بين الرواية والمجموعة القصصية
مجموعة النصوص الأدبية المنشورة تحت عنوان “مدينة الخسارات والرغبة” للكاتب “محمود شقير” تتداