في الحديث عن الركائز الأدبية (النّثرية) الثلاث فلسطينياً، يأتي جبرا إبراهيم جبرا أخيراً، بعد غسان كنفاني (الآتي أولاً) وإميل حبيبي. ولهذا الترتيب معيار غير أدبي، هو متعلّق بالسياقات التي أتى فيها هؤلاء، وموقع كل منهم ضمن الحالة الفلسطينية أنذاك، وقد تشارك الثلاثة زمنَ الثورة الفلسطينية المعاصرة، التي تسيّدت، لسطوَتها الآسرة، معنى الفلسطيني وهويّته، وهو ما تعدى السياسة والاجتماع إلى الأدب، فكان كنفاني الروائي الفلسطيني الأوّل، وإن لم يكتب روايات بالمعنى “المُعجمي” وكذلك المَلحمي للكلمة، وقد خطفتْه من ذلك كتابةُ القصة والمسرحية والمقالة والدراسة الأدبية والسياسية والفكرية، عدا عن التحرير والرسم، فتنوّع إنتاجُه ويبقى أهمّه الروايات القصيرة، ومنها «أم سعد» و«عائد إلى حيفا» و «رجال في الشمس». وكنفاني اغتيل في عمر مبكّر، وهو ابن ٣٧ عاماً، فلم يُعطَ الفرصة ليكون روائياً “مكتملاً” كحبيبي وجبرا، لكنّه عضو المكتب السياسي “للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين”، ومكانته القياديّة، كوطني ويساري ومثقف، جعلته، في السياق الفلسطيني المتسيّد، وفي زخم الثورة المعاصرة، الأوّلَ ضمن ثلاثة، وركيزةً سردية فلسطينية أولى، دون أن يُنقص ذلك أو يزيد من قيمته الأدبية العظمى بكل الأحوال.
يأتي حبيبي ثانياً، وهو من الداخل الفلسطيني، لا المخيمات حيث انطلقت الثورة وتنظيماتها. هو ليس ابن تنظيم مقاتل بل ابن الحزب الشيوعي (السياسيّ البراغماتي حتى النخاع)، ولحبيبي منطقه وحجّته في العلاقة مع دولة الاحتلال نختلفُ معه في بعض منها أو معظمها، أو نتفق، وهذا يتعداه ليطال حزبَه الشيوعي. يبقى حبيبي، دائماً، روائياً فلسطينياً أساسياً، صاحب نصوص سردية من بينها رواية عظيمة هي «الوقائع الغريبة في اختفاء سعيد أبي النحس المتشائل». يبقى مؤسّساً مساهماً، بمنجزه الأدبي وبنصوص أصيلة، للسردية الفلسطينية. وهو ابن سياقه، مكاناً وزماناً، وهو ابن حزبه وشعبه، وله “جماهيره”، فكان، لذلك، أن لحق كنفاني وسبق جبرا.
ليس لجبرا عناوين كتلك التي لكنفاني وحبيبي، حيث المضمون السياسي واضح فيها، ولم يكن جبرا ابن حزب كان لدى الأول “الشعبية” ولدى الثاني “الشيوعي”، لم يكن له “جمهور” قرّاء مسبقين هم بالدرجة الأولى “رفاق”، قرّاء من شعبه واعين لحضورهم المباشر في نصوصه. في وقتٍ كتب كنفاني عن الفلسطينيين خارج الوطن، في المخيمات، وكتب حبيبي عنهم داخل الوطن، كتب جبرا عن ذاته، مخالفاً “اللازم” كتابته ومختلفاً بالتالي عن الكاتبَين الماركسيَين، كنفاني وحبيبي. وكان، لذلك، خارجاً عن السياق الفلسطيني آنذاك، سياق الثورة والجماهير والكفاح المسلح (وإن كان أهم أبطاله، وليد مسعود، فدائياً، أباً لفدائي، إنّما كتفصيل هامشي). وكان لذلك ثالث ثلاثة لسبب غير أدبي. ليست هذه تصنيفاتي الخاصة، بل ملاحظات لتصنيفات عامة متراكمة وتلقائية. ولا أمزج أفضليّتي برأيٍ نقدي (غير ذاتي) هنا، بل أعرض أسباباً غير أدبية لتراتبٍ كان أولاً مجحفاً بحق جبرا ولن يكون ثانياً وثالثاً، مقللاً من القيمة الأدبية العليا لكل من كنفاني وحبيبي.
قدّم جبرا الذاتيَّ على الجمعي. أبرز فرديّته في الكتابة الروائية، وفردية أبطاله في المكتوب الروائي. وهو، بخلاف رفيقَيه، لم يكتب فصولاًِ من سيرة الشعب، بل -كما صنّف كتابَيه «البئر الأولى» و«شارع الأميرات»- “فصولاً من سيرة ذاتية”، مازجاً، بذلك، بين السيرة الذاتية كجنس أدبي وبين الرواية كجنس آخر، مازجاً، كذلك، بين حكايته الفردية من طفولته في بيت لحم والقدس وصولاً إلى بغداد، وبين حكاية أفراد هم أبطال رواياته، معطياً للأدب الفلسطيني، في أساساته، بعداً لم يعطِه أيٌّ من كنفاني وحبيبي، وهو ذاتية الكاتب وفردانية بطله، ما لم يكن لكاتب ماركسي أن يعطيه. ففي الوقت الذي كان فيه أبطال كنفاني وحبيبي نماذج من الشعب، حيّة وموجودة بيننا ومتناسخة بقدرٍ ما، منحَ جبرا أبطاله فردية وتمايزاً وجعلها، كبرجوازية ومثقفة وذات هموم فكرية وجمالية، تنجذب إلى النّساء وتشرب الكحول وتناقش في الفنون، وتبقى بإنسانيتها التامة، فلسطينيةً غير نقيضة للسياق الفلسطيني في حينه، فإن لم يكن أبطال جبرا “رموزاً” للسياق الفلسطيني الثوري، لم يكونوا نقيضاً لها. كانوا، أخيراً، تنويعاً عليها، إضافة جمالية وخاصة إلى ما يمكن أن نسميه الإرث الأدبي الفلسطيني لدى المؤسِّسين. ففي وقت ماهى كنفاني وحبيبي أبطالهما بجماهير شعبهما، قام جبرا بقلب هذه العلاقة بين الأدب الفلسطيني وقارئه، إذ لم يكن لديه جماهير، بل أفراد ومجموعهم ناس، ليكون ما قام به هو تماهي هؤلاء الناس مع أبطاله وليس العكس، مبرزاً فردانية هؤلاء الأبطال. أما هذه الفردانية، فهي الكتابة الذاتية التي تكرّست لدى مشروع جبرا الروائي، الحداثي لذلك. لم يكتب كنفاني عن غسان، ولم يكتب حبيبي عن إميل، وكتب جبرا عن جبرا.
في كتابَي السيرة الذاتية لجبرا روحٌ روائية، بل، ودون الإشارة إلى أنهما “فصول من سيرة ذاتية”، يُقرأ الكتابان كروايتَين، ومقابلهما تأتي الأعمال الروائية لجبرا، «البحث عن وليد مسعود» و«السفينة» و«صيادون في شارع ضيق» وغيرها، كنصوص خيالية بشخصيات هي ليست أقل “جبراويّة” من جبرا في الكتابَين أعلاه، فشخصياتها الرئيسية تتشارك معه الزمان والمكان، الاهتمامات والهموم. هي هو. ليس ما أقوله هنا “تلصصاً” (هوايةٌ نقدية) على الكاتب من خلال شخصياته، بل قراءة لسيرة الكاتب من خلال تناسخ الشخصيات لبعضها، مؤلّفين، هي هذه المرة، بذلك، شخصيّةَ الكاتب. فكان جبرا، وبنسب متفاوتة، شخصياته الرئيسية كما كانتْه هي.
بذلك، كان جبرا، وليس كنفاني ولا حبيبي، مؤسِّساً لما يمكن تسميته بالتيار الذاتي في الأدب الفلسطيني. تلاه في ذلك حسين البرغوثي الذي رسّخ مكانة هذا التيار في أعمال هي كذلك مزجت بين الخيالي والسيَري، بين الرواية الذاتية والسيرة المتخَيّلة في كتبه، معطياً مساحة أكبر للبعد السيَري، فلم تكن كتبه «سأكون بين اللوز» و«الضوء الأزرق» و«حجر الورد» روايات بالمعنى التقليدي للكلمة، بل نصوصاً نثرية وازاه فيها لاحقاً مريد البرغوثي في «رأيت رام الله» و«ولدت هناك ولدت هنا»، وبدرجة ما يمكن إدراج كتابَي محمود درويش هنا كذلك «ذاكرة للنسيان» و«في حضرة الغياب» كنصَّين سرديين ذاتيين على تخوم الرواية. وهذه النصوص أتت حداثية بالنظر إلى “روائيّتها”، فكتبُ درويش والبرغوثيّين كانت كذلك سيرة ذاتية إنما، كسيرتَي جبرا، مُزجت بالخيال قراءةً، فيها شخصية رئيسية هي كاتبها، وفيها أحداث تتوالى، مَشاهد وحوارات ومونولوغات، فكانت، بقراءةٍ يكون فيها الكاتب “ميتاً” كما يريد رولان بارت، رواياتٍ تحوّلُ مؤلّفَها إلى شخصيّة فيها. كانت، الكتبُ، الحكايةَ التي هو يحكيها فصارت الحكايةَ التي هي تحكيه. وكل هذا يجد تبريرَه التّصنيفي -إن كان لا بد منه- في الـ “نوڤو رومان” (الرواية الجديدة) الفرنسية حيث تتفكّك الشخصيات والحبكة اللازمة لما يمكن تعريفه روايةً، وحيث تكون الرواية “رؤية ونسخة فردية للأشياء”، بعيداً عن “واقعية” أدب كنفاني وحبيبي.
الذاتية التي أسس لها جبرا، كانت خارجة عن المألوف الشعبي والتوقّع لما يمكن أن يكونه الأدب الفلسطيني “الملتزم” بقضية وثورة آسرَين تكون الشخصية الرئيسية فيه نموذجاً لجماهير القرّاء. لهذه الذاتية همومها وانكساراتها وضعفها وكذلك قوتها، لها إنسانيتها، فلا تكون الشخصية الرئيسية هنا “بطلاً” مألوفاً وضرورياً ومُتوقَّعاً ومرغوباً كفلسطيني.
كي أنهي، أبقى مع جبرا، مع نصّه، لا الإشارات “الواعية” في مقدمات كتبه ومقالاته. أبقى مع حضور سيرته الذاتية في شخصياته الرئيسية، مع أدبه الذي أدخل فيه ذاتَه كشخصية أدبية غائبة، وفي ذلك انغماسٌ أكثر في الذاتية. في الفصول الأخيرة من «البحث عن وليد مسعود» نقرأ إشارة إلى «البئر الأولى»، في حوار بين شخصيتَين عن وليد وكتبه: