فصام الشخصيّة كأحد أمراض المترجم

Summer's Figure, Roland Petersen

كارول خوري

كاتبة من فلسطين

بين المترجمِ والجسْرِ أكثرُ من مجرّدِ مشابهةٍ بسيطة: مثل الجسْر، يمتدُّ المترجم ليصل بين لغتين وثقافتين، ليكون رابطًا بينهما. وبعد أن يمتدَّ جسرُ الترجمة واصلًا بين لغتين، تعبرُ عليه قطاراتُ التفاعل بين الأفكار والثقافات. وتمامًا مثلما تعبرُ على الجسْرِ البضائعُ المرخّصةُ والمهرّبةُ، تعبرُ فوق جسْر الترجمة البضائعُ المرخّصة والمغشوشة.

...للكاتب/ة

اشتراكك بنشرتنا البريدية سيحمل جديدنا إليك كل أسبوع

الأكثر قراءة

الصحافة الثقافية وما نناضل من أجله
أين نحن في السير قدما...
عشرة أفلام عظيمة عن المافيا (ترجمة)
10 أفلام تشويق إيروتيكية رائعة (ترجمة)

من أجل صحافة ثقافية فلسطينية متخصصة ومستقلة

27/05/2020

تصوير: اسماء الغول

كارول خوري

كاتبة من فلسطين

كارول خوري

ومترجمة ومحرّرة، وتدير تحرير مجلّة "فصليّة القدس" التي تصدر باللغة الإنجليزيّة عن مؤسّسة الدراسات الفلسطينيّة.

ما لا يعرفه عنّي معظم الناس هو أنّي أعاني الفِصام. وأشدّد هنا على كلمة ’أعاني‘. رغم الفصام، أو بغضّ النظر عنه، سأبدأ بنكتة.

شكت زوجةٌ لجارتِها همَّها قائلة: لا أدري ماذا أفعل، منذ يومين ظهر على جلد زوجي شيءٌ يشبه الشامة، صغيرةٌ جدًّا وتبدو كورقة بقدونس. وحيث أنّ الجارة لم تستطع مساعدة الزوجة، رجتها الزوجة أن لا تخبرْ أحدًا، لعلّ الأيّامَ تكون كفيلةً بحلّ المشكلة.

وكما تتوقّعون، أخبرت الجارة جارتَها، وجارتُها جارتَها، حتّى إذا انتهى الأسبوع، جاءت إحداهنّ إلى الزوجة تسألها عن حال زوجها، وعن حال ضمّة البقدونس التي ظهرت على جلده.

ألا ترون علاقة النكتة بسياق الـتـرجَمَ-لوجيا؟

هي في الواقع محاولةٌ منّا، نحن البالغين، عمرًا، لاستعادة لعبةٍ كنّا نلعبُها صغارًا، وهي لعبة نقل الكلام همسًا، من شخص إلى آخر جالسين في حلقة، لنعرف في نهاية الدورة كمّ التغيّر (يعني التشويه) الذي يصيب الجملة الابتدائيّة. عادةً ما تكون النتيجةُ الكثيرَ من الإضافة. اللافت أنّه، وفي حين أنّ كثيرًا من الثقافات تعرف هذه اللعبة وتعرف نهايتَها (ضمّة بقدونس بحالها)، إلّا أنّنا نأبى أن نستعملَها، حين الحديث عن الترجمة، إلّا مقلوبة المغزى. فنقول إنّ كلّ نقل يُضيّع بعضًا من المعنى، وإن نقلنا عن نقل فَقدنا أكثر، وهكذا، إلى أن نصل (نعود) إلى البداية، فربّما إذن، والحالُ حالُ ترجمةٍ وليسَ نميمةً (أقصد نقصًا في النقل وليس إضافة)، تكون الزوجة المأزومة قد فقدت زوجها وليس فقط ورقة البقدونس.

فما فائدةُ العودةِ إلى نقطةِ الانطلاقِ ومواجهةُ الصورةِ النهائيّة (النصّ المترجم إليه) بالأصل؟

لن نصل إلى إيّ نتيجة إن أردنا من الترجمة أن “تقدّم لنا كلّ شيء أو لا شيء”. وبينما نتساهل مع عدم المطابقة، في جميع أشكال النقل الأخرى تقريبًا، نجدنا حاميي الحمى في وجه النصّ المترجم، مشرّعي جميع مجسّاتِنا لرصد أيّ تغيّر أو انزياح عن الأصل. ليست الترجمة تغييرًا لنوع الخطّ (فونط) على جهاز الكمبيوتر. هناك، نطبّق خطوطًا مختلفةَ على النصّ المطبوع، وكلّنا يقين أنّ النصّ الأصليّ لم يتغيّر البتّة، سوى في شكل حرفه. تمرين يشبه الترجمة في مفهوم البعض! أليس كذلك؟ ذات النصّ، لكن بحرف آخر!

مَن يترجم، يعرف أنّ هذا غيرُ واقعيّ. بل سأذهب أبعد من ذلك: سأضمّ عددًا من القرّاء (وليس فقط المترجمين) إلى هذا المعسكر، المعسكرِ العارفِ أنّ الترجمةَ ليست نقلًا لغويًّا خالصًا، والعارفِ أنّها تحتوي بعدًا إبداعيًّا من جانب المترجم. بل إنّ غير قليل من القرّاء، وأخصّ منهم قارئي اللغة الواحدة، يفضّلون النصّ ’المدعّم‘ (كما ندعّم تغذويًّا الملح باليود والحليب بالكالسيوم)، الذي فيه من الإضافة ما تغني القارئَ وتنقلُ إليه، إلى جانب المعنى، بعضًا من الثقافة، ونفحةً من روح. ولا أكون، هنا، أشيح النظر عن ’منقولات‘ أخرى يعيها أولو التخصّص (من مثل: دلالة المعنى وظلاله، حساسيّة اللغة، السياق، المغزى، الموسيقى، وغيرها الكثير).

القارئ الواعي، إن جازَ ليَ نعتُهُ كذلك، يميّزُ بين النصِّ الحيِّ والنصِّ المحنّط. ولأنّه يعي “أنّ المُعْجَمَ لا يشتملُ إلّا على جثّة اللغة” كما يقال، فهو وهي لا يريدان أن تكون قراءآتُهم تجوّلًا في مقابرَ لغويّةٍ. قرّاء اللغة الواحدة (أقصد الذين ليس لديهم ترف – أو هي نقمة؟ – مقارنة الترجمة بأصلها) يرومون نصًّا يحكي إليهم، يتحدّث لغتَهم، ولا يتجشّؤها (١). صدق الأستاذ عبد السلام بنعبد العال حين قال إنّ الترجمة لا تستوي إلّا لقارئ اللغة الواحدة.

يبقى، والحال هذه، الخوض في المدى. أقصد المدى المسموح به، أو المقبولَ، أو المعقولَ، لعدم مطابقة النصّ المترجم للنصّ الأصليّ. إنّه سؤال واحد من حيث الجوهر، لكنّه متعدّد من حيث الصياغة. بيت القصيد فيه هو دورُ المترجم، ودرجةُ حياديّتِه وأمانتِه وحضوره وثوريّته وانحيازه، وغيرها من الدرجات التي ترصدُها مستشعراتُ انفلاتِ الترجمة عن الأصل.

تعجّ الحوارات عن الترجمة بالتشبيهات والاستعارات الأدبيّة لوصف المترجم ودوره. بل إنّ هناك استعاراتٍ من الكيمياء والفيزياء والأحياء بل وحتّى الرياضيّات (٢)، وإن كانت على جانب من الطرافة والإبداع، إلّا أنّ المجال لا يفسح لاستعراضها هنا.

من الاستعارات الرائجة حاليًّا في سوق الترجمة بضعٌ (أي ما بين الثلاثة والتسعة)، انتهت، عمليًّا، صلاحيّتُها.

’خيول بريد التنوير‘ على حدّ توصيف الشاعر الروسيّ بوشكن للمترجمين. استعارةٌ باتت بائدةً بفعل المفارقات المضحكة التي تثيرها حول ما إذا كان بوشكن ليطلق على المترجمين اسم مخلوق أقلَّ نبلًا قبل تدجين الحصان، أو بعد الاستغناء عن خدماته في عمليّات النقل. مفهوم التنوير بحدّ ذاته أصبح أيضًا إشكاليّةً في العالم العربيّ والغربيّ على حدّ سواء، بعد إخضاعِ العديدِ من طروحاتِ عصر الأنوار وفكرِه الإنسانويِّ للنقد التاريخانيّ، والبنيويّ، وما بعد البنيويّ.

أمّا المجازُ التقليديُّ الثاني ’المترجم الخائن‘ – كما في المقولةِ المعروفة التي استعارها فوزي حدّاد عنوانًا لروايته الطريفة – فقد استهلك نفسه (المجاز وليس فوزي حدّاد) في اللعِبِ على المفارقةِ في الأصل اللغويِّ لفعلَيْ الخيانة والترجمة (traduttore traditore)، مع أنّ هذا التناصَّ يقتصر على اللغات اللاتينيّة في أوروبا ولا يتعدّاها إلى باقي لغات العالم، ممّا يعكس رؤيةً مركزيّةً أوروبيّةً لم تعد مقبولةً اليوم. هذا من دون أن ننسى الزعمَ المماثلَ للجاحظ بشأن الخيانة، قبل حتّى استعمال اللغاتِ الأوروبيّةِ الحديثةِ للكتابة.

المجاز الثالث ’الجميلات الخائنات‘ (les belles infidèlles) وفق الفرنسيّين حين وصفوا الترجماتِ الزاهيةَ بأنّها الترجماتُ غيرُ المخلصة. أيّ أنّ الترجمة إمّا أن تكونَ جميلةً ولكن خائنة، وإمّا أن تكونَ أمينةً فهي بالضرورةِ قبيحةٌ. هذا مجازٌ استعمالُه مدعاةٌ للاستغراب في عصرٍ فنّدتْ فيه المدارسُ النسويّةُ ذكوريّةَ الفكر وتحيّزَه وتحجّرَه، الواعي منه وغير الواعي، في اللغة العربيّة وغيرها من اللغات.

على عتبات جحيم دانته ثمّةَ رهْطٌ قُدّرَ لأفرادهِ المشوّهينَ أن يسيروا إلى الأمامِ والخلفِ معًا وفي الآن ذاته، فيمزّقوا أنفسَهم من الداخل. أوافق الأستاذ مجاب الإمام أنّ “في هذا المجازِ الأدبيِّ تعبيرًا بليغًا عن الواقع الأنطولوجيّ للمترجم الحقّ والمثقّفِ مزدَوِج (أو متعدّد) اللغة عمومًا” (٣).

وفي مجاز أخير أنقل سؤال الأستاذ سعيد الغانمي: إلى أيٍّ من الضفّتين ينتمي الجسْر؟ هل بوسعِ الجسْرِ أن ينتمي إلى إحدى الضفّتين اللتين يصل بينهما؟ لنفترض وجود جسر ينتمي إلى ضفّة واحدة. في هذه الحالة سيمتدّ الجسْرُ من هذه الضفّة لينتهي بها نفسِها، لكنّه أبدًا لن يكون جسرًا. ربّما يكون نُصبًا أو مبنىً أو أيَّ شيء آخر غير الجسْر. فمن طبيعة الجسْر أن يمتدَّ بين ضفّتين اثنتين. وهذا ما تعبّر عنه اللغاتُ المختلفة بعبارة “يجسر الهوّة”. هويّة الجسر، إذن، تتحقّق بانتمائِه إلى كلتا الضفّتينِ في وقت واحد، بعدمِ انحيازِه إلى أيّ منهما، وبإمكانيّة الحركة بالاتّجاهين.

