لا أدري إن كانت دار نشر عربية ستترجم يوماً رواية الفلسطينية إيزابيلا حماد “الباريسي” إلى العربية، فالرواية المحتفى بها بشكل كبير في بريطانيا ليست مكتوبة بالأسلوب السائد في العالم العربي هذه الأيام، وإن كان هناك من سيقدرونها حق قدرها بالتأكيد. هي سرد بسيط البنية، يكاد يكون خطياً، شخصيات دون أبعاد فلسفية، لكنها بأبعاد ثلاثة، هي تأريخ روائي، على مدى ٥٥٠ صفحة، للحياة الفلسطينية ابتداء من الحرب العالمية الأولى، عملٌ فريد وفذ غير مسبوق في الرواية الفلسطينية، إيقاع بطيء جداً، احتفاء بالتفاصيل الصغيرة في الحياة اليومية للمجتمع الفلسطيني بشكل يكاد يكون توثيقياً، دون مجازات ولا رموز ولا رومانسية. تذكرني بثلاثية نجيب محفوظ، دون أدنى مبالغة ودون أن أدعي في نفس الوقت أي مقارنة بين الاثنين. يستمتع القارئ بقراءتها إلى أبعد الحدود، ويكتسب معارف إنسانية، وبذلك يحقق المبدأ النقدي الكلاسيكي عن هدف الأدب والذي صاغه الشاعر الروماني “Horace” ولخصه بنقطتين: “to teach and delight”، أي أن يثري معارفك الإنسانية في الوقت الذي تكون مستمتعاً بقراءته.
طبعا تطورت نظريات النقد وزادت ثراء منذ هوريس، لكن هذين الشرطين يبقيان في نظر كثيرين من متطلبات الأدب الجيد: الجمالية والقيمة المعرفية.
نفس الانطباع تولد عندي عندما قرأت رواية الكاتبة الفلسطينية سوزان أبو الهوى وعنوانها بالإنجليزية: Against the loveless world. ولم تترجم بعد إلى العربية حسب معلوماتي، لكن ترجمة العنوان هي “في مواجهة عالم منزوع الحب”. عندها قلت في نفسي من حسن حظ سوزان وإيزابيلا أنهما بدأتا نشر هذا السرد الرائع بالإنجليزية وليس بالعربية، فنجتا من كليشيهات النقد العربي.
رواية سوزان ثرية بالمعارف الإنسانية، أهم متطلبات الرواية إلى جانب الخيال. سوزان تحرك شخصياتها انطلاقاً من فهمها العميق للحوافز الإنسانية ودون أن تكبلها القيود الأخلاقية أو الأيديولوجية التي تمسك بخناق من يكتبون بالعربية وتقتل أهم عنصر في عالم السرد الروائي وهو الخيال. سوزان تكتب روايات مثقلة بالسياسة، لكنها لا تختزلها إلى “منفيستو سياسي أخلاقي” كما ينتظر منا الكثير من النقاد قبل القراء، وطبعاً لأنها تكتب بالإنجليزية فلغتها حرة وشخصياتها حرة، لا تكبلها الاعتبارات الأخلاقية. هي ليست مضطرة لتقدم شخصيات صالونات بل تطلق العنان لعوالمها الجوانية، وتتيح مساحات سخية للجزء “المظلم” من دواخل شخصياتها لأن يسرح ويمرح في الفضاء السردي. لو ترجمت هذه الرواية إلى العربية أنا واثق تماماً أن المترجم/المترجمة سيخصيها بقسوة، فلغة السرد العربية بأخلاقياتها الزائفة لن تحتمل اللغة في هذه الرواية وستعمد إلى “تهذيبها”. لن يقبل لا القارئ ولا المترجم ولا الناقد العربي أن تستخدم بطلة الرواية (وهي بائعة هوى بالمناسبة) مفردة يعتبرها بذيئة للإشارة إلى العضو الجنسي الأنثوي، سيستبدلها المترجم على ما أظن بمفردة مهذبة تقتل روح الرواية والشخصية. أعرف هذا من قراءتي لروايات ترجمت من الإنجليزية إلى العربية ففقدت ملامحها لهذا السبب تحديد، ومنها رواية “الحارس في حقل الشوفان” التي ترجمها الروائي الأردني غالب هلسا.
الدراما في هذه الرواية محكمة، مؤثرة، تقترب من الميلودراما، لكن في الواقع الفلسطيني لا يمكن أن يكون هذا مأخذاً، فدراما الواقع تتجاوز الميلودراما فعلاً.
تحفظي الوحيد هو على لغة البطلة (الراوية المشاركة) التي لم تتحرر من الخلفية المعرفية للمؤلفة. كما ذكرت سابقاً، بطلة الرواية امرأة ذات حظ محدود من التعليم، يمكن أن تمتلك الحكمة والثراء الوجداني بفعل التجارب، لكني لا أستطيع أن أتصور البلاغة الجمالية والفكرية في التعبير عن ذلك.
مأزق العرب النقدي
كما أسلفت، كلا الروايتين المشار إليهما والمحتفى بهما في الغرب روايتان تعتمدان تقنيات سرد بسيطة ولغة خالية من “الفذلكة الجمالية”، هي “functional language” أو لغة “عملية”، لا تهدف إلى خطف الأضواء من عناصر السرد الأساسية كالحبكة والشخصيات، وهي تضطلع بمهمة أهم من “التحسين اللفظي”، وهي المساهمة في رسم ملامح الشخصيات.
لعل نقطة ضعف الكثير من الأعمال الروائية التي يحتفون بها في العالم العربي لأن لغة السرد فيها “تبهرهم” أنها تعتبر اللغة هي الأهم بين عناصر السرد.
اللغة مهمة جداً، لكنها ليست هدفاً في حد ذاتها. هي أداة وقالب يحتوي عنصراً خارجه في السرد الروائي، ويجب أن يتكيف القالب ليلائم العنصر الذي يحتويه. من غير المقبول أن تكون لغة سرد المؤلف واحدة سواء كانت شخصياته “شاعرية” أو “عملية”، شعبية أو نخبوية. من المفروض أن تتكيف اللغة مع الأجواء العامة للرواية وشخصياتها. أظن أن الروائية سوزان أبو الهوى تتبع بوعي تام هذا المنهج، فلغة السرد في روايتها الأخيرة التي أشرت إليها أقل “شاعرية” و”بلاغة ” و”إبداعاً” من لغة السرد المستخدمة في رواية سابقة لها “بينما ينام العالم”. هي حررت البطلة من لغة المؤلفة، وإن كانت لم تنجح في تحريرها من “المستوى المعرفي” لخالقتها، كما أشرت سابقاً.
طبعاً حين نقارن كتابات الكثير من الروائيين العرب بلغات أوروبية بكتابتهم بلغتهم الأم سنلاحظ الفرق: لغة السرد باللغات الأوروبية متحررة من أكثر من عنصر يثقل عليها حين تكتب الأعمال بالعربية: النقاد ودور النشر والقراء في العالم العربي أصبحوا يعتقدون أن استخدام التقنيات السردية الحداثية، سواء فيما يتعلق باللغة أو بعناصر السرد الأخرى، هو مطلب أساسي في حد ذاته.
ربما لم يلا حظوا أن العالم الذي بات ينتج موسيقى “التكنو” و “الراب” وقبلها “الروك” و “البوب” ما زال يستمع بانبهار شديد لموسيقى باخ وفيفالدي القادمة من عصر الباروك. أما تصميمات زها حديد الحداثية فلم تقلل أبداً من قيمة البنايات الكلاسيكية الباذخة. وهنا تحضرنا مقولة عبقرية قالها الشاعر الفلسطيني سميح القاسم “هناك مارش جيد وسوماتا سيئة”.
نعم، معايير الجودة ليست مرتبطة بالشكل الذي يختاره المبدع لعمله الأدبي، ولا بلغته. ولا يرتبط أيضاً بمضمونه.
هناك مجموعة عناصر تشكل مجتمعة معياراً لتقييم العمل الأدبي. إذا كنا نتحدث عن الرواية فبناء الشخصيات، ومتانة هيكلية البناء السردي، الحوار، الحبكة، اللغة الملائمة لكل هذا، تشكل في مجملها أساساً لتقييم العمل. لا يمكن أن نحكم بجودة عمل لأن لغة السرد “باذخة” بينما شخصياته هشة وحبكته ضعيفة ولا يضيف أي قيمة معرفية لقارئه. بينما يمكن أن يرشح عمل روائي كلاسيكي البنية بسيط لغة السرد فقير في المجازات والرموز لجائزة نوبل بدون أدنى تردد، إن كانت قيمته ككل تبرر ذلك. ونعرف أن نجيب محفوظ حاز على جائزة نوبل عام 1988 عن “الثلاثية” تحديداً، وهي عمل ثري وذو قيمة أدبية عالية، رغم أنه ينتهج سرداً خطياً، لغة السرد فيه بسيطة جداً، يفتقر للرمزية. هو عمل بسيط شكلياً لكنه بالغ الثراء وذو قيمة أدبية عالية جداً.
لحسن حظ نجيب محفوظ أنه كتب ثلاثيته قبل أن “تغزو” العالم العربي قيم “الحداثة” الشكلية، وأظن ذلك حصل في العقدين الأخيرين.
ستجد مثقفين عرب يقولون بفخر إنهم لا يقرؤون سوى روايات مترجمة (في ازدراء واضح للنتاج العربي، الذي يقدره الغرب ولا يبخسه قيمته، وحصول الكاتبة العمانية جوخة الحارثي على جائزة مان بوكر العام الماضي بعد أن تجاهلها النقاد العرب ولم تلاحظها الجوائز الأدبية العربية، لهو تجسيد لمظاهر البؤس المشار إليه)، وستجد نقاداً لا يلتفتون إلى رواية لا تعج بالرموز وعناصر التجريب حتى لو كانت تحفة أدبية، وستجد بعض دور النشر تكتب، بلا أدنى حياء، في معرض رفضها لنشر رواية أنها “رواية لغتها بسيطة”.
الحل ، إذن، عزيزي الكاتب، إذا لم تكن “حداثياً” بما يكفي للنقاد وبعض القراء، العرب ليس أمامك سوى أن تحزم “كلاسيكيتك” وترحل بها إلى لغة أخرى، ثقافة أخرى لم تصلها بعد نظرية الأدب الحداثية العربية: اكتب بالإنجليزية أو بالفرنسية أو بالمجرية أو بأي لغة قبل-حداثية أخرى.