أبدأ بـ “الغنوصيّة” Gnostic- وهي كلمة مأخوذة عن الأصل اللاتيني gnôstikos- وقد عُثر على استخداماتها الأولى في الخطاب الأفلاطونيِّ، بوصفها مُصطلحاً تَقنيّاً يعني شيئاً من قبيل “ناتِجٌ عن المعرفة”. أما فيما يَتعلّق باستخدام هذه المفردة باعتبارها وصفاً لجماعة دينيَّة، فقد استخدُمت لأوّل مرّة من قِبل المسيحيين الأوائل، وحملَت معنى “العارِف”. (راسيموس، 2016). بيد أنّ كلّ شيء تغيّر في سنة 1945، حينما اكتُشِفت مَخطوطات مكتبة نجع حمَّادي في مصر، والتي أشعلَت رغبة الباحثين من جديد في إعادة تعريف هذه المفردة، وذلك إمّا من خلال حصر استخدامها على مجموعاتٍ ما قبل مسيحيَّة، على غرار الشيثّية، أو إعادة تسميتها، أو التخلّي عن استخدام مفردة “غنوصيّة” تماماً. إنّ ما سبق يستند على العمل ضمن مُحدّدات التصنيفين الآتيين: بُرديّات نجع حمَّادي، أو كتاب “ضدّ الهرطقات” للقدّيس إيرينيوس (الذي يعود لأواخر القرن الميلاديّ الثاني)، والذي تَتعدّد فيه استخدامات إيرينيوس للغنوصيّة، على الرغم من أنّه حمّلَهَا بمعانٍ سلبيّة في معظمها، على الرغم من تنوّع استخدامها في الكتاب نفسه؛ فتارةً يتعامل مع الغنوصيّة كمُصطلحٍ عام لوصف الهرطقة، ثمّ يعود تارةً أخرى ليستخدمه كوصفٍ لتعاليم مُحدّدة يلتزم بها “الغنوصيّون” (المصدر السابق نفسه).
يطرحُ الباحث هِنغراف فكرة مفادها أنّه “بطريقة أو بأخرى، تُركِّزُ كلُّ التيّارات التاريخيّة التي تقع ضمن مجال التعاليم الباطنيّة الغربيّة على طرح الأسئلة، وتقديم الأجوبة، بصدد طبيعة العالم، وعلاقته بالإلهيّ، والدور الذي يلعبه الإنسان ما بينهما” (هنغراف، 2013). وبعبارةٍ أخرى؛ الأسئلة القديمة التي تشبهُ إلى حدٍّ بعيدٍ تلك التي أشار إليها القدّيس إكليمندس الإسكندريّ في كتاباته المتنوّعة عن الهراطقة- وخاصّة أتباع فالانتينوس في زمنه- على غرار: “مَن نحن؟ من أينَ أتينا (أين كُنّا قبل أن نولَد)؟ ما هذا العالم الذي وجدنا فيه أنفسنا؟ كيف انتهى بنا المطاف إلى هُنا، ولماذا؟ وإلى أين سنمضي في النهاية، بعد أن نموت؟” (المصدر السابق نفسه). في إنجيل يوحنّا السرّيّ (والمعروف أيضاً باسم أبوكريفون يوحنّا)، بمقدورنا أن نقرأ كيف كشف المسيح ليوحنّا (“أخو يعقوب وابن زبدي”، بحسب ما ورد في الكتاب) عن ماهيّة الآب، والخلق، وشيطان اليلدابوث، وثنائية الخير والشر، ودور البشريّة، والخلاص، فضلاً عن إلهامات أخرى: “لقد جئتُ الآن كي أرشِدَك عمّا هو موجود، وما جاء إلى الوجود، وما يجب أن يوجَد، فيتسنّى لك أن تفهمَ الأشياء، غير المرئيّة منها والمرئيّة، وأعلّمَكَ عن الإنسان الكامل” (أبوكريفون يوحنّا).
لطالما شكّلَ هذا النوع من المعرفة اللاهوتيّة الاهتمام الرئيسيّ لدى أتباع الجماعات الباطنيّة، وبناءً على تجربة تقنيّة وفلسفيّة في آن، وضمن إطار الفكرة التي تقول بأنّ كلّ الأشياء تتداخلُ بصورة المُقدَّس وتُشكِّل انعكاساً لها، فإنّه من الممكن اكتساب هذه المعرفة وفهمُ معانيها. ثمّة اعتقاد مستمر وسائد بأنّ مُمارسات تعودُ إلى عصورٍ غارقة في القِدم، على غرار السحر، والخيمياء، ومذاهب الأخلاط الأربعة (الأرض، والنار، والهواء، والماء)، والتنجيم، وعلم الشياطين، والقوى الخفيّة للأرقام والكلمات، إنّما هي أدوات أصيلة للتأثير على كلِّ شيء تَقريباً، ولاكتساب الحريّة والحياة الرغيدة، ناهيك عن الأهميّة الجوهريّة لهذه المعرفة عندما يتعلّق الأمر بمآل الأرواح بعد الموت، وخاصة حين عُبور البوّابات السماوية بغية تحقيق الخلاص شريطة ألَّا يُقبَض على هذه الأرواح وتُقذَف مرّة أخرى إلى الأرض (ويُشار هُنا إلى ظاهرة التقمّص أو تناسخ الأرواح). وتَماشياً مع ما سبق، بمقدورنا أن ندرك مدى الاهتمام الذي يوليه أتباع الجماعات الباطنيّة إلى الفنّ باعتباره إحدى وسائل المعرفة، “إذ ليسَت لغة الأساطير والشعر مُجرَّد جَماليّات فحسب، بل هي بيانٌ يَكشف جانباً من المعرفة بصدد الطبيعة الحقيقيَّة للعالم” (هنغراف، 2013).
في وسعنا أيضاً أن نُلاحظ مدى السرّيّة والانتقائيّة حين اختيار الأفراد الذين ستمرّر هذه المعرفة إليهم؛ وهي سِمات مُشتركة وشائعة لدى معظم الحركات الباطنيّة، وتتضّحُ جليّةً بطبيعة الحال في أبوكريفون يوحنّا، وذلك عندما يخبر المسيحُ الأخيرَ بأنّه: “… بمقدورك أن تُدوّن هذه التعاليم وتُمرّرها إلى رفاقك سرّاً. فهذه الخفايا تنتمي إلى نسلِ الراسخين”، ومرّة أخرى عندما يقول: “لقد أطلعتُك على هذه الأمور كي تُدوِّنها وتحفظَها في مَأمَن” (أبوكريفون يوحنّا). وهنا لا بدّ من الإشارة إلى مُؤسِّسة الجمعيّة الثيوصوفيّة، هيلينا بلافاتسكي (1831-1891)، والتي زعمَت بأنّها على اتّصال مُباشر بمجتمعٍ سريٍّ من الأسياد الروحانيين الخفيين، وكذلك آليستر كراولي (1875-1947)، الذي زعم النبوّة وأسّس ديانة “ثيليما”، وقال إنَّ كياناً إلهيّاً يُدعى إيواس، وهو رسول حورس والملاك الحارس المقَّدس، قد اختارَه من أجل أن يُملي عليه ما عُرف لاحقاً باسم “كتاب القانون”، والذي كتبَهُ كراولي في القاهرة، واستندَت إليه ديانة ثيليما فيما بعد.
تجدر الإشارة هُنا أيضاً إلى الدور البارز لمصر القديمة باعتبارها موطن الغنوصيّة الكلاسيكيّة، فهي حاضرة على الدوام لدى أفراد الجماعات الباطنيّة، فضلاً عن الحضور الواضح للفلسفة الإغريقيّة؛ وثمّة العديد من الآثار الواضحة لهذين المصدرين في كتاب القانون لكراولي، ولعلّ أبرزها هو الدور الرئيسيّ المُكرَّس لإله الشمس حورس في ديانة ثيليما.
الاقتباسات الواردة في المقالة- بما فيها ما نُقِل من أبوكريفون يوحنّا- هي من ترجمة الكاتب عن مصادر وترجمات بالإنكليزيّة.