، لكنّ غايته لم تترك له مجالاً للتّراجع. يتبقّى الآن أن يُفرغ المحيط تحسّباً لأي خطأ (كان هناك سطل دهان وملاقط غسيل وبعض أكياس فارغة). عادت رجاء. رآها وهي تصعد من الباب مسرعة. “اليوم رح أخليكي اتطيري من الفرح.” عاد فركّز الكرسيّ مكانه. ركض نازلاً فوق القواطع. دخل المطبخ وتناول غداءه هناك. تفاجأت أمّه فلم تكن تلك عادته. ذهب إلى الغرفة وارتدى بزّة رياضيّة حمراء القميص والبنطال. حمل الشّمسية السّوداء الكبيرة وصعد بها إلى الأرجوحة، وضعها ثمّ عاد. تقابل مع رجاء على الدّرجات فأخبرها أن تنتظره. كان قد خبّأ في صندوق خشبيّ كبير ثلاث بطّانيّات. أخرج واحدة وأعطاها لها. أخبرها أن تتركها جانب الشّمسيّة. لحقها بالثانية. عاد مستعجلاً وأحضر الثّالثة. لم تفهم ما الذي ينوي فعله. تقدّم ورتّب البطّانيات فوق بعضها بشكل
يوازي المكان الذي سيقفزان منه. أمسك يدها الكبيرة وساقها للأرجوحة. أجلسها وقال: “بدنا انّط عن السّطوح ونطير بالهوا.” كان مبتسماً كالعادة لكنّه كان جادّاً أيضاً. صمتت قبل أن تقول: “بن بن بنموت!” “لا. هاي حطيت حرامات ومخدات بننزل عليهم.” سكتت قبل أن تعود لتقول من جديد: “بن بن بنموت!” “ولك لا لا هاي الشّمسية كمان. جبت أكبر وحدة، هيك بنطير وبننبسط. وإنتِ بس إمسكي فيي من ورا. الباقي عليّ، ما تخافي.” كان آخر صمتها هذه المرّة ابتسامة. (لم تتغير إجابتها في ذهنها، لكنّها) قالت: “تم تم تمام، يل يل يلا نطلع.” غمرها فرح غريب وهي تصعد القواطع معه، تنظر لحركته المنفعلة وحماسه. لقد كانت مركز الاهتمام. وصلا لاهثين. كان يمسك يدها بكفّ، وبالآخر الشّمسيّة. أشار بإصبعه: “من هون.” مشى متأنّياً حتّى وصل أمام الكرسيّ. نظر لها مادّاً رأسه للأعلى، نحو عينيها. أخرج من جيبه نظّارتين شمسيّتين. أعطاها واحدة ووضع الأخرى فوق نظّارته السّميكة. ابتسم وفتح زرّ الشّمسية المقفل. صعد على الكرسيّ، لكن قبل أن تصل رجله الأخرى تناولته يدان وسحبتا ما ارتكز عليه. “لهون وبس. أنا بخليها تطلع كلّ خميس تقعد معاك عشان تغيّر جو وترتاح من دراستها. بس شكلك انجنّيت. خلص. خلصنا. ما رح تلتقو بعد اليوم”. أنزلت سالم على الأرض وطلبت منه أن يعود لبيته. انتظرت حتّى اختفى. ثمّ قالت: “اتفضّلي يا ست خانم، بعد كلّ هالسنين وكلّ هالتعب عليكِ جاي تموتي!” تركتها تمشي أمامها ثمّ تبعتها.
هذه القصة القصيرة هي نتاج لإحدى ورشتي الكتابة، ورشة قصص أريحا القصيرة التي تمت في خيرف ٢٠١٨، وورشة قصص رام الله القصيرة التي تمت في صيف ٢٠١٩، بإشراف عدنية شبلي وبمبادرة من المؤسسة الثقافية لبنك الإعمار الألماني في فرانكفورت، وبالتعاون مع معهد جوته في رام الله.