لا هي ملحمةٌ ولا شِعر، بل حكاية عاطفية اجتماعية وجودية، وغايةً في الجرأة والبساطة والاختزال، يُعيدنا -من خلالها- الروائي التشيلي أنطونيو سكارميتا إلى الحياة بطبيعتها البديهية، عبر خمس وعشرين لوحةً شِعر/سرديّة، قصيرة وخاطفة.
في “أب سينمائي” رواية سكارميتا الصادرة بطبعتها العربية عن دار ممدوح عدوان (2018) وبترجمة عمّار الأتاسي، حيثُ أب تشيلي من أصول فرنسية “بيير”، يُحبّ، ويتزوّج من امرأة تشيلية ينجب منها ولداً “جاك”. يربيانه، فنرى مهارات وحذلقات أنطونيو الجماليّة، إذْ بعد أن أصبح “جاك” مدرّساٌ، يلتقي بأبيهِ في محطة قطار “كونتولمو”، الأب بيير سيعود لموطنه الأصلي فرنسا تاركاً تشيلي وولده وزوجته التي جاءت تودّعه بثياب الحداد، فيما ولده جاك ينزل من نفس القطار فيقبّلان بعضهما ويفترقان.
بين الفراق ومن ثم اللقاء يعيش الإبن تحت رحمة مصيره، حتى تسوقه الصدفة إلى قرية “أنغول” التي تبعد مسير ساعتين في القطار عن قرية كونتولمو حيثُ سيذهب جاك إلى الماخور ليمارس الجنس مع إحدى بائعات الهوى، إذ يلتقي بأبيه بيير الذي كان قد غادر تشيلي إلى فرنسا. جاك لا يريد أن يتحول إلى ضحية. هل يخبر أمه بأن أباه- زوجها كان يكذب عليها، وهي التي استسلمت لكذبته على أنها قضاء لا راد له، فتدفن نفسها في الحياة مصدّقة كذبه، وهو الذي يحمل على قتلها وليس هجرها؟
الروائي سكارميتا يسخر من فعلة الأب الذي سنعرف لاحقاً بأنه أقام علاقة غرامية مع فتاة في القرية وأنجب منها طفلاً هو “أميليو” الذي اصطحبه معه في رحلة سفره المزعوم إلى فرنسا، ليربيه بعيداً عن أمه، وهذا ما فاجأ جاك، بطبيعة الحياة التي اختطها ويعيشها الأب الذي يشتغل في سينما أنغول.
هل هي إفلاسات الإنسانية، أَوَمن إفلاسات البشريّة أن تعبث بأرواح الناس، تسرق طفلك من أمه وتهرب منها ومن زوجتك وابنك المدرّس لتعيش مع طفل وليد؟ ما هذا الخواء؟ أنطونيو يكتب روايته “أب سينمائي” ببرود أعصاب متأمّلاً، لنتأمّل معه، لا لكي نشفق على الطفل إميليو من قسوة الشرط البيولوجي الذي صمّمه ونفّذه الأب بيير، ولكن لنشهد أزمة الضمير الإنساني.
إنها الفوضى حين يفلس الإنسان، حين تموت قيم الجمال في نفسه، فيتبع غرائزه وهوسه الشخصي. والتي، وهنا السخرية، كان قد وقّع بيير عليها مع صديقه صاحب الطاحونة، الذي كما يبدو من أحاديث السمر التي كانت تجمع الولد جاك به (عهد الدم) بأن لا يفشي سرّ سفره المزعوم وسرّ الطفل إميليو من والدته إيلينا والتي أنجبته من علاقة غير شرعية وتخلّت عنه لبيير الذي لا تكن له إيلينا أي احترام، وهي تدوس بقدميها على مشاعرها وعلى غريزة الأمومة في حوار بينها وبين جاك في عيد ميلاد أخيها أوغستو بالقول: أنا أود أن أكون ملكة لحياتي وليس عبدة لطفل أحدهم. فيستنتج جاك متسائلاً: إذاً أنتِ لا تحبينه (أي ولدها إميليو). فتجيبه إيلينا: والدك أحبّكَ، ولكنه تخلّى عنك على الرغم من ذلك. أنت مدرّس يا جاك، وعليك أن تعرف أن الحياة أكثر تعقيداً من مجرّد النظر ببساطة إلى مجرياتها. فيرد عليها: تلك المجريات أبسط مما يمكن أن تتخيليه، أبي أحبّني وهجرني. هو يحب أميليو ولن يتخلّى عنه. معنى هذا أنني كلبٌ يتيم ليس إلا، يا إيلينا. وبتهكم تعلّق إيلينا وهي تبتسم: ينقصك النباح. إيلينا كانت تريد أن تبعد جاك عن أختها تيريسا، لأنها كما تقول لجاك: لا أريد لشقيقتي أن تعاني ما عانيته أنا مع أبيك.
سكارميتا يضعنا أمام شخصيات عائلة غويتيرث، الأب وابنتيه إيلينا وتيريسا وولده أوغستو، وجاك المدرّس وأمّه ووالده بيير وكريستيان الطحّان، شخصيات تتصالب، لتتصالب معها مصائرها، ولكنها لا تتصادم أو تتصارع، أغلبهم إما مسالم أو يلجأ إلى الهرب. أنطونيو يرسم صوراً؛ أحداثاً ميكانيكية، فهو لا يريدها صوراً صمّاء، أو تركنا مع مشاعر وأحاسيس وإن كانت كما قلنا متصالبة، ولكن لتكشف عن قوّة الحياة وضعفها، خوار البشر حين لا يفكرون إلا بغرائزهم وكأنهم ناسٌ ولدوا مشوّهين عديمي اللون، وخلقوا للتعب والبلى والتلف.
طبعاً لا نريد، أو أنّ سكارميتا لا يريد لشخصياته وهي بهذه الحالة أن يكونوا فلاسفة، أو أن يفكّروا تفكيراً فلسفيّاً، لأننا بذلك سنكون مع شخصيات استثنائية فيما هو يرصد حياة (قطيع) نشاطهم الذهني وسيرورة تفكيرهم لا تتجاوز غرائزهم. حتى جاك المدرّس الذي يقرأ/ يتثقّف، والذي يقوم بترجمة رواية “زازي في المترو” لريمون كونو، والتي أعلنت صحيفة أنغول أنها وابتداءً من الشهر القادم ستنشر وبالتسلسل طوال الشتاء مقاطع من رواية ريمون كونو العظيمة “زازي في المترو”، لم يذكروا طبعاً -يروي جاك- أنني لم أنتهِ بعد من ترجمة الكتاب، والسلفة التي وعدوني بها لم تدفع لي هي الأخرى. لم يُذكر اسمي كمترجم للرواية. وهو الذي يريد رؤية اسمه يوماً مكتوباً بحروف الآلة الكاتبة المقولبة، فبعض الشهرة ستمنحه وقاراً أمام تيريسا.
هو الآخر لم تسحره القراءة باعتبارها كنز الأفكار الإنسانية العقلانية؛ بل كان يتلصص على إيلينا وهي تجرّب قميصاً تريد تضييقه، وهي معشوقة أبيه التي ولدت له أخاً “أميليو”، حتى إنّ شقيقها التلميذ في صف جاك شجّعه على مراقصة أخته الثانية تيريسا فيقوم بإطفاء الأضواء لينال منها ما ينال، مقابل أن يأخذه معه إلى “أنغول” ليزور إحدى المواخير، فهو كما يقول أستاذه وصديقه الذي كان اصطحبه في مرة سابقة إلى الماخور، جاك الذي بعد أن عرّف العاهرة بأنه مُدرّس جغرافيا وتاريخ واستحسنت مضاجعته لها بصفته مُتعلّم/مُدرّس، وبعد أن قام بخلع ملابسه، وقام بفك ربطة عنقه طلبت منه أن يسألها في الجغرافيا التي تعشقها فأجابته عن اسم عواصم بوليفيا وإسبانيا وتشيكوسلوفاكيا وهي تنزع عنها ثوبها، ويسألها ثانيةً في الجغرافيا ويكون السؤال: ما هي عاصمة فرنسا، وتطلب منه أن يكلمها بالفرنسية وأن يسمعها مقطعاً شِعريّاً.
أنطونيو سكارميتا، وإن كان الأب بيير الذي لحظة سافر إلى فرنسا كما ادعى، كان يكذب ويخون زوجته وابنه يكشف لنا عن ضعفه -ضعف بيير- الذي يقول لجاك حين باغته وهو في أحد شوارع قرية أنغول يدفع طفله إميليو في عربة: اسمعني جيداً يا جاك، لقد جئتُ لكي أدمن نفسي في أكثر الأماكن ظلمةً في أنغول، في حفرة الفئران لكهفٍ حالك السواد، قضيت عمري في التخفّي بين الظلال ولم يخطر في بالي أنّ أحداً سيعثر عليّ، أو أنني مثلاً سأصطدم بابني يوماً في هذا المكان الوضيع من الأرض ومن الجحيم.
الروائي أنطونيو سكارميتا يؤثر-في روايته هذه- أن يُرينا موجة صِدامية عند بيير، ولكنها بنزعة نسائية، وهو يربّي طفله إميليو من علاقة غرامية مع إيلينا وقد هربت به إلى أنغول، القرية المجاورة لقريته التي يقيم فيها مع زوجته وابنه جاك. هي لحظة وجودية، لكنها لحظة إنسانويّة مغمّسة بالخوف من الوجود، فنهرب من الإيديولوجيا لنقع في براثن الميثيولوجيا، أو أن الثقافة بعد لم تفعل فعلتها في تغيير جهة الفكر.