صدر عن سلسلة “ترجمان” في المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات كتاب “النظرية الجنوبية: علم الاجتماع والديناميات العالمية للمعرفة”، وهو ترجمة فاروق منصور لكتاب ريوين كونيل بالإنكليزية Southern Theory: Social Science and the Global Dynamics of Knowledge. ويُعد هذا الكتاب مساهمة جديدة ثرية في النظرية الاجتماعية العابرة للتخصّصات، من حيث هو بحث عن ضرورة وجود علم اجتماع عالمي جديد متعدّد الأصوات، يطالب باعتراف عالمي أكثر ديمقراطية بالنظرية الاجتماعية لمجتمعات الأطراف التي تقع خارج العواصم الأوروبية والأميركية الشمالية؛ أي خارج المتروبول.
النظرية الشمالية
يتألف الكتاب (380 صفحة بالقطع الوسط، موثقًا ومفهرسًا) من 10 فصول في أربعة أقسام. يدرس القسم الأول، “النظرية الشمالية”، كيفية ترسيخ علم الاجتماع الحديث وجهات نظر المجتمع المتروبولي ورؤاه ومشكلاته، في حين يقدم نفسه بوصفه معرفة عالمية. وقد تناولت مؤلفة هذا الكتاب قضية السوسيولوجيا (علم الاجتماع)، واستكشفت تاريخها، مبتدئة بأسطورة الآباء المؤسسين العظيمة. ثم نظرت بعدها في أنواع النظرية العامة، مركزةً على ثلاثة مؤلّفين معاصرين ذوي تأثير كبير جدًّا. وأخيرًا، درست محاولة السوسيولوجيين المتروبوليين التخلص من ضيق الأفق في التفكير عبر نظريات العولمة.
ناقشت المؤلفة في الفصل الأول، “الإمبراطورية وإبداع علم اجتماع”، مسألة مفادها أن مجموعة المبادئ الكلاسيكية في السوسيولوجيا قد أُنشئت، بصورة رئيسة في الولايات المتحدة، بوصفها جزءًا من جهد لإعادة البناء بعد انهيار أول مشروع أوروبي – أميركي للسوسيولوجيا، وأن قصة تأسيس جديدة حلت محل الروايات الأقدم والمختلفة كثيرًا لصنع السوسيولوجيا، وأن مسار الأحداث بكامله يمكن فهمه في إطار التاريخ العالمي فقط، وخصوصًا تاريخ الإمبريالية.
تخيل العولمة
تتساءل المؤلفة في الفصل الثاني، “النظرية العامة الحديثة وافتراضاتها الخفية”، قائلةً: “هل يمكن أن يكون لدينا نظرية اجتماعية لا تدعي العالمية [العمومية] لوجهة نظر متروبولية، لا تَقرأ من جهة واحدة فقط، ولا تستبعد التجارب والفكر الاجتماعي لمعظم الجنس البشري، والتي لم يتم بناؤها على أرض بلا صاحب؟”، وتجيب عن ذلك بقولها: “أعتقد أننا نستطيع ذلك. في الواقع، لدينا الكثير منها بالفعل […] حتى إن هناك محطات في نصوص مألوفة تقترح إمكانات جديدة، محطات تومض فيها حافة المتروبول أمام الرؤية، ويخترق الضوء فيها السقف”.
ترى المؤلفة في الفصل الثالث، “تخيّل العولمة”، أن كل ثقافة مستعمَرة تنتج تفسيرات للإمبريالية، وأنّ المفكرين في عالم الأغلبية يدرسون الإمبراطورية والاستعمار وعمليات العولمة، بقدر ما يفعل المفكرون في المتروبول، قائلةً: “وهذا يمثل مصدرًا هائلًا للتعلم، يتجاهله علم الاجتماع المتروبولي حاليًّا. وبسبب الموقع المهيمن للمتروبول في التنظيم العالمي لعلم الاجتماع بالنسبة إلى السوسيولوجيا، فإن هذا الهدر يصعب تحديه. فكم هو صعب رؤية الغنى في الأقطار الطرفية، والتي لديها الموارد الاقتصادية لإنتاج البدائل، ولكن ليس بالضرورة الرغبة”.
النظر جنوبًا
يستكشف القسم الثاني، “النظر جنوبًا”، ما حدث لعلم الاجتماع نفسه في مستعمرة استيطانية هي أستراليا. تغيّرت العلاقة الفكرية مع المتروبول بصورة دراماتيكية كبيرة خلال القرن الأخير، من دون أن تُنشئ إطلاقًا وجهة نظر مميزة.
أما في الفصل الرابع، “اكتشاف أستراليا”، فتقول المؤلفة إن السوسيولوجيين الأستراليين تعرفوا إلى طيف أوسع من الإمكانات المتأصلة في وضع جيوسياسي لبلد غنيّ في الأطراف، وفي تاريخ نزعة المستوطنين الاستعمارية. وبالتعرف إلى هذه الإمكانات، فإن السوسيولوجيا الأسترالية قد تساهم في أهداف أكثر أهميةً – إلى حدٍّ بعيد – من إنشاء روح شعب محلية. وترى أنه أصبح من الممكن التحرك في ما وراء الارتباط التقليدي بالمتروبول لمد الجسور مع المشاريع الفكرية لمناطق أخرى من الأطراف.
النظرية الجنوبية
يناقش القسم الثالث، “النظرية الجنوبية”، التنظير الاجتماعي الذي برز في أربعة أوضاع تمّ فيها تحدي التبعية: أفريقيا ما بعد الاستعمار، وإيران المحدَثة، وأميركا اللاتينية منذ الحرب العالمية الثانية، والهند منذ حالة الطوارئ في سبعينيات القرن العشرين. وفي كل من هذه الفصول، تحاول المؤلفة تتبع خيوط الحجج بصرف النظر عن مراميها، بمعنى أنها أخذتها بجدية؛ من جهة أنها نظرية نصوص للتعلم منها. كما استكشفت ما تُظهره هذه المناقشات في شأن مشروع التنظير في المحيط العالمي (مشكلاته الفكرية والعملية، وأشكاله المتمايزة).
وتقول المؤلفة في الفصل الخامس “المعرفة لدى السكان الأصليين والنهضة الأفريقية”: “إذا كنا نبحث عن أعمال كلاسيكية لسوسيولوجيا العالم، فإن الحياة المحلية في جنوب أفريقيا هي بالتأكيد واحدة منها. إنه ليس قطعة رائدة فحسب من العمل الميداني، أُعدّ في إطار صعوبة كبيرة وتحليل أخاذ للعنصرية، وفي الحالتين قابل للمقارنة بعمل دو بوا المعاصر له، بل هو أيضًا تحليل دقيق للحالة السياسية والحالة الاجتماعية. فهو يبين كيف أن السيطرة على الأراضي وتعطيل حيازة الأراضي، في ظل الاستعمار، أمران مركزيان لنمط الهيمنة ولعبة المصالح ووعي الجماعات وعملية التغير الاجتماعي. إنه مثال صارخ على التشخيص الاجتماعي، كما أنه يبرز قضية لم تنتبه إليها السوسيولوجيا المتروبولية بالكامل تقريبًا”.
إسلام تحت الهيمنة
تعرض المؤلفة في الفصل السادس، “الإسلام والهيمنة الغربية”، تجاربها مع ثلاثة مفكرين تصدوا لمشكلة الهيمنة الغربية في العالم الإسلامي: جمال الدين الأفغاني، وجلال آل أحمد، وعلي شريعتي. ففي خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر، برز إلى الوجود في أوروبا الغربية وأميركا الشمالية تشكيل ما نسمّيه “العلوم الاجتماعية”. وفي الوقت نفسه، بدأ في العالم الإسلامي تحول أكثر حيوية، متضمنًا المعرفة والخطاب الأخلاقي حول ما هو اجتماعي، وإن بُني بطرائق مختلفة. وكان الأفغاني شخصية مركزية في هذا التحول. وكان كتاب غرب زدكَى (التسمم بالغرب) لآل أحمد إحدى المحاولات الأولى لشرح البعد الثقافي للنزعة الاستعمارية الجديدة، وأطلق أفكارًا كان لها أن تصبح لاحقًا مألوفة جدًّا. كما كان مرموقًا في اقتراح استراتيجية يمكن تنفيذها لمقاومة الهيمنة الثقافية. وهذا الكتاب معترف به بوصفه لحظةً مهمّة في تاريخ المعارضة الإيرانية. وبحسب المؤلفة، يتشارك شريعتي مع آل أحمد والأفغاني في المعارضة الشرسة للإمبريالية، وفي نقد الثقافة والاقتصاديات الغربية، وفي الإيمان بالتجديد، والقناعة بأن جذور التجديد موجودة في الإسلام.
تبعية وسلطة وثقافة
ترى المؤلفة في الفصل السابع، “التبعية والحكم الذاتي والثقافة”، أن الأفكار التقليدية عن الحداثة والأمة والفن والثقافة التقليدية بُنيت جميعها من خلال مبادرات ومؤسسات تعد لحركات معارضة؛ مثل الفنون الجميلة مقابل الحرف الشعبية، والحديث مقابل ما قبل الحديث، والأمة مقابل المحلّة، وأمة مقابل أمة أخرى. لكن الواقع الاجتماعي نفسه يفسد هذه المعارضات؛ من خلال الهجرة عبر الحدود وإنشاء عوالم حدودية معقدة وإعادة تنظيم وسائل الإعلام الجماهيري للثقافة، وهلم جرًّا.
أمّا في الفصل الثامن، “السُّلطة والعنف وأسى الاستعمار”، فتقول المؤلفة إن أجيال ما بعد الاستقلال في الهند واجهت حسابًا عسيرًا مع تركة الاستعمار ومع أشكال جديدة من التبعية ومع أنماط من الانقسام والسلطة والنزاع، وحدث هذا الحساب عبر العلوم الاجتماعية التي كانت لها، هي نفسها، علاقات معقدة مع التقاليد الفكرية الطويلة للهند ومع الهيمنة المتروبولية. لذا، تتناول مجال القوى المؤثرة هذا الأمر، في نصوص علم التاريخ والتحليل الجندري والأنثروبولوجيا والسيكولوجيا الثقافية. ولا توثق هذه النصوص التجارب الحية، وأحيانًا المأساوية، للجماهير فحسب، بل إنها تهتمّ أيضًا، بصفة ضمنية، بطرائق جديدة للتفكير في علم الاجتماع ومستقبله.
تأملات فكرية أنتيبودية
نجد في القسم الأخير، “تأملات فكرية أنتيبودية”، استكشافًا لتبعات وجهات النظر الجنوبية للعلوم الاجتماعية بوصفها مشروعًا على مقياس عالمي. وتتمثّل إحدى المهمات، في هذا السياق، بإعادة التفكير في دور الأرض في البنى والديناميات الاجتماعية، وهذه قضية تُبرزها حركات السكان الأصليين.
تجد المؤلفة في الفصل التاسع، “صمت الأرض”، أن الأرض ليست غير ذات صلة، “حتى في قلاع العولمة. ينبغي لنا فهم أهميتها الاجتماعية في جدلية معقدة للمكان والسلطة، التي يشكل تاريخ الاستعمار وما تبعه من نضالات حقوق الأرض للسكان الأصليين أجزاء رئيسة منها. هذه النضالات، والتجارب التي أبرزتها، والحجج المقدمة في سبيلها، هي الآن أمور استراتيجية للعدالة الاجتماعية على الصعيد العالمي. وأخذها على محمل الجد، والتعلم منها، لا بد منهما لتجديد العلوم الاجتماعية على مستوى العالم”.
تستحسن المؤلفة في الفصل العاشر، “علم الاجتماع على صعيد عالمي”، الاختتام لمستقبل علم الاجتماع على نحو متفائل؛ إذ تقول: “لكن علم الاجتماع الذي يستحق أن يكون يجب أن يكون أحيانًا قاتمًا، يوثق آلام التحولات في جميع أنحاء العالم. والبدائل الحالية لهيمنة المتروبول على علم الاجتماع ليست مستقرة بصفة خاصة، ومناهج العمل الفكري التعاوني عبر المناطق وعبر تقاليد الفكر لمّا تؤسس بصورة جيدة بعد”. ولهذا، فإن مسار علم الاجتماع قد لا يكون هو ما سيتبعه الجيل المقبل، ويمكن القول إنه مسار ممكن، قد يؤدي إلى تعظيم الموارد الفكرية للعلوم الاجتماعية وصلتها بالديمقراطية العالمية.