أسمهان، بطلة هذه الرواية، والتي أختارها المؤلف لتكون الراوية، خلال الفصول الثلاثة الأولى منها، رغم ترددها وارتباكها تصلح لأن تكون امرأة كلاسيكية، ذات تجربة ناضجة كونها ذات حكم قاطع بشأن غباء وانتهازية الجنس الذكوري، وكونها عطفاً على ذلك، لم ولن تنجح في الحب ابداً.
يبدأ العمل بذروة مباغتة، يطول وقعها وتنثال من تحتها الأحداث، المسترجعة منها والمواكبة أيضاً، وذلك بحوارات داخلية وثنائية، تدور بينها وبين صديقتها المقربة التي تكتفي بذكر الحرف الأول من اسمها، وينتهي بذروة مباغتة أيضاً، وصدمة تدفع القارئ الى إعادة النظر بالحكم على بطلة العمل، وهدف المؤلف من السرد.
في خط درامي متباين، يقفز المؤلف بين الحالات النفسية المرتبكة لأسمهان، الخجل، الخوف، الحزن، القوة، الجرأة، الذكاء وحتى الغباء، لتصبح هذه المرأة مجموعة من النساء، لا بد وأن يعرف القارئ ولو واحدة منهن على الأقل.
شخصيات العمل
“وأنا أفكر بأن أحضر خمسين شخصاً من الشارع، لا أعرفهم ولم أرهم قبل ذلك ليأكلوا ويشربوا وأرقص معهم حتى الصباح، ثم لا أراهم بعد ذلك” هكذا تفكر واحدة من شخصيات هذا العمل الروائي، بخصوص حفل الزفاف الخاصة بها، في واحدة من العبارات الكثيرة، التي ضمّنها المؤلف بالسرد، لتوضيح رغبته، بعرض عمق الشخصيات وأحلامها ورغبتها بالخروج من حياة نمطيّة محكومة بقيود العادات والمجتمع، الى حياة حرة.
منح المؤلف لكل واحدة من شخصيات عمله، بصمة خاصة، تكفي لتبرير وجودها في رواية تُعنى بشكل أساسيّ بالمسائل النفسيّة التي لها كل الأثر، في طبيعة العلاقات الإنسانية والحاجات المرجوة من تلك العلاقات.
في مونولوج طويل وخلال الأجزاء الثلاثة الأولى من رواية “عيد ميلاد أسمهان”، يجد القارئ بأنه أمام رواية لشخصية رئيسية واحدة، وهي اسمهان بطبيعة الحال، لكنها فعلياً رواية مزدحمة بالشخصيات، من النساء والرجال، ولو أن المؤلف حاول اختزالهم جميعاً في امرأة واحدة ومحيطها القليل، من عائلة مشتتة، وأصدقاء طفولة لم يعد لهم وجود وصديقة واحدة ترافقها حتى نهاية السرد، فخلال السرد لم تتوقف أسمهان عن الحديث مع بنات افكارها، أو صديقتها “س”، التي تعاني أيضاً من علاقة معطوبة، لو لم يكشف المؤلف أنها شخصية حقيقية، لأضافها القارئ إلى مجموعة النساء المتخيلات.
وفي المقابل، اختار طرح عدة نماذج لرجال، من خلال علاقة تلك المرأة بهم، والتي تتسم غالباً بخذلان وسوء تقدير لحقيقة تلك الشخصيات، الخادعة من جهة والمحكوم عليها مسبقاً بالأنانية والغباء والمراوغة.
المرأة التي تبدو وكأنها سيدة هذا العمل وشخصيته الرئيسية، وكما ذكرت أعلاه، هي في الحقيقة مجموعة من النساء، أو لنقل إنها اختصار الصوت النسائي، كثابت محتشد بالمتغيرات، في مواجهة متغيّر يقع تحت سطوة التطابق الشديد للمادة الأولية، والصفات الرجولية التي لا تختلف كثيراً بين رجل وآخر.
بين علاقات عابرة وعلاقات عاطفية مؤثرة وعلاقات تحكمها الغرائز والشهوات، انحاز المؤلف انحيازاً ملحوظاً لجنس النساء، ومنحهن تبريرات منطقية للتأرجح العاطفي، وفقدان الثقة في الجنس الآخر، الذي أمعن في التركيز على سلبياته، فهو لم يعرض ولو نموذجاً واحداً لرجل يستحق الإشادة، حتى الشاعر المتردد والسلبي الذي ظهر في نهاية السرد وأسر قلب أسمهان.
إذاً، وفي محصلة ما ورد ضمناً من مؤلف هذا العمل، من وصف وتشريح وتداعيات نفسية لشخصياته، فمن الممكن القول بأن هذا العمل يبدو كما لو أنه اعتذارا طويلاً من الذكور للنساء.
عيب خلقي أو إحساس بالنقص
العيب الخلقي الذي تعاني منه بطلة هذا العمل، والذي ترك أثراً كبيراً في شخصيتها وفي تداعيات السرد، لا يعدو كونه إشارة من المؤلف، للشعور الدائم بالنقص، لدى النساء اللواتي تسعين أو تتورطن في علاقات عابرة خارج مؤسسة الزواج، أو في علاقات غير متكافئة، تقول أسمهان، “لا توجد علاقات عابرة، يوجد شخص عابر” هذا ما تخلص إليه لتبرير تلك الليلة مع الغريب، الذي ترك لها ولاعته وسلسلة فضية وضعتها في رقبتها بلا تردد، بإشارة ذكية من المؤلف أيضاً الى ما تفعله النساء المخدوعات بأفضليتهن، الموهومات باختلافهن، لدى رجال يجيدون جعلهن يعتقدن ذلك. في هذا الموقع من السرد، بدا واضحاً دهاء المؤلف الذي تقمص الصوت الداخلي للنساء، ومنح للبطلة أن تأخذ قراراً حاسماً بقتل “العرجاء” ، في إحالة إلى تغييب واحد من الأصوات الداخلية الذي يواصل التأكيد على عقدة النقص، لم يكن من مناص أمامها لإسكات ذلك الصوت إلا من خلال قتله نهائياً لجعل ارتداءها للسلسلة الفضية أمراً مشروعاً، بمعنى، الاستمرار في تصديق عبارة “لا توجد علاقات عابرة، يوجد شخص عابر”.
أسمهان امرأة تميل إلى العزلة، أو إنها أصبحت كذلك بعد تجربة فاشلة بالحب، وعلاقات عرضية فاشلة أيضاً، دون مواجهات تذكر، ليصبح الهرب ملاذاً تلجأ إليه، كلما انتابها الملل من حياة تجدها صاخبة رغم إيقاعها البسيط، وهذا ما يدركه القارئ في نهاية العمل، وبعد أن تشكّل لديه تصورٌ حول علاقتها بالمكان، وأن الضجيج المفتعل الذي تهرب منه، هو في الحقيقة يصدر منها، ولا يعدو كونه اضطراباً نفسياً، تعاني منه وهي تطلق العنان لأصواتها الداخلية وتمنحها شرعية محاسبتها ومرافقتها حتى الى سريرها ونومها وساعات اختلائها بنفسها. تسعة عشر امرأة ترافقنها، تتحكم أحياناً ببعضهن وتمنعهن من الكلام، فيما تبقي دائماً ولو على واحدة منهن لتتواطأ معها على أفعال، تعتقد بأنه لا يجدر بأن تقوم بها، كأن ترافق غريباً لليلة كاملة في الفندق، ثم تندم على ذلك.
العالم السري للنساء
استطاع إبراهيم جابر إبراهيم، مؤلف هذا العمل، وصف أدقّ هواجس النساء، وما يؤرقهن من تفاصيل، يصعب ملاحظتها، مثل شعرة زائدة في الوجه، مرهم وعطر خاص، التعامل مع الجسد، والأحذية والملابس، وملاحظات دقيقة خلال أحاديث عابرة، وهذا واحد من أسباب اعتبار هذه الرواية عملاً خاصاً، كون مؤلفها رجل تمكّن من التوغّل جيداً بالعالم السريّ للنساء.
خيبة تاريخية بالحب
بطلة هذا العمل تعاني بالإضافة الى العيب الخلقي من خيبة تاريخية بالحب، وخضوع عارم لهذه الخيبة، واستعداد دائم لتلقي المزيد من الصفعات منه.
لم يكتفي الرجل الذي أحبته بهجرها، بل أصر على أن يفجعها بجرعة مركزة من العذاب، بمرضه وبموته، وهنا نستطيع أن نخلص بنتيجة بأن المؤلف، تواطأ مع الراوية بتعرية الجنس الذكوري، وعرض بضع نماذج من الرجال المتهمين بما آلت إليه حياة تلك المرأة، ذات العيب الخلقي، والخيبة التاريخية بالحب، اللذان دفعاها للتورط بزواج لم يستمر طويلاً، وفي علاقات عابرة، بعضها سعت إليها وبعضها تم استدراجها لها، لتخفق غالباً وتحمّل سبب الفشل لذلك الكائن الذي تحكم عليه ضمناً، بالغرائزي، الأنانيّ، والمضطرب.
الزوج الضعيف، العاشق الساديّ، المستثمر المتورط بتمويل الجماعات الإرهابية، الشيخ الجليل المزواج، المثقف المغرور، وغيرهم ممن مرّوا بحياة أسمهان وساهموا بخيباتها، قبل أن تقع بالحب مرة ثانية وأخيرة وتموت خوفاً من الخيبة والفشل.
راعى المؤلف بالإضافة الى وصف علاقة بطلة العمل بالمكان، بأن يجعل الفترة الزمنية التي دارت فيها أحداث الرواية، في بدايات القرن الواحد والعشرين، هي فترة مضطربة شهدت اغتيالات وتفجيرات وعمليات تمويل مشبوهة، لجماعات متطرفة، وأحداثاً زادت من حدة اضطراب أسمهان وساهمت بتعزيز فقدانها للثقة بالعالم من حولها وبنفسها في ذات الوقت.
الجزء الرابع
تتصاعد الأحداث بصورة كبيرة، لدرجة يشعر فيها القارئ، بأن كل التشويق الذي اعتراه خلال القراءة الأولى والفصول الثلاثة الأولى من الرواية لا يعدو كونه، تمهيداً خفيفاً لذروة لم تكن بالحسبان، تنقلب فيها معايير حكمه على الشخصية الرئيسية، ويصبح لزاماً عليه أن يعيد النظر بتفاصيل إيحاءات السرد والإشارات التي دسّها الكاتب بدهاء، وكعبارات عرضية تبدو وكأنها مجرد حشو غير مبرر، كأن يشير في الصفحات الأولى من الرواية مثلاً، إلى الضيوف الذين لم يرهم أحد، وكأن تفكر اسمهان بأنها لو ولدت عند أولئك الذين يتبعون طقوس حرق الموتى لكانت مرتاحة أكثر.
في الفصل الأخير من الرواية، وهو ما سماه بالمحاكمات، تمكّن المؤلف من فكّ غموض ملابسات الأحداث كلها، بالكشف عن الشخصيات التي استخدمها، بحركة أقرب لأن تكون مسرحية، يُنزع فيها الستار عن الشخصيات التي كانت بالظل، في الوقت الذي تختفي فيه البطلة عن الخشبة.
أخيراً
رواية “عيد ميلاد أسمهان” هي العمل الروائي الأول للكاتب إبراهيم جابر إبراهيم، والتي نجح فيها بالخروج من عباءة اللغة الشعرية، والتخفيف من الاستعارات التي عوّد عليها قرّاءه خلال مقالاته وقصائده، لكن كاتبا بثقل إبراهيم جابر إبراهيم ومهما حاول إخفاء الموسيقى التي تدور بلا كلل بين حروفه، تمكّن من الحفاظ على لحنه اللغوي مع إبطاء النوتة وتخفيفها دون الاستغناء عنها تماماً لصالح السرد، واستطاع بخفّة أن يحافظ على البصمة التي تعوّد عليها القارئ منه.
رواية “عيد ميلاد أسمهان” الصادرة عن دار مسكلياني للنشر، للكاتب إبراهيم جابر إبراهيم، التي صدرت في العام 2020، بغلافها الذي رسم الكاتب نفسه صورته، وصفحاتها ال 240، هي تذكير للعالم بأن أعتى الأوقات كانت أجملها، وبأن الزمن الذي سبق الجائحة والتكنولوجيا وعصر النهضة الرقمية، على كل معاصيه وارتباكه وبساطته، كان عميقاً ويستحق أن يُعاش.