التاريخ مادّةٌ لها مناهجٌ لدراستها في علمٍ اسمه التأريخ. ولأنّ مادّة التاريخ ليست موجودة أمام المؤرّخ والمؤرّخة لفحصها وقياسها ومعاينتها فإنّ عليه أو عليها تشغيل مهارة تخيّل الماضي لمقاربتها للحقيقة التي يبحثان عنها ما استطاعا. وعن التأريخ أخذ الأدباء بعض أدواته ليكتبوا ما عُرِفَ لاحقًا باسم الخيال التاريخي. فهل كلّ تاريخٍ مُتَخَيّل هو خياليّ بالضرورة؟
يبدأ الناقد الأدبي عبد الله إبراهيم مقدمة كتابه «التخيّل التاريخي» بعبارة “آن الأوان لكي يحلّ مصطلح ’التخيّل التاريخي‘ محلّ مصطلح ’الرواية التاريخية‘، فهذا الإحلال سوف يدفع بالكتابة السردية التاريخية إلى تخطّي مشكلة الأنواع الأدبية، وحدودها ووظائفها…”
لا بدّ أنّ عبد الله إبراهيم هنا كان يحاول وضع حلول لمشكلة تصنيفٍ كان يراها للأنواع الأدبية رغم أنّ كلمة ’رواية‘ هي دلالة على الجنس الأدبي للسردية والذي يختلف عن القصة القصيرة أو القصيدة، أي أنّها تصنيف لشكل السردية. بينما صفة ’تاريخية‘ هي نوع المضمون في السردية وليس شكلها حيث إنّ الرواية أو القصيدة أو القصة التاريخية مختلفة عن السياسية أو العلمية أو الاجتماعية… وهكذا.
لكن بما أنّ السياق هنا في خطاب إبراهيم قد عنى الرواية، والتي هي أصلًا تتضمّن الخيال ولا يطالبها أحد بمطابقة الواقع، فعلى ما يبدو أنّه عني بما ترجمته في الإنكليزية Historical Fiction. في حين أنّ حسين سرمك حسن قد هاجمه في مقالةٍ له على مجلة النور الإلكترونية بأنّه سطا على مصطلح Historical Imagination الذي نحته الفيلسوف الإنكليزي روبن جورج كولينغوود، والذي عني به الممارسة التي يقوم بها المؤرّخ لفهم الماضي وقياسه. فكيف إذن نفرّق بين هذين المصطلحين؟ والأهم من ذلك كيف نقوم بذلك باللّغة العربية دون أن تكون الاصطلاحات الغربية مرجعيةً لنا للترجمة؟
بالعودة إلى منطق اللّغة البسيط يمكننا القول بأنّ كلمة التخيّل هي مصدر فعل تخيّل وهي الممارسة التي يقوم بها الشخص لتصوّر شيءٍ لم يشهد عليه، أو ربما شهد عليه ويعيد استذكار مشاهده. وقد أعطى كولينغوود حتى مثالًا على ذلك بقوله إن رأى شخصٌ ما سفينةً في نقطة معينة في البحر ثمّ التفتَ عنها وعاد ونظر إليها ووجدها في نقطة أُخرى فلا بدّ أنّها أبحرت من النقطة الأولى إلى الثانية، وعملية الإبحار تلك قد تخيّلها ذلك الشخص الواقف على المشهد لأنّه التفت بوجهه عندما حصلت ولم يشهد عليها. إذن فعملية التخيّل هنا لم تُنتج سرديةً تنفي الواقع أو تخترع وهمًا بل كانت مكمّلة للمشهد الذي لم يره الشخص بالكامل.
بالعودة إلى التأريخ فلا يوجد، على عكس المشهد السابق، أي جزئية من الحدث مشهودٌ عليها من قِبَلِ المؤرّخ، وبالتالي فإنّ الأحداث التاريخية كاملةً قد مورس عليها فعل التخيّل. فالمؤرخون مثلًا يعلمون أنّ جيش صلاح الدين خرج من دمشق ووصل إلى القدس. وهم بالتأكيد مجبرون على تخيّله خارجًا من المدينة الأولى وقاطعًا المسافة بينها وبين الثانية آخذين بعين الاعتبار جميع الأحداث التي حصلت للجيش في الطريق. وتخيّلهم هذا مبنيّ على القرائن والشواهد التي يعتمد عليها علم التأريخ دون إضافات من قِبَلِهم على الأحداث، فجميع إضافات المؤرّخ تذهب نحو التفسير أو استنتاج ما لم يجدوا عليه دليلًا دون تأكيده، وهذه العملية جلّها تذهب باتجاه الوصول إلى ’الحقيقة‘ ومحاولة مطابقة الواقع.
يذهب التخيّل إلى أبعد من ذلك عندما يحاول الباحثون فهم طبيعة بعض الشخصيات من الماضي أيضًا. فمثلًا قام الفيلسوف ناصيف نصّار في كتابه ’الفكر الواقعي عند ابن خلدون‘ بتحليل بنية التفكير عند ابن خلدون والتي قادته نحو الواقعية مُبتدئًا بإدخال بعض تفاصيل حياته لفهم كيف وصل إلى الواقعية التي أصبحت لاحقًا معروفةً ’باليقظة الخلدونية‘ كما يسميها كثير من الباحثين في كتاباتهم.
أهم مصدر لحياة ابن خلدون كان كتاب ’التعريف‘، وهو عمليًا السيرة الذاتية لابن خلدون نفسه وقد قام ناصيف نصّار بتفنيد بعض الآراء حول قيام ابن خلدون بكتابة سيرته. فأورد أولًا رأي طه حسين من كتابه ’فلسفة ابن خلدون الاجتماعية، تحليل ونقد‘ والذي نصّ على:
“ما يسيطر عند ابن خلدون هو فكرة الأنا. اهتمامه في نفسه يظهر في سيرته الذاتية كما في سائر مؤلفاته، وإنّه لمن المرجّح أنّه لم يكتب سيرته الذاتية إلا بدافع الرغبة في التحدّث عن نفسه، وفي إظهار نفسه. وفي الواقع لقد كان ابن خلدون أوّل كاتب عربي يخصّص كتابًا كاملًا عن تاريخ حياته.”
ثمّ في الصفحة التي يليها أورد نصّار رأي جاستون بوتول:
“إنّ سيرة ابن خلدون الذاتية قصيرة جدًا، وإنّنا نجد فيها خصائص التصور الشرقي، أو بشكلٍ أعم تصوّر القرون الوسطى، عبر الخبر. فهو يروي الواقعات ولا يتعرّض للأفكار.”
في حين أنّ رأي نصار نفسه بكتابة ابن خلدون لسيرته هو:
“ابن خلدون لم يقصد إلى كتابة رواية كاملة عن تجاربه. لقد كان مقصوده التحدّث عن تمظهرات كيانه التاريخي، الثابتة في نسيج الحياة الاجتماعية السياسة.”
نرى من هذه الاقتباسات الثلاثة التي وقعت في خمس صفحات فقط بروز ثلاثة أبناء خلدون مختلفين تمامًا اعتمادًا على سيرته الذاتية فحسب. فالأوّل نرجسي والثاني ناقل خبر لا أكثر والثالث معني بالفكر فوق كلّ شيء. يذهب ناصيف نصار في تحليل فكر ابن خلدون في كتابه إلى أبعد من ذلك، أمّا هنا فلا يمكننا إلا القول بأنّ ثلاثة باحثين من تخصّصات مختلفة قاموا بممارسة فعل التخيّل على نصّ مكتوب لمحاولة فهم نفسية كاتبه أكثر، فنتج عن ذلك ثلاثة استنتاجات مختلفة. فهل تقع استنتاجاتهم في إطار اختلاق التاريخ أم محاولة مطابقة الواقع؟
هذه الاستنتاجات الثلاثة لا يمكن مقارنتها مع ابن خلدون ’الشخصية‘ في مسرحية «منمنات تاريخية» لسعد الله ونّوس. ففي المسرحية هناك حوارات مختلقة بين ابن خلدون وتلميذه شرف الدين لا تعتمد مرجعيات تاريخية. وهناك أيضًا مشاهد غير مبرّرة بحثيًا كمشهد الجارية التي كانت تغسل قدميه. منطق الحوارات على لسان ابن خلدون وتصوير الشخصية عند ونّوس نابع من قراءته لتاريخ ابن خلدون وفكره، لكنّ الفارق بينه وبين الثلاثة السابقين هو أنّه صنع من تخيّله صورًا خيالية مُستقصدًا بذلك التعبير عن نظرته فيهما وحسب، وهو بالتالي أيضًا مارس فعل التخيّل من دون أن يكون معنيّا بمطابقة الواقع وإيجاد الحقيقة التاريخية. وكذلك الأمر في رواية «العلّامة» لبنسالم حمّيش ورواية «خلدون» لمفالي بوانار؛ حيث أنّ ابن خلدون هو رجلٌ له هواجسه ومخاوفه وطريقةٌ في الكلام ونصّ محدّد فيما قاله في مواقع معينة. تختلف الروايتان والمسرحية فيما بينها، وتختلف بينها وبين استنتاجات الباحثين الثلاثة أعلاه، ولو أنّ الروائي قد يستند أحيانًا كثيرة إلى باحثٍ ما أثناء بناء شخصيته الدرامية في عمله.
يقول تولستوي في مقدمة رائعته «الحرب والسلم»: “المؤرّخ والفنان حين يرسمان صورة لعصرٍ من العصور يستهدفان أمرين مختلفين كلّ الاختلاف. إنّ المؤرّخ ليخطئ إذا هو أراد أن يصوّر شخصًا من التاريخ تصويرًا تامّا يتناوله كلّه ويرسم مجموع علاقاته المعقدة بجميع جوانب الحياة. وكذلك لا يقوم الفنان بمهمّته إذا هو عرض شخصيته في وضعها التاريخي دائمًا.”
إذا كان الاختلاف بين الفنّان (الأديب، المصوّر، الرسّام، صانع الأفلام…) والباحث (مؤرخ، ناقد أدبي، عالم اجتماع، فيلسوف…) هو كيفية التصوير النهائي للشخصية التاريخية أو للحدث التاريخيّ، فهذا لا يعني أنّ أداتهم للوصول إلى تصويراتهم مختلفة، بل على العكس، فإنّ التخيّل التاريخي هو وجه التشابه. ففيما يتعلّق الأمر بأحداث الماضي يقوم الباحث والفنّان بممارسة فعل التخيّل التاريخيّ حيث يسعى الباحث لمطابقة الواقع بينما يصنع الفنان خيالًا سواء في الحدث أو الشكل أو طباع الشخصيات. وبناءً على هذا فالتخيّل التاريخي هو ممارسة أمّا الخيال التاريخي هو نوعٌ فنّي، وبالتالي فروايات الخيال التاريخي أو كما هي معروفة بالروايات التاريخية هي نوعٌ واحد فقط من جنس أدبيّ واحد وهو الرواية.
بما أنّ الخيال هو الوهم المختلق وعكس الواقع، يمكن إطلاق مصطلح الخيال التاريخيّ على أيّ عمل فنّي يحاول تصوير الماضي سواءٌ أكان هذا الماضي حقيقيّا أم لا بشكلٍ غير واقعي، من أدب إلى جميع الفنون البصرية كالرسم والأفلام والأزياء وحتى الفنون السمعية كالغناء والموسيقى. لكن حصر مصطلح ’التخيّل التاريخي‘ بممارسة فنية وإسقاط قيمتها البحثية، أو العكس، هو انتقاصٌ من بعض مضامينها على حساب الأُخرى. وهذا هو الفخ الذي وقع به البعض عندما استندوا إلى المصطلحات الأجنبية لتفسير مفاهيم خاضعة لنظام الأوزان في اللّغة العربية.