بالطبع نستثني هنا ’جسر العودة‘، فهو، على النقيض من الجسورِ جميعِها، تعبيرٌ مقلوبٌ عن الإقصاء والتهجير؛ ولنا أن ننحازَ إلى ضفّة واحدة بل وإلى اتّجاه واحد في الحركة عليه.

بين المترجمِ والجسْرِ أكثرُ من مجرّدِ مشابهةٍ بسيطة: مثل الجسْر، يمتدُّ المترجم ليصل بين لغتين وثقافتين، ليكون رابطًا بينهما. وبعد أن يمتدَّ جسرُ الترجمة واصلًا بين لغتين، تعبرُ عليه قطاراتُ التفاعل بين الأفكار والثقافات. وتمامًا مثلما تعبرُ على الجسْرِ البضائعُ المرخّصةُ والمهرّبةُ، تعبرُ فوق جسْر الترجمة البضائعُ المرخّصة والمغشوشة.

ولا يكاد يختلف سؤالُ هويّةِ الجسْر (وانتمائه وانحيازِه) عن سؤالِ هويّةِ المترجم وانتمائِه وانحيازه (٤).

فلا يمكن للمترجم، لو أراد أن يتحيّزَ، إلّا أن يكون غيرَ متحيّز؛ لأنّه يتوسّط ثقافتين (٥). أي: إنّه منحاز للتوسّط.

“يقودنا كلُّ شيء إلى إدراك أنّ الترجمة تمتاز بالازدواج. فهي نتاجُ تفاعلٍ بين ثقافتين ورؤيتين ولغتين. تنتمي، الترجمة، من حيث هي رؤية إلى مؤلّف بعيد، ومن حيث هي صوت إلى مترجم قريب. وتنطوي على مؤلّف، حاضرٍ بأفكاره وغائبٍ بلغته؛ ومترجمٍ غائبٍ بأفكاره وحاضرٍ بلغته. وهذا يعني، بالنتيجة، أنّ الترجمة هي فعل مزدوّج: ازدواجٌ في اللغة، وازدواجٌ في الثقافة، ازدواجٌ في الرؤية والصوت، أيّ في النهاية ازدواجٌ في الانتماء والهويّة. فالمترجم يتطلّعُ بإحدى عينيه إلى الثقافةِ واللغةِ المنقولِ منهما، وبعينه الأخرى إلى الثقافةِ واللغةِ المنقولِ إليهِما” (٦). بل ويحاول العيشَ في سياقين.

وليستْ الترجمةُ ازدواجيّاتٍ فحسب. بل هي أحجية التعامل مع الازدواجيّات. فإمّا تفاوضٌ يَسرّ القارئ وإمّا تضحيةٌ تُغيظُ المترجم. نجاح المترجم هو بقدْر ما يؤجّلُ أفكارَه الخاصّة ويتركُ لغتَه تعبّر عن أفكار كاتب آخر. ففي الترجمة تضحية مشتركة بأفكارِ المترجمِ وبلغةِ الكاتب، وهي حضورٌ مشترك لأفكار الكاتب ولغة المترجم. في الترجمة إذن غيابٌ مشترك، وحضورٌ مشتركٌ أيضًا. غيابٌ للغة الكاتب الأصليّة وأفكارِ المترجم الخاصّة، وحضورٌ لأفكار الكاتب ولغة المترجم”. والخلاصة: “إذا ارتاح القرّاء إلى الترجمة قالوا هذا من عمل المؤلّف، وإذا وجدوا فيها ما لا يريحُهم نسبوه إلى المترجم” (٧).

لكن، أليس من العبث التقليلُ من قيمة إنجاز الترجمة أو النظرُ إليها بصفتها عملًا سلبيًّا؟ أليس من العبث التساؤل: إذا كانت الترجمةُ عمليّةَ نقلٍ لغويٍّ خالص، ولم تكن تحتوي على مضمون فكريّ ينتمي إلى المترجم، فَلِمَ وصفُها بالإبداع؟

أستعير إجابة الأستاذ سعيد الغانميّ مرّة أخرى وأقول: إن كان العمل الكتابيّ، أيّ المكتوب بلغته الأولى المباشرة، يتطلّب نجاحًا في لغة واحدة وثقافة واحدة، فالعمل المترجم يتطلّب نجاحًا في لغتين، وإبداعًا في ثقافتين (٨).

قَدَرُ المترجمِ أن يعيشَ حياة حَدِّيَّة تنوس (تروح وتجيء) إلى ما لا نهاية بين لغتين، على الأقلّ، وبالتالي ثقافتين ونظامَيِ تفكير وقيم، ورؤيتين، متناقضتين أحيانًا، للكون والذات والتاريخ. قَدَرُهُ أيضًا أن يثبّت قدمَه بكلّ ما أوتي من قوّة حضور في العالمين، معًا وفي الآن ذاته، فيستجلبَ على نفسه، في كيانه الفصاميّ بالضرورة، آلامَ ملعوني دانتيه.

ألم أقل لكم في البداية أنّ لديّ فصامًا؟

“لعلّ الأصعب بالنسبة إلى المترجم هو أن يتحدّثَ عن الترجمة. ولا غرابة في ذلك، لأنّ جلّ المنظّرين للترجمة وجدوا أنفسَهم في حَرَج عندما حاولوا التعريف بالترجمة. جورج مونان (George Mounin)، أحدُ المراجع في نظريّات الترجمة، لم يجدْ أفضلَ من القول إنّ الترجمة ليست عمليّةً لغويّة، كما أنّها ليست عمليّةً خارجةً عمّا هو لغويّ، بل هي عمليّة ’سووي دجينيريس‘ (sui generis)، أيّ أنّها فريدةٌ من نوعها. فهي تنتمي، دون شكّ، إلى حقل اللسانيّات، وتنتمي أيضًا، إلى حقول أخرى من العلوم الإنسانيّة كالفلسفة والتاريخ والأدب والعلوم بحسب مضمون النصّ. حتّى إمبيرتو إيكو (Umberto Eco) لم يجد خيرًا من تعريف الترجمة إلّا أنّها “قول الشيءِ نفسِه تقريبًا”. بل جعل من هذا التعريف عنوان كتابه. ولست هنا بصدد تحديد طبيعة ذلك “الشيء” إنّما بصدد تحديد المعنى المراد بعبارة “تقريبًا”. وهي ليست هنا بمفهوم الترجمة التقريبيّة، بل إنّه، في استحالة التطابق الكلّيّ بين اللغات، فإنّ على المترجم “التفاوضَ” مع النصّ للخروج من المجازفة بأقلَّ ما يمكن من الخسارة (٩).

كلّنا يدركُ أنّ ترجماتِنا، جميعًا، في نهاية المطاف، إن هي إلّا “فشل خلّاق” حسب دريدا. فهل كلُّ شيء مباحٌ في الترجمة، إذن؟ وإن كان الجواب سلبًا، كما أرغب، فكيف نمايز بين فشل ترجميّ وفشل ترجميّ آخر؟

الآن وقد اعترفت لكم بفصامي، سأتبعه باعتراف آخر، وهو كيف أصل إلى فشلي الأمثل (على طريقة صموئيل بيكيت (fail better, fail best). بكلمات أخرى: كيف أتقن تقانة التشويه. الجواب: استعمل الحواشي.

ليست الحاشيةُ عارَ المترجم (١٠) (كما تزعُم الباحثة Dominique Aury). أو على الأقلّ لا أريد أن أراها كذلك. لأكونَ مترجمةً حقّةً وأمينةً (أنا الأمينة وليس الترجمة) يجب بالضرورة أن أكونَ حرّة. وسأقصرُ حكايةَ حرّيّتي (الطويلة) في هذا النصّ على حقّي في استخدام الحاشية.

فرغم أنّ الحاشية لا تنتمي إلى محيط النصّ (paratexte)، أو عتباتِه (seuils)، ورغم أنّها في العادة حيّز قد يلجأ إليه المؤلّف أو الناشر أو المحقّق – بل هناك مَن يرى أنّها حقّ حصريّ لهم – ورغم أنّ هناك الكثيرَ ممّن يعتقدون أنّها إقرارٌ بعجز المترجم ودليلٌ على فشله (١١)، إلّا أنّي أشفى بها (أو على الأقلّ أتداوى بها) من فشلي المتكرّر بالانحياز إلى المؤلّف أو إلى القارئ. هناك في الحاشية ألوذ، فلا أضطرُّ إلى التفاوض أو إلى التضحية. في الحاشيةِ أكونُ أنا. فهي المساحة التي أحيّد فيها وأوحّد بين جميع الثنائيّات الضدّيّة (binary opposites)، التي تنوء تحتَها عافيتي كمترجمة.

قال الشاعر عزرا باوند (Ezra Pound) يومًا: “إنّ هناك مترجمين يفشلون بسبب ضعف الشخصيّة، أكثر ممّن يفشلون بسبب قصور الذكاء والموهبة”. فآمل أن تشفعَ ليَ حواشيَّ لأكونَ في مصافّ أقوياء الشخصيّة، ولو على فِصام.
 

الهوامش

1 ما قاله طه حسين للمستشرق جال بيرك عن الفرق بين “تحدّث” اللغة العربيّة و”تجشئها”.

2 الكيمياء: عناصر النصّ كعلاقة روابط  ذرّة الكربون. الفيزياء: قانون حفظ ’المادّة‘. الأحياء: الاستنساخ وتوليد نفسها. الرياضيّات: المماس.
3 الإمام، مجاب. “مقدّمة: ملائكة موموس”، في الترجمة وإشكالات المثاقفة. منتدى العلاقات العربيّة والدوليّة، قطر، 2014.
4 مجاز الجسر، مع إضافة، من: الغانمي، سعيد. “الترجمة صنفًا أدبيًّا”، في الترجمة وإشكالات المثاقفة. منتدى العلاقات العربيّة والدوليّة، قطر، 2014.
5 الأحمريّ، محمد حامد. “كلمة مدير المنتدى”، في الترجمة وإشكالات المثاقفة. منتدى العلاقات العربيّة والدوليّة، قطر، 2014.
6 الغانمي، سعيد. “الترجمة صنفًا أدبيًّا”، في الترجمة وإشكالات المثاقفة. منتدى العلاقات العربيّة والدوليّة، قطر، 2014.
الغانمي، سعيد. مصدر سبق ذكره.
7 الغانمي، سعيد. مصدر سبق ذكره.
8 الغانمي، سعيد. مصدر سبق ذكره.
9 الصمعي، أحمد. “إيكو والثقافة الموسوعيّة من متاهة النصّ إلى متاهة الترجمة”، في الترجمة وإشكالات المثاقفة. منتدى العلاقات العربيّة والدوليّة، قطر، 2014.
10 عبارة مشهورة للباحثة اللسانيّة  Dominique Aury، وردت في تصديرها لكتاب عالم اللسانيّات جورج مونان في الترجمة
Aury, Dominique, “Préface”, in: G. Mounin, Les problèmes théoriques de la traduction, Paris, Gallimard, 1963.
11 ظاظا، رضوان. “حواشي المترجم وهاجس التلقّي”، في الترجمة وإشكالات المثاقفة. منتدى العلاقات العربيّة والدوليّة، قطر، 2014.
الكاتب: كارول خوري

هوامش

...للكاتب/ة

الأكثر قراءة

عشرة أفلام عظيمة عن المافيا (ترجمة)
10 أفلام تشويق إيروتيكية رائعة (ترجمة)
أين نحن في السير قدما...
الصحافة الثقافية وما نناضل من أجله

GOOGLE AD

نكـتـب لفلسطين

اشتراكك بنشرتنا البريدية سيحمل جديدنا إليك كل أسبوع

اختيارات المحرر

من أجل صحافة ثقافية فلسطينية متخصصة ومستقلة

اشتراكك بنشرتنا البريدية سيحمل جديدنا إليك كل أسبوع