لأنّ مجهولاً يُحطّم زجاج سيارته دائماً، يضع الأب كاميرا مراقبة يُسلّطها على سيارته المركونة أمام مبنى المنزل العائليّ، كي يكشف الفاعل. يحدث هذا عام 2006. اليوم الأكثر تسجيلاً لحركة الشارع سيكون الأربعاء، 19 يوليو/ تموز، ذاك العام. هناك أيام أخرى وأوقات أخرى، لكنها قليلة الظهور على الشاشة. التسجيلات تذكر هذا، وبعضها غير موثِّقٍ تاريخه أصلاً، أو هكذا يظهر أمام عينيّ المُشاهِد.
هذا منطلقٌ درامي لـ”صيف غير عادي” (2020)، جديد الفلسطيني كمال الجعفري، المُشارك في “عرض عالمي أول”، في برنامج Burning Lights ـ المسابقة الدولية، في الدورة الـ51 (17 إبريل/ نيسان ـ 2 مايو/ أيار 2020) لمهرجان الفيلم الوثائقي في سويسرا “رؤى الواقع (Visions Du Reel)”، المُقامة افتراضياً (عرض الأفلام عبر الموقع الإلكتروني للمهرجان). منطلقٌ درامي لفيلم توثيقي يكتفي بتوليف تسجيلات يعثر عليها المخرج في الفناء الخلفي للمنزل العائلي، بعد وفاة الأب ذات يوم من أيام عام 2015: “لم يُشاهِد اللقطاتَ أحدٌ آخر غيره”، يكتب الجعفري في “جينيريك” النهاية، الذي يُهدي فيه الفيلم إلى ذكرى والده عبد الجليل.
الاختبار السينمائي معروفٌ في تجارب سينمائيين عديدين: كيفية تحويل لقطات مسجّلة قديماً إلى فيلم حديث الإنتاج. لقطات بعضها معروفٌ، لأنّه مبثوثٌ على شاشات تلفزيونية. بعضها الآخر مجهولٌ، لبقائه طويلاً في “مكانٍ ما” كـ”إقامة جبرية”، بانتظار قرارٍ يعفو عنه، أو العثور عليه. تجارب تشي بأنّ الفيلم الوثائقي يشهد تبدّلات في نمط اشتغاله، تمنحه فرصاً مختلفة لكشف قدراته الفنية والجمالية والبصرية على إحداثِ تغيير جذري في مقاربته السينمائية حكايات ومسائل وتفاصيل. الذاتيّ حاضرٌ أحياناً، لكن حضوره غير مُكتمل من دون انفتاح على حكايات أخرى، فيُصبح الذاتيّ مدخلاً إلى عوالم وانفعالات وذاكرة.
الاختبار صعبٌ: فمُقابل وفرة المواد الأرشيفية، التي يسهل الحصول عليها بعد سنين على أحداثها، هناك كيفية جعلها فيلماً متكاملاً، يرتكز على عناصره المطلوبة، ويستعين بعبقرية التوليف ليبدو كأنّه مُصوّر “الآن هنا”. الأوكرانيّ سيرغي لوزنيتسا والبريطاني آسيف كاباديا أبرز العاملين في هذا المجال: البحث في الأرشيف عن موادٍ مُصوّرة، وانتقاء المناسِب للمشروع المنوي تنفيذه، وتسليم اللقطات المُختارة إلى المولِّف بإشراف المخرج، وصناعة فيلمٍ يُتيح للمواد الأرشيفية المختارة أن تروي الحكاية المطلوبة. لوزنيتسا متوغّل في التاريخ والذاكرة السوفييتيين. آخر اختباراته، “جنازة رسمية” (2019)، يستند إلى أرشيفٍ ضخم، مُسجّل صورة وصوتاً، يتناول الأيام الـ4 التالية لوفاة جوزف ستالين (1878 ـ 1953)، في 5 مارس/ آذار. كاباديا ذاهبٌ إلى مشاهير في الفن والرياضة، محقّقاً 3 وثائقيات تُعتبر الأجمل والأفضل في صناعة السينما الوثائقية، والأهمّ في سِيَر شخصياتها: “سينّا” (2010) عن بطل فورمولا 1 البرازيلي إيرتون سينّا، و”آمِي” (2015) عن المغنية البريطانية آمي واينهاوس، و”دييغو مارادونا” (2019) عن لاعب كرة القدم الأرجنتيني، المحتفظ في أرشيفه بمئات الساعات المُصوّرة، التي يختار السينمائي بعضها لإعادة كتابةٍ بالصُور لفصلٍ من السيرتين الحياتية والمهنية لمارادونا، في فترة انتسابه إلى “نادي نابولي”.
“صيف غير عادي” أكثر حميمية. هناك أبٌ يريد معرفة من يُحطّم زجاج سيارته. هناك ابنٌ يعثر على التسجيلات بعد 9 أعوام على تاريخ التصوير، فيراها مادة لصناعة فيلمٍ يمزج التوثيق بالتسجيل، ليروي حكاية ويكشف ذاكرة. هناك أناسٌ يمرّون أمام الكاميرا غير المرئية لهم، وهم جيران وأقارب ومعارف وآخرين، وكلّ واحد منهم له مكانه في “فيلم” الوالد (كاميرا المراقبة). هناك ذكرى لقاء الأب بالأم، وشيء من ماضٍ جميل وأليم، وتفاصيل صغيرة عن علاقة السينمائي بالمكان ومعناه. في خلفية هذا، هناك شجرة تين، وعلاقة حميمة بين عاشقين يُصبحان والديّ المخرج، قبل سطوة المحتلّ الإسرائيلي على أشياء كثيرة، مُقتلعاً الشجرة، ظنّاً منه أنّ اقتلاعها يُستَكمَل باقتلاع ذاكرة وحكايات.
يُحافظ كمال الجعفري على الأشرطة والتسجيلات كما هي، مع أنّ بعض التسجيل رديء وصُوَر بعض آخر مهتزّة، ومعالم أناسٍ عديدين مُصوّرين فيها غير واضحة. لكن، هناك ما يوحي بأنّ التصوير مُركّب، بدلاً من أن يكون أرشيفياً بحتاً، كأنّ الجعفري يريد إثارة شعورٍ بأنّه يخرج أحياناً من غرفة توليف إلى مُتخيّل سينمائي، يريده جزءاً من سرد الحكاية. رغم هذا الإيحاء، وإنْ يحتمل جمالية الالتباس البصري البديع بين المُسجّل والسينما، تبقى التسجيلات المستخدمة في الفيلم قديمة، غير ممسوس بها، وإنْ “يظهر” تلاعبٌ فني ـ تقني ما، فبهدف إثارة المُشاهِد، ودفعه إلى مزيد من التورّط في ثلاثية الصورة ـ الجاني/ الفاعل ـ الذاكرة. والإيحاء جميلٌ، ففي نهاية “صيف غير عادي”، يروي الجعفري بكلمات مكتوبة نصّاً سردياً يوضح أشياء مخفيّة في الحكاية المُصوّرة/ المُسجَّلة. والكلمات مكتوبة بخطٍّ يستعيد زمن الأفلام الأجنبية القديمة، خصوصاً أن الاحتفاظ بتسجيلات رديئة جزءٌ من تلك اللعبة السينمائية، التي تمنح مُشاهدها متعة وتسلية، في رحلة العودة إلى الماضي، عبر صُوَر تقف في لحظة ومكان يتوسّطان معاً المسافة الفلسطينية بين ماضي الأهل وراهن المخرج.
جمالية “صيف غير عادي” منبثقة من توليف (كمال الجعفري وسايبوم كيم) التسجيلات في سياق سرديّ يُحافظ على مكانه (كاميرا المراقبة ثابتة في موضعها، رغم أنّ صُوراً عديدة فيها تبدو كأنّ عدستها تتحرّك بين لقطات قريبة وأخرى واسعة) وزمانه (يومٌ واحد بشكلٍ أساسيّ، مع انتقالات قليلة إلى أوقاتٍ أخرى، قريبة من التاريخ نفسه). إضافة تعليق صوتيّ (دارين دبسي) يُعرِّف بشخصيات، ويقول انفعالات، ويبوح بشيء من عاطفة وذاكرة، ويُترجم مشاعر وتفاصيل، تُضاف إليها أغنيات عربية وأجنبية، منها لوردة (“آه لو قابلتك من زمان” و”حكايتي مع الزمان”)، ومنها لفايزة أحمد (أحبّه كثيراً) ولعبد الحليم حافظ (حبيبي الغالي).
التعليق الصوتي امتدادٌ لوفرة اللقطات/ التسجيلات، واكتمالٌ بها ومعها في مُنجز بصريّ، يحافظ على خصوصيته العائلية، وينفتح على شيء من يوميات أناسٍ وتفاصيل سلوكهم، وإنْ يكتفي كمال الجعفري بما تمنحه له التسجيلات لكشف بعض ذاك السلوك والمظهر: حركة الفرد في سيره على القدمين أو في ركوبه دراجة هوائية، كيفية مشي أحدهم في الشارع أو بين السيارات العابرة أو الواقفة، لقاءات سريعة مع مَعارف، علاقة بالسيارات المركونة أمام الكاميرا. هناك نساء وأولاد وعجائز وشباب يظهرون، وبعضهم أقارب للمخرج (الوالدان مثلاً). وهناك تساؤلات تمرّ بين حين وآخر: أهذا هو مُحطّم زجاج السيارة، أم لا؟
من رغبةٍ في اكتشاف الفاعل، يوثِّق عبد الجليل الجعفري لحظات من تاريخ وذاكرة، يُحوّلها كمال الجعفري إلى فيلمٍ يروي تفاصيل وهوامش تصنع صُوراً عن أناسٍ وبلدٍ واجتماع. أما الفاعل، فلعلّه الصبيّ الأخير الذي يظهر قبل لحظاتٍ من نهاية “صيف غير عادي”. لكن، هل معرفة الفاعل مهمّة؟ لن يُقدِّم الفيلم جواباً، فالأهمّ كامنٌ في أنّ تسجيلات عادية تُصبح، بالمتخيّل السينمائي للمخرج الوثائقي، فيلماً حيوياً ونابضاً بحبٍّ وارتباكات ومسالك وخبريات وتساؤلات.