مطعم صغير لا أحد يعرف عمره الدقيق لكن جدي أيضا ارتاده في شبابه، مكون من ثلاث حيطان، سقفه من الاسبست، يختبئ بين عربات الخضروات والبهارات في سوق جنين القديم، في واجهته دائما صاحبه البشوش العم زياد، ابو سائد ومنقله الطويل، مطعم يحترم اللحمة بشدة فهي الطبق الأوحد والوحيد, فهي الساعة والتوقيت بتوفرها يفتتح المطعم نهاره وبنفاذها يغلق بابه. وقد ابتدأت علاقتي بالمكان بجيل الخامسة من عمري وأتمنى أن تستمر لآخره.
شبه غرفة لا تتسع لأكثر من أربع طاولات متلاصقة ثابتة لا تتغير، مكان على ضيقه، يحافظ لكل من زواره الكثر على عالمهم الخاص، هو وطن وله جغرافيا، يتسع الجميع ولا يحتل أحد مكان الاخر يوزع علينا جميعا هوية موحدة، لا زرقاء ولا حمراء، تعرفنا بمكان الجلوس، نوع اللحمة ودرجة استوائها.
إن أردنا الخبز والحمص يجلبه لنا سائد من مطعم الحمص المجاور وإن اشتهينا سلطة مرة كل عام، وكان لسائد بعض الوقت، يشتري بعض الخضروات ويحولها إلى سلطة في مطعم ثالث في السوق.
هناك تتساوى كل المشاكل ابسطها وأعظمها ومن ثم تتبخر على المنقل أو مع أصوات الباعة، فلا تنتظر ولا تفكر غير في صحن حمص الذي سيجلبه سائد واللحمة في منقل ابو سائد.
على مر السنين كان المطعم وكأنه للرجال فقط لا تدخله النساء الا قليلات بينهن أنا وأمي واختي برفقة أبي، لم افهم ذلك الواقع يوما ، إلا أنه تغير في السنوات الأخيرة وازداد عدد النساء على الطاولات الأربع.
في كل مرة، ورغم التغييرات، كان أبي يجادل نساء العائلة قبل رجالها عن مرافقتنا له كانت ادعاءاتهم منتقدة ومستهجنة وفي بعض الأحيان جارحة لي. يكون لأبي رده الثابت، دسماً وحاراً في كل مرة وموحداً لجميع تلك التعليقات وإن اختلفت: “فش اشي اسمه مطعم للزلام ومطعم للنسوان في مطعم اكله زاكي ونقطة، بعدين البرستيج مش بالشمع والشرشف الاحمر المهم نكون مبسوطين، وأنا مش ناقصني ملافيف (جمع سلطة ملفوف)”
دون أن أقصد أو يقصدون كانت تلك المحادثات تعرفني على عمق من حولي وربما تصنفهم حتى خلت أن هذا المطعم امتحان دخول للعائلة .هناك اجلس وكأنني في عيادة طبيب اطمأن على قلبي بعد أكل لحمة الخروف أن الحياة والظروف وما بينهما لم تنجحا في سلب فرحتي الراضية. ذاك الثبات في الفرح يواسيني ويحمي نفسي منها. ويعيد توجيه بوصلتي بعد كل مرة أواجه بها شخصيات أو احداث قد تزلزلني من الداخل.
سحر هذا التوازن والطمأنينة لا يقتصر على كيمياء المكان ولذة الطعام وإن كان لهما في قلبي مكانة، إلا أنني هناك بنيت وشاركت احلامي والامي، تنهداتي ودموعي التي لا أخجل منها ولا أنتظر لها إذن . فكنت أشارك أبي وأخوتي بخلافتي مع صديقتي بلعبة الحجلة وقصاصات من قصصي العاطفية، مشاريع احلامي وخيباتي وأنا أعلم أن الرجل العجوز في الطاولة المجاورة والعامل الشاب في الأخرى يسمعون ما اقول كما أني اسمع مثلهم إلى قصصهم، فالأحلام الكبيرة تحتاج ان تسندها بعض اللحمة في مطعم أبو سائد، لتجد لها مكان في شبه غرفة العالم وطاولاته الأربع. تختلف أحجام أحلامي، بعضها يؤكل، وآخر يحتضن، تتغير وتنمو بالحوارات الصادقة، إلا أنها بلا ألوان ولا تتناسق مع ألوان شراشف الطاولة أو ربطات العنق الثابتة.