بهدوء يعيدنا الكاتب زياد خداش في كتابه «غارقون بالضحك» (٢٠١٩ – مكتبة كل شيء، حيفا) إلى هواجسه الأولى بكتابة القصة القصيرة، والبحث عن حدود الدهشة في اليومي والمتكرر، منتشياً بعلاقته مع مخيم الجلزون ومدينة رام الله التي أكدت انتماءه من خلال كتابه الجديد لمشّائي هذا العالم وصائدي قصصه، الذين يقول عنهم الكاتب إدوارد غاليانو إنهم ولدوا من عناق كان مستحيلاً بين نجمة الفجر ونجمة الغروب، ففي هذه المسافة المتروكة بين الشرق والغرب يعيد زياد خداش بناء عالمه القصصي مشياً على الأقدام، متأملاً ماهراً لشخوص المدينة وأبطالها وباحثاً دقيقاً عن الإنسان فيها، واقفاً بانتباه أمام احتمالات الضحك والدهشة في تفاصيلها اليومية.
يعيد زياد خداش في كتابه الجديد بناء الواقع السريع والضائع، الذي لا يملك العالم فيه وقتاً للانتباه وإعادة الخلق، العالم الخاطف العابر دون أي انتباه إلى طفل حطم الاحتلال ألعابه، أو سيدة لا تعرف إلى أين تذهب، أو الأسباب الغامضة التي قد تحرم عاملة نظافة من النوم ليلاً، ليشرف في الكتاب على عالم واسع يحلل من خلاله علاقة الإنسان مع نفسه ومع محيطه، عالم لطالما حاول الإشراف عليه في كتبه السابقة، وكان دائماً جزءاً منه وحريصاً على الدوران من حوله ليرويه بلغة شفافة كثيرة العمق والدلالات تعيدنا إلى براءة أولى كنا نحوّل فيها هزائمنا إلى انتصارات لن يمحيها الزمن، براءة يروي من خلالها تداعي الأحلام واصفاً سقوطها المدوي بشيء رائع، ومفتتاً خيبة الأمل كرغيف خبز جاف ليرميه لحمائم الساحات، دون أن ينطلق من نفسه فقط، مع أنه لطالما أعاد بناء نفسه من احتمالات الكتابة التي أعطته مبررات للنزول عن تجارب كثيرة، بل ينطلق من الآخر أيضاً في علاقة يبحث من خلالها عن الإنسان وهو ينمو في حلقات واسعة من المشاعر، راصداً ردات الفعل في العلاقة مع الاحتلال والمخيم ومدينة رام الله.
الشاعرية التي تخلقها الخسارة في قصص خداش الغارقة بالضحك تضع نقاطاً للحظات إنسانية متداخلة تتبلور من خلالها التجربة، وتتمحور كثيراً حول التفاصيل، التفاصيل البعيدة والصغيرة التي يستند إليها في قصصه، فهو لا يعتمد على الحدث الكبير والمفاجئ، بل يتكور كتابه حول مفاجئات صغيرة متناوبة تترك القارئ مندهشاً ببعدها الإنساني الذي لا يتخلى عنهُ أبداً، ففي السرد المشحون بالتجربة سيرى القارئ نفسه وسط لغة متوترة تتملص للهرب من واقع شخوصها الذين استيقظوا في الكتاب على غيابات كثيرة ورهانات مخيفة مع الزمن وحزن خفيف لا ينتهي مع انتهاء القصة. وكذلك في اللغة الشعرية التي تحول القصة من سردها إلى ما يشبه المونولوج الداخلي الذي يتعامل معه زياد خداش برمزية تعطي التفاصيل بعداً عاطفياً يقرب الكلمات من معناها الدقيق، وتحتوي من جهة ثانية المصائر الكثيرة التي يحتويها الكتاب الذي من الواضح أن خداش كان مهووساً وهو يعده بسؤال المصائر التي يصل إليها الإنسان في مراحل كثيرة في حياته، والنهايات الكبيرة والصغيرة التي تشكّل حداً فاصلاً بين ما قبلها وما بعدها في حياة الإنسان، فلا يوجد في الكتاب نهاية مفتوحة أمام احتمالات الظن، ليكون الكتاب في قلب معركة الحياة اليومية الجانبية التي لا تولد إلا لتموت ولا تومض إلا لدقائق يرصدها زياد خداش ويكتبها محاولاً من خلال الكتابة تغليف هذه المصائر بشاعرية لكي تروى.
من بين الأصوات التي سمعناها في أدب زياد خداش يتضح في مجموعته «غارقون بالضحك» صوت طفولي يكتمل نضوجه لأول مرة في أدبه، صوت يبحث من خلال إيقاعه عن معاني جديدة للعالم بصور تستند على رغبات بريئة بخلق واقع جديد يستحق أن يعاش. يعبر نضج الصوت البريء وأسئلته المترددة عن شيء من اصطدام زياد خداش بجدران عالية في قصص أخرى لينتصر عليها بهذا الصوت، إنها طفولة التجاوز، هي صوت التحايل على الصعب والعالي بأصوات صغيرة، الانتصار على الممنوع والمغلق بدهشة عفوية يعيد من خلالها تقديم عالم نقي يرى ويسمع ويحس، ليعبر من خلالها ويستمد منها نداءه الشخصي.
نكتشف عبر قصص زياد خداش حركة الحلم في تشكيلها الخاص، والقدرة المدهشة للانتباه التي يستطيع من خلالها تحويل العادي والمؤقت إلى حدث دائم يستحق أن يروى بشهقات متقطعة للحياة اليومية السريعة والمستمرة، وبشخصيات لا تقول إلا لتعبر عن وجه من وجوه هذا العالم الكثيرة، مصوراً ردات فعل طفولية وصغيرة بخطوط زمنية مختلفة وكأنها أكثر الأصوات صدقاً.