نظّم المتحف الفلسطيني مؤتمره السنوي الثاني “القدس التي هُنا، القدس التي هُناك: إضاءات مَعرفيّة وتَحوّلات مُجتمعيّة”، عبر تطبيق زووم، تتويجًا لفعاليّات البرنامج المعرفي المُرافقة لمعرض “طُبع في القدس: مُستملون جُدُد” خلال هذا العام.
وجاء المؤتمر للبحث في مركزيّةِ القُدس في المخيال الفلسطيني سياسيًّا وثقافيًّا واجتماعيًّا، مُستكملًا ما بدأه المتحف الفلسطيني في البحث والإضاءة على القدس ضمن معرضيهِ “تحيا القدس” (2017)، “وطُبع في القدس: مُستَملُون جُدُد” (2020-2021). وفي ضوء مقولة وجود أكثرَ من قُدسٍ، واحدة يُعبَّر عنها ضمن المِخيال الفردي والجماعي، وأُخرى بعيدة مُحاطة بالجدار والحواجز العسكريّة ولا يستطيع الفلسطينيّون الوصول لها. ساءَل المؤتمر: كيف من المُمكن أن نقرأَ القُدس في المِخيال الجَمعي الفلسطيني؟ وكيف يتمّ تمثيل مركزيّة القُدس في الحقل الثّقافي الفلسطيني؟ وهل هُناك إجماع على قُدسٍ واحدة؟ وكيف تتشابك المُقاومة في القُدس مع الفعل العادي واليومي؟ وهل يَعكس الخِطاب الفلسطيني الواقع المقدسي وحيثيّاته؟
افتتحت مدير عام المتحف، د. عادلة العايدي– هنيّة، المؤتمر بكلمةٍ مُقتضبة ركّزت فيها على أهمّيّة عقد المؤتمر السنوي للمتحف كجزء من استراتيجيّة البرنامج البحثي والمعرفي، إضافة إلى تأكيدها على النَّهج التَّراكمي للإنتاج المعرفي في المتحف، مُشيرة إلى أهمّيّة حضور القدس في برامج وأنشطة المتحف من خلال إثارة تساؤلات جديدة عن واقع القدس وتمثيلاتها المعرفيّة.
وبدأ المؤتمر بمداخلةٍ قدّمها د. عصام نصَّار، المؤرّخ والباحث وأستاذ التّاريخ في جامعة إلينوي الأمريكيّة، حول استعادة مركزيّة القدس في الثّقافة والفنون، حيثُ قدَّم فيها ملامح من التاريخ الحرفي والفنّي للقدس، مع التّركيز على دور المدينة كمركزٍ للإنتاج الفوتوغرافي والأيقوني الفنّي والإبداعي الأدائي، مُشيرًا إلى أنّه، ورغم المكانة الدّينيّة والأثريّة للقدس، إلّا أنّ ما خلق مركزيّتها وجوهرها هو فضاؤها الاجتماعي، وموقعها المُتقدِّم في الإبداع الفنّي والمِعماري في المنطقة. وبحسب نصَّار، فقد لعبت النكبة، وما تلاها من أحداثٍ، دورًا في إضعاف الدّور الرمزي للقدس في سياق الخطاب الوطني الفلسطيني، لتتحوّل لرمزٍ وطني من منظور أهمّيّتها الدّينيّة، على حساب أهمّيّتها المدينيّة والتّاريخيّة. واختتم نصّار مُداخلته بالتّركيز على أهمّيّة إعادة النَّظر والتَّذكير بالدور المحوري للقدس في الحياة الفلسطينيّة المُعاصرة، ليس من باب التَّذكُّر النّوستالجي للماضي، بل لاستعادة مكانة المدينة في المُخيّلة الجَمعيّة الفلسطينيّة كخطوة على طريق الاستعادة المادّيّة.
الجلسة الأولى
افتُتحت الجلسة الأولى بعنوان “حول مركزيّة القدس مؤسّساتيًّا وثقافيًّا”، حيث قَدّمت الكاتبة نسب أديب حسين مداخلةً حول العمل الثّقافي في القدس وتحدّياته في الفترة المعاصرة، والتي بَرَزَ فيها عمل العديد من المؤسّسات الثّقافيّة والمُبادرات الشّبابيّة التي كان لها دورٌ في تفعيل ورسم المشهد الثّقافي. وبحسب الكاتبة، فإنّ حالةً من الزَّخم الثّقافي رُصدت منذ بداية عاميّ 2011 و2012 واستمرّت لنحو 5 سنوات، لتعود الحالة الثّقافية إلى الهبوط خلال العامين الماضيّين بفعل المُمارسات الإسرائيليّة، وبفعل تحدّيات فلسطينيّة ذاتيّة.
كما قدَّم داوود الغول، مدير شبكة فنون القدس “شفق”، مداخلةً بعنوان “القدس كحلقة وصل: عن تجاوز الجغرافيا الاستعماريّة ثقافيًّا وسياسيًّا”، حيثُ تركّز حديثه على استعراض مركزيّة القدس الثّقافيّة والسّياسيّة في مراحلَ تاريخيّة مُختلفة، والنَّظر في التّحوّلات التي شهدتها هذه المركزيّة، فمثلًا قبل النّكبة كان في القدس ثماني دور سينما، أمّا اليوم لا توجد دار سينما واحدة. وتطرّقت مداخلتهُ لمركزيّة المدينة في توليد قيادات سياسيّة. وبنظرِ الغول، شَهدتْ هذه المركزيّة تحوّلًا بعد اتّفاق أوسلو، على الرّغم من حفاظ السُّلطة الفلسطينيّة على مركزيّة المدينة في خطابها وعملها، ليبقى التّحدّي الأبرز هو عدم وجود خطط وممارسات ثقافيّة ترتقي لاعتبار القدس العاصمة الفعليّة.
واستعرضَ د. سليم أبو ظاهر، القائم بأعمال مدير مشروع الأرشيف الرقمي في المتحف الفلسطيني، حضورَ المدينة في أرشيف المتحف الفلسطيني الرّقمي، ففي سجلّات المتحف الأرشيفيّة، التي تصل لنحو 200 ألف عنصر مرقمن، موزّعة على محاور تُغطّي مُجمل محطّات التاريخ الاجتماعي الفلسطيني، وتتقاطع مع مناطق جغرافيّة، بَلَغَت نسبة المجموعات الأرشيفيّة التي تتقاطع مع القدس حوالي 22%، إضافة إلى وجود باحثين متفرّغين متواجدين في القدس بصفةٍ مُستمرّة، والذين حصلوا على أرشيفات هامّة، مثل أرشيفات خليل السكاكيني، وفاطِمة المُحِبّ، ومحمود شقير، وفرانسوا أبو سالم، ومسرح الحكواتي، وجمعيّة الاتّحاد النّسائي، وصحيفتَيّ الطّليعة والشّعب، ومجلّة البيادر السّياسي، وغيرها.
الجلسة الثّانية
انطلقت الجلسة الثّانية بعنوان “أيّام القدس: عن تجارب المَقدسيّين في الصّمود”، حيث تحدّث فيها غسّان حلايقة، الباحث في مؤسّسة الحقّ، عن سياسات الرّقابة والسّيطرة الاستعماريّة في القدس، والتي تمّت من خلال عزل أهل القدس وإعاقة اتّصالهم مع امتدادهم السُّكّاني والطبيعي، وأَثر جدار الفصل العنصري والحواجز في هذا العزل، إضافةً إلى سياسات الاحتلال الممنهجة في التأثير على الأجيال المقدسيّة المعزولة ضمن حيِّزٍ مكانيٍّ مُسيطر عليه، ومُلوّث بمرئيّات الاحتلال، وبنظامِ تعليمٍ إسرائيلي. كما استعرض أشكال السيطرة الأخرى من خلال أنظمة كاميرات المراقبة في البلدة القديمة في القدس، وما يُسمّى بالمُربّعات الأمنيّة في مختلف أحياء المدينة.
أمّا فيروز شرقاوي، منسّقة الحِراك العالمي في مؤسّسة الجذور الشّعبية المقدسيّة، فكانت مداخلتها بعنوان “باب العامود: في مواجهة الهيمنة”، حيثُ تحدّثت فيها عن منطقة باب العامود كحيِّزٍ أساسيٍّ لمحاولات الهيمنة من جهةِ المُستعمر الصهيوني، والتي تتمثّل بكثرة الفعاليّات الصّهيونيّة في المنطقة، وتركيز الاستيطان في مُحيطها، وسياسات التَّخطيط الحضري من خلال مخطّطات إقامة حديقة عامّة مُلاصقة، وتضييق الخِناق على الحياة الاقتصاديّة للفلسطينيّين في باب العامود، ومَنع التجمّعات الثّقافيّة والسّياسيّة في المنطقة. وفي المقابل، فقد شهدت منطقة باب العامود مواجهة فلسطينيّة بين الماضي والحاضر، حين شكّلت ملتقى للتجمّعات الثّقافيّة والمُظاهرات والهَبَّات السّياسيَّة والمُقاومة المُباشرة.
وجاءت مداخلة الباحث أحمد أسعد بعنوان “أُسُود عند الباب: سرديّة المقاومة في هَبّة باب الأسباط ومُصلّى الرّحمة”، التي استعرضَ فيها وقائع مقاومة الفلسطينيّين ونجاحهم في التّصدّي لمحاولات الاحتلال لتَغيير الوضع التاريخي القائم داخل أسوار البلدة القديمة، حينَ رفض الفلسطينيّون وجود بوابات إلكترونيّة على أبواب الحرم القدسي، إضافة إلى نجاح الفلسطينيّين في فتح مصلى الرَّحمة المُغلَق منذ سنوات.
من جِهتهِ ركّزَ الصَّحفي في صحيفة الأيّام، عبد الرؤوف أرناؤوط، في مداخلتهِ بعنوان “محطّات من الإعلام الفلسطيني حول القدس”، على الرّقابة العسكريّة الإسرائيليّة تاريخيًّا على الصَّحافة في القدس، إضافةً إلى صراع المُصطلحات وتعمّد الاحتلال التَّركيز على مُصطلحات مثل: “بلديّة القدس” و”القدس الشّرقيّة” و”الإدارة المدنيّة” وغيرها، ومُحاولة الصحافة الفلسطينية الالتفاف على هذه المُصطلحات. كما تطرّقت المداخلة إلى محاولة استخدام الاحتلال للإعلانات لتمريرِ سياسات مُعيّنة، واختتمَ أرناؤوط مُداخلتهُ بالحديث عن إيجابيّة انتقال وسائل الإعلام من قبضة الاحتلال الإسرائيلي إلى مناطق السُّلطة الفلسطينيّة.
أمّا الكاتب والشّاعر علي مواسي، فجاءت مداخلتهُ بعنوان “كيف نُفكّر في القُدس مَعرفيًّا؟”، والتي حاول فيها الإجابة على أسئلة مثل: أيّ معرفة مُراد إنتاجها تجيب عن تحدّيات القدس، إنسانًا وحيّزًا؟، وكيف يمكن إنتاج معرفة يُستفاد منها في إيصال الرواية الفلسطينيّة حول القدس إلى العالم؟ وكيف يُمْكِن أن تُشَغّل المعرفة الّتي أُنْتِجَت عن القدس (تشغيل المعرفة)؟
الجلسة الثّالثة
وجاءت الجلسة الثّالثة بعنوان “القدس الواقع والمستقبل”، حيثُ تحدَّث فيها كاميليو بوانو، أستاذ التّصميم الحضري والنّقد النّظري، عن إمكانيّة اعتبار القدس نموذجًا في الدِّارسات الحَضريّة والنَّظريّة الحَضريّة، كما قام بتأطير سؤاله ومداخلته بناء على مفهوم جورجيو أغامبين حول “النموذج/ البردايغم”، انطلاقًا من كون القدس تُشكّلُ حالةً استثنائيّةً مُحاطة بالتّوتر.
أمّا المداخلة الأخيرة فقدّمها ياسر قوس، مُدير جمعيّة المجموعة الإفريقية في القدس، بعنوان “الفلسطينيّون من جذورٍ أفريقيّة: أسباب الهجرة وأبيات الاندماج”، التي حاولت الإجابة عن متى وكيف جاءت مجتمعات مختلفة من غرب إفريقيا للاستقرار في القدس، وعلاقاتهم مع المجتمع المحلّي، كما أضاء قوس على نِضالات هذه المجموعة ضمن مراحل تطوّر النِّضال الفلسطيني ضدَّ الاحتلال الإسرائيلي.
علمًا أنّ المتحف هذا سيُصدر منشورًا يتضمن الأوراق البحثية التي قُدمت في المؤتمر، كما وفَّرَ المُداخلات كاملةً على قناة المتحف الفلسطيني على منصّة يوتيوب.