مرّت سنة على سقوط عمر البشير. في ٦ أبريل من العام الماضي، تجمّعت حشود ضخمة أمام مقرّ القيادة العامة للقوات المسلحة السودانية، في يوم ذكرى الإطاحة سنة ١٩٨٥ بدكتاتور عسكري آخر، هو جعفر النميري، بعد حكم دام خمسة عشر عاماً. في اليوم التالي، شلّ السودان إضرابٌ عام، وفي ١١ أبريل، جرى عزل البشير بعد ٣٠ سنة من رئاسة كارثية.
بدأت الانتفاضة الشعبية السودانية يوم ١٩ ديسمبر ٢٠١٨، احتجاجاً على رفع سعر الخبز بقرار من حكومة عازمة على تطبيق الإرشادات النيوليبرالية القاضية بتعويم خزينة الدولة على حساب الفقراء. ولم تنفكّ الاحتجاجات تتصاعد من حيث الحجم والجذرية وصولاً إلى الاعتصام أمام مقرّ القيادة العامة في ٦ أبريل. وقد كان الهدف الصريح من الاعتصام دفع القوات المسلحة إلى الإطاحة بقائدها الأعلى. فقد تذكّر الأكبر سناً أو الأكثر تعليماً بين السودانيين أن الضباط الذين أطاحوا بالنميري في عام ١٩٨٥ لم يحتفظوا بالسلطة سوى عام واحد قبل تسليمها إلى حكومة مدنية منتخبة. لكنّ جميع السودانيين تقريباً تذكّروا المشاهد المثيرة لاعتصام سنة ٢٠١١ في ميدان التحرير في القاهرة، في قلب الانتفاضة الشعبية التي دفعت الضباط المصريين إلى الإطاحة بزميلهم، الرئيس حسني مبارك، بعد أن بقي هو أيضاً ٣٠ عاماً في منصبه.
والحال أن المتظاهرين في الخرطوم وسائر مدن وأنحاء السودان كانوا قد استوعبوا دروس التجربة المصرية، مثلما استوعبها المتظاهرون في الجزائر الذين حذوا حذوهم في فبراير ٢٠١٩، ثم أفلحوا قبلهم في دفع القوات المسلحة إلى إقالة الرئيس في ٢ أبريل. وقد شجّع نجاحهم الانتفاضة السودانية على مطالبة العسكر بأن يستوحوا من نظرائهم الجزائريين، بالرغم من أن اضطهاد العسكر للسكان كان على درجة أعلى بكثير في السودان. بيد أن الجزائريين والسودانيين سواءً أدركوا تماماً أن الوصاية العسكرية على السلطة السياسية هي حجر الزاوية في ذلك “النظام” الذي “يريد الشعب إسقاطه” وفق أشهر هتافات الانتفاضات الإقليمية.
ذلك أن الجميع رأى أن التغييرات التي جرت في قمّة الدولة المصرية بدون أن تمسّ أساس النظام – وهو أساس تشترك فيه مصر مع السودان والجزائر بوصفها دول المنطقة الثلاث التي يشكّل فيها الجيش المؤسسة السياسية الأساسية – تلك التغييرات أفضت بعد ثلاث سنوات إلى عودة الدكتاتورية بصورة أشرس. فلم ينخدع الحراك الشعبي هذه المرّة، لا في الجزائر ولا في السودان، بل استمرّ في التصاعد بعد الإطاحة بالرئيس مطالباً بحكومة مدنية كاملة الصلاحيات. وهذا ما يفسّر الفرق الكبير بين ردود الفعل المهلّلة بالعسكر إثر إقالتهم لمبارك في مصر في عام ٢٠١١، عندما كانت جماعة الإخوان المسلمين هي القوة المنظَّمة الرئيسية داخل الحراك الشعبي، وبين انعدام الثقة والتمرّد اللذين أبدتهما الحركة الشعبية في السودان، وقد كان لها من ينطق باسمها خلافاً لحالة الجزائر. فقد بدأ البيان الذي صدر عن “قوات إعلان الحرية والتغيير” يوم ١١ أبريل ٢٠١٩، إثر الإطاحة بالبشير، على النحو التالي: “نفّذت سلطات النظام انقلاباً عسكرياً تعيد به انتاج ذات الوجوه والمؤسسات التي ثار شعبنا العظيم عليها”.
فعدا الدروس المستفادة من مصر، لعبت أشكال التنظيم دوراً حاسماً في الحفاظ على جذرية الحراك السوداني. والكل يعلم الدور الذي قام به “تجمّع المهنيين السودانيين” و”قوى إعلان الحرية والتغيير”. نشأ التجمّع على مراحل خلال العقد الأول من هذا القرن عن نضالات متتالية خاضتها فئات مهنية شتّى: أطباء، صحفيون، محامون، بيطريون، مهندسون، معلمون وأساتذة جامعيون. وقد تأسس رسمياً في أكتوبر ٢٠١٦، عندما تبنّى أطباء وصحفيون ومحامون ميثاقاً، دون الحصول على ترخيص من السلطة. إن تجمّع المهنيين تعبير عن الطبقة الوسطى والمتعلمة، في رأي عمّار الباقر، عضو مجلسه، مع أنه يقرّ بأن شمل معلّمي المدارس في الطبقة الوسطى ليس بالدقيق. وقد يُقال الشيء ذاته عن قسم هام من الصحفيين.
هذا وعلى غرار جميع البلدان الخارجة من سنوات طوال من الدكتاتورية وسيطرة الدولة على النقابات، يشهد السودان منذ العام الماضي إعادة هيكلة واسعة النطاق للحركة العمالية ورابطات المزارعين. ويضغط اليسار من أجل تغيير في التشريع يستبدل نقابات المنشآت التي فرضها نظام البشير بنقابات مهنية. كما أن هناك تبايناً بين أنصار التعدّدية النقابية وأولئك الذين يريدون الحفاظ على وحدة الحركة النقابية مع جعلها مسؤولة ديمقراطياً أمام جمعيات عامة. على أي حال، فقد أصيبت الطبقة العاملة بالضمور في ظل نظام البشير بسبب التراجع العظيم في الصناعة لصالح اقتصاد ريعي قائم على استخراج الموارد الطبيعية (النفط حتى انفصال جنوب السودان في عام 2011، الذهب ومعادن وخامات أخرى)، وأيضاً بسبب تفكيك القطاع العام وتعهيد قسم من خدماته إلى القطاع الخاص، وكلّها أمور أدّت إلى توسّع كبير في القطاع غير الرسمي.
هذا وقد تميّز تجمّع المهنيين بسرعة بقدرته على مركزة أصداء شتى النضالات من خلال الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي، الأمر الذي جعله الممثّل الرسمي للنضالات المتكاثرة منذ ديسمبر ٢٠١٨ ولتجدّد النشاط النقابي العمّالي. وقد قطعت القيادة العسكرية الإنترنت في يونيو ٢٠١٩، عندما حاولت إنهاء الاحتجاجات بالقوة، لكنّها اضطرّت إلى إعادته في يوليو بعد إخفاق المحاولة. في هذه الأثناء كان نشطاء الشتات السوداني قد أمّنوا مواصلة الدور الإعلامي الذي يقوم به تجمّع المهنيين.
من خلال تشكيل ائتلاف الحرية والتغيير، الذي أعلِن عنه في أول يناير ٢٠١٩، تحالف تجمّع المهنيين مع مجموعة واسعة من الائتلافات السياسية ومنظمات المجتمع المدني المعارضة لنظام البشير، من الليبراليين العلمانيين أو الإسلاميين المعتدلين، مثل حزب المؤتمر السوداني وحزب الأمة القومي الذي يقوده الصادق المهدي، إلى الشيوعيين والقوميين العرب والقوى الإقليمية.
تأسف عشة الكارب، وهي وجه نسوي وجمعياتي نموذجي من “الطبقة الوسطى والمتعلمة” التي يمثلها تجمّع المهنيين، تأسف لانضمام التجمّع إلى الائتلاف على قدم المساواة مع الأعضاء الآخرين، إذ كانت تفضّل أن يستمر التجمّع في دور منسّق الجمعيات والنقابات بموازاة قوى الحرية والتغيير، لأن ذلك كان سيمنحه وزناً أكبر في تسيير الأحداث. علاوة على ذلك، وهذا هو ربّما الأهم، فإن موازين القوى بين الانتماءات السياسية المختلفة داخل تجمّع المهنيين، حيث لا يتمّ التمثيل على أساس سياسي، ليست هي ذاتها داخل ائتلاف الحرية والتغيير، حيث يغلب وزن التقاليد على التجديد الناتج عن الانتفاضة.
ذلك أن الانقسام المزدوج بين الأجيال وبين الرجال والنساء ظاهرٌ بقوة في مجال العمل السياسي والاجتماعي في السودان، حيث يشكو الشباب والنساء، وبالتالي الشابات على وجه الخصوص، من الهيمنة الأبوية (البطريركية) في الحياة السياسية والحزبية. ويرى الشباب والنساء دورهم ودورهنّ في ممارسة رقابة ديمقراطية نقدية على العملية السياسية التي تُشرف عليها الأحزاب التقليدية من جانب المعارضة، والحقيقة أن للفئتين في السودان وزناً سياسياً عظيماً.
وقد أظهرت “ثورة ديسمبر” (كما تُعرف الانتفاضة في السودان) إلى أي مدى تتيح تقنيات الاتصالات الجديدة، لاسيما وسائل التواصل الاجتماعي، تعزيز نفوذ القواعد الاجتماعية والسياسية. ونجد مثالاً ساطعاً على ذلك في موجة الاحتجاجات التي أثارها تشكيل وفد “قوى إعلان الحرية والتغيير” للتفاوض مع العسكر إثر خلع البشير، إذ اضطرّ الائتلاف إلى إصدار اعتذار عن تعيينه امرأة واحدة فقط في الوفد، بالرغم من أن النساء شكّلن الأغلبية في الحراك الشعبي.
وتمثّل النساءَ في الحراك، في المقام الأول، “المجموعات النسوية المدنية والسياسية” (منسم)، وهي ائتلاف تكوّن بمناسبة الانتفاضة ويجمع المنظمات النسائية المرتبطة بقوى المعارضة السياسية (وبينها “الاتحاد النسائي السوداني” العريق والهام، المقرّب من الحزب الشيوعي السوداني) وجمعيات شتى. ويزيد وزن هذه الأطراف مجتمعة عن مجموع أوزانها على حدة، بمعنى أن الدينامية الناجمة عن اجتماع نساء مختلف التشكيلات السياسية والجمعيات يدفع باتجاه مطالبة نسوية أقوى مما كان يمكن أن تعبّر عنه النساء داخل كل حزب على انفراد. وقد استطاعت منسم، ومعها “مبادرة لا لقهر النساء”، التي تأسست في عام 2009 والمنتمية أيضاً إلى ائتلاف الحرية والتغيير، أن تحصلا على أن تُخصّص للنساء ٤٠ بالمئة من المقاعد في المجلس التشريعي، الذي لم يجرِ تشكيله حتى الآن. ومع ذلك، فقد امتعضت النسويات من أن تكون أربع نساء فقط بين أعضاء مجلس الوزراء الذين عيّنهم ائتلاف الحرية والتغيير وعددهم ١٨ (أما حقيبتا الدفاع والداخلية فمخصّصتان للعسكر)، ويطالبنَ بالمساواة على كافة المستويات.
هذا وحيث التفت أغلب المراقبين الخارجيين إلى هذه السمات من “ثورة ديسمبر”، ثمة طرف آخر في الدينامية السارية لم يلقَ سوى اهتمام نادر خارج السودان، ألا وهو “لجان المقاومة”. هذا على الرغم من أن هذه اللجان تشكّل رأس حربة العملية الجارية ومهمازها النقدي، القوة المنظَّمة للشبيبة الثائرة من الجنسين التي كانت في قلب الانتفاضة وأكثر عناصرها جذرية والتي تُديم الضغط الثوري. لقد حرّكت “ثورة ديسمبر” الشبيبة مثلما فعلت كافة الانتفاضات والثورات (والحقيقة أن تعبير “ثورة شبابية”، وهو كليشيه زخرت به وسائل الإعلام منذ عام ٢٠١١، هو من باب الإطناب). لكنّ المستجدّ في الحركات التي شهدتها المنطقة منذ “الربيع العربي”، شأنها في ذلك شأن كافة تحرّكات الشبيبة على الصعيد العالمي، إنما هو الدرجة الأعلى من التنظيم الذاتي التي تتيحها تقنيات الاتصالات الحديثة.
فمنذ سنين عديدة وخبراء إدارة الأعمال يشرحون أن هذه التقنيات لا بدّ من أن تؤدي إلى حلول تنظيم الشبكات الأفقي محلّ التنظيم الهرَمي المركزي. وهذا ينطبق بالأحرى على التنظيم الثوري. فقد جاءت الثورة التكنولوجية في الوقت المناسب تمامًا لتسهيل الانتقال الجماعي إلى الفعل الثوري لدى جيل شديد الحساسية إزاء الشكل الحزبي المركزي (والذكوري) الذي أشرف على كوارث اليسار في القرن العشرين. وهذا أصحّ بعد في جزء من العالم بلغت فيه عيوب ذلك الشكل الحزبي أوجّها.
في كل ساحات “الربيع العربي” في عام ٢٠١١، كما في ساحات “الربيع الثاني” الذي دشّنه السودان، استطاع ملايين الشباب أن يحشدوا قواهم بواسطة التنظيم الذاتي بشبكات مستقلة عن الأحزاب السياسية. وقد حلّ تعبير جديد محلّ مركزية الماضي، هو تعبير “التنسيقية” (بمعنى لجنة التنسيق) الذي كان شائعاً جداً في المرحلة الأولى من الانتفاضة السورية، مثلما هو اليوم في السودان، حيث تربط تنسيقيات محلية بين “لجان المقاومة” داخل الأحياء في شبكة واسعة على نطاق البلد.
لقد نمت هذه الظاهرة بقوة، مستفيدة من شلل جهاز القمع أثناء أولى أشهر الانتفاضة، ومن توطيد الحريات الجديدة المكتسبة مذّاك، لاسيما بعد إحباط المحاولة القمعية في يونيو الماضي. وقد تشكّلت “لجان المقاومة” في أحياء المدن الكبرى كما في المناطق الريفية، وجمعت أعداداً كبيرة، معظمها من الشباب وغير المنتمين إلى تنظيمات سياسية. فعلى سبيل المثال، هناك ما يقارب ٨٠ لجنة في شمال الخرطوم (بحري)، تضمّ كلّ منها مئات الأعضاء. وقد أنشأت هذه اللجان القاعدية تنسيقيات محلّية، وهي ترفض أي نمط من المركزية إذ تحرص كل لجنة على استقلالية قرارها. هذا هو السبب في أن اللجان فوّضت إلى ائتلاف الحرية والتغيير حق النطق باسم الحركة الشعبية التي شكّلت هي بسرعة رأس حربتها. وفي الوقت ذاته، ترى اللجان أن مهمتها تكمن في ممارسة رقابة صارمة على الأحزاب السياسية التي باتت منخرطة في مرحلة انتقالية حرجة تعتمد على تسوية مع العسكر.
فضلاً عن دورها السياسي، ملأت “لجان المقاومة” الفراغ الذي خلّفه انهيار “اللجان الشعبية” بالغة الفساد التي أنشأها نظام البشير، والتي جمعت بين الخدمات البلدية ومراقبة السكان. وقد استبدلتها بتأسيس “لجان خدمات” تقوم بتنظيم جملة خدمات محلّية، وعلى الأخصّ التوزيع العادل للسلع التي تعاني من النقص كالخبز والوقود. وعندما حاول وزير الحكم الاتحادي الجديد، في نوفمبر الماضي، ضبط “لجان المقاومة” بإعادة تسميتها “لجان التغيير والخدمات” ووضعها تحت إشراف ائتلاف الحرية والتغيير، تعرّض لردّ حادّ. وقد صدر بيان عن ٤٠ تنسيقية ولجنة مقاومة ندّد بالوزير وبالائتلاف على حد سواء، محذّراً الطرفين من أي محاولة لتقويض استقلالية اللجان ودورها في “مقاومة” قوات النظام القديم، وفي الرقابة على العملية السياسية الجارية.
وبقدر ما تشكّل “لجان المقاومة” رأس حربة الدينامية الثورية التي بدأت في ديسمبر ٢٠١٨، يشكّل ترويضها أو القضاء عليها ممرّاً إلزامياً لإيقاف الدينامية المذكورة أو طمرها في تسوية مع قوى النظام القديم. هذه التسوية هي ما يسميه السودانيون “الهبوط الناعم” لثورتهم. أما البديل عنه، فهو إما مواصلة الرحلة إلى الغاية المنشودة في نظر بعضهم أو تحطّم الطائرة في نظر بعضهم الآخر. فمنذ اتفاق ١٧ يوليو ٢٠١٩ الذي أبرمه ائتلاف الحرية والتغيير مع العسكر والذي أرسى ازدواجية للسلطة بين القوات المسلحة والحركة الشعبية، تقف “ثورة ديسمبر” على مفترق طرق بين هذه الاحتمالات الثلاثة.
وقد أثار الاتفاق المذكور انقساماً في صفوف قوى الحرية والتغيير، بين الأحزاب الليبرالية والإصلاحية من جهة، والحزب الشيوعي من الجهة الأخرى، الذي تنصّل منه تحت ضغط الشباب المتجذّر في قاعدته. أما الشفيع خضر سعيد، الذي كان من الأعضاء البارزين في الحزب الشيوعي السوداني حتى فصله في عام ٢٠١٦ بتهمة العصيان، فتفاؤله بشأن نجاح العملية الجارية محدود. ويعتقد الناس أن له تأثيراً هاماً على رئيس وزراء الحكومة الانتقالية، عبد الله حمدوك، نائب الأمين التنفيذي السابق للجنة الاقتصادية لأفريقيا في الأمم المتحدة، والعضو السابق في الحزب الشيوعي هو أيضاً.
يعتمد مستقبل العملية الثورية السودانية على مسألتين جوهريتين، هما السياسة الاقتصادية وانتقال السلطة إلى المدنيين. فعلى غرار الحكومات التي نجمت عن “الربيع العربي” في تونس ومصر، حاولت حكومة السودان الانتقالية حتى الآن أن تتبع الإرشادات النيوليبرالية عينها التي تسبّبت بسقوط عمر البشير. فقد أعلن وزير الاقتصاد والمالية إبراهيم البدوي، الذي عمل كخبير اقتصادي لدى البنك الدولي لسنوات طوال قبل أن يترأس مراكز بحوث في دبي ثم القاهرة، أعلن في ديسمبر الماضي أن دعم أسعار الوقود سيتم إلغاؤه تدريجياً خلال عام ٢٠٢٠. وقد أقنعته قوى الحرية والتغيير بالتراجع عن إعلانه في وجه الاحتجاجات الشعبية التي أثارها، بل اضطرّ إلى أن يُطمئن الناس بخصوص استمرار دعم أسعار سلع أساسية أخرى، منها سعر الخبز.
إن الوضع الاقتصادي السوداني في تدهور سريع: التضخّم خارج عن السيطرة، والجنيه السوداني لا يساوي في السوق السوداء سوى نصف سعره الرسمي، ونسبة بطالة الشباب تناهز الثلث، ناهيكم من العدد الكبير جداً للذين يسعون وراء لقمة العيش في القطاع غير الرسمي أو في النشاطات غير المستقرة (السودان هو أيضاً مصاب بعدوى أوبر). وكل هذه الأمور تزداد سوءاً بسبب جائحة فيروس كورونا التي شلّت السودان مثلما شلّت سائر بلاد العالم. وعلى الرغم من أن الحكومة الانتقالية لم تتباطأ في اتخاذ الإجراءات الضرورية تصدّياً لانتشار الوباء، فإنه لا مناص من تباطؤ اقتصادي حاد.
هذا وكما في تونس ومصر، يبدو أن الحكومة السودانية تنتظر أن يأتيها الخلاص من صدقات الدول الغنية ورعاية دعائم النظام الاقتصادي العالمي التي اتخذت واشنطن مقرّاً لها. وقد كان الأمل في إحياء المساعدة الأمريكية هو الحجة التي تحجّج بها الفريق أول عبد الفتاح البرهان، رئيس المجلس العسكري الانتقالي السابق ورئيس مجلس السيادة الحالي، تبريراً للقائه برئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، في أوغندا في فبراير الماضي. غير أن هذا اللقاء أثار موجة انتقادات عارمة في السودان. فقبل أن تغيّر الأزمة الصحّية العالمية كل المعطيات، كانت الجذرية الاجتماعية للحراك السوداني تحدّ كثيراً من احتمالات المساعدة الاقتصادية الدولية. ومن المستحيل التكهّن الآن بما إذا كانت تلك الجذرية ستنجو من وباء كانت إحدى نتائجه تجميد حركات الاحتجاج في شتى أنحاء العالم، من هونغ كونغ إلى شيلي مروراً بالجزائر وفرنسا.
فضلاً عن الاقتصاد، فإن المشكلة الأخرى التي تهدّد مستقبل التسوية الجارية في السودان أكثر صعوبة بعد: إنها مشكلة القوات المسلحة. وتقع القوى الليبرالية والإصلاحية بين فكّي كمّاشة، بين القاعدة الشعبية المتجذّرة التي تطالب بنقل كامل السلطة إلى المدنيين، بما في ذلك وضع القوات المسلّحة تحت إشراف المؤسسات المنتخبة، وبين تعلّق العسكر باستقلاليتهم، إن لم يكن بالإشراف الذي طالما مارسوه على المؤسسات المدنية. ويعتقد الصادق المهدي أنه يستطيع التوفيق بين هذين القطبين المتعارضين من خلال إطالة أمد المرحلة الانتقالية. هذا الزعيم الديني والسياسي البالغ من العمر ٨٥ عاماً هو المدافع الرئيسي عن “الهبوط الناعم”، وهو يؤمن بالحلول الوسطى في مختلف المجالات. فيما يتعلق بمسألة العلمانية على سبيل المثال، لا يستبعد الجمع بين الشريعة الإسلامية وقانون أحوال مدني اختياري للأفراد. غير أن توخّي المساومة في شأن وضع القوات المسلحة يقتضي الرهان على حسن نواياها.
كثيرون هم الذين يعتمدون في هذه المراهنة على الخلاف المزعوم بين الجيش النظامي الذي يمثّله الفريق أول عبد الفتاح البرهان، من جهة، وقوات الدعم السريع، أي القوات غير النظامية بالأصل والمتورّطة في الإبادة الجماعية في دارفور، التي أصبحت جزءاً من القوات المسلّحة الرسمية بقيادة الفريق أول محمد حمدان دقلو، المعروف باسم حميدتي، نائب رئيس المجلس العسكري الانتقالي السابق ونائب رئيس مجلس السيادة الحالي. وقد أتت محاولة الاغتيال التي تعرّض لها عبد الله حمدوك في ٩ مارس الماضي، وقبلها في يناير تمرّد قسم من قوات الأمن يحنّ إلى نظام البشير، لتذكّر بتنوّع القوى المحلّية المضادة للثورة والتي لا تقتصر على فصيلي القوات المسلّحة المدعومين من الحلف الثلاثي الإقليمي المكوّن من المملكة السعودية والإمارات المتحدة ومصر.
هذا ولم يبادر الحراك الثوري إلى نشاط سياسي منظَّم موجّه إلى قاعدة القوات المسلحة، على الرغم من أن التآخي بين أفراد الجيش والحركة الشعبية كان عاملاً حاسماً في قرار القيادة العسكرية التخلّص من البشير، وكذلك في قرارها وقف الحملة القمعية في يونيو الماضي. إلا أن العمل السياسي الشعبي الذي استهدف القوات المسلحة منذ بداية الانتفاضة، عاد مؤخرًا إلى الظهور بقوة. كان ذلك في فبراير، عندما أدّت الإحالة إلى التقاعد القسري لضباط شباب رفضوا استخدام العنف ضد المتظاهرين إلى موجة عارمة من الاحتجاجات، أفضت إلى اشتباكات مع قوات القمع.
فإن عزيمتهم بالذات هي أعظم ورقة بيد الثوار في السودان. وقد عبّر عن هذه العزيمة خير تعبير كشة عبد السلام، رئيس “منظمة أسر الشهداء” الذي استشهد ابنه في بداية الانتفاضة. فعندما قيل له أن العسكر لن يترددوا في القتل دفاعاً عن امتيازاتهم، أجاب على الفور: “همّ مستعدّين يقتلوا ونحن مستعدين نموت”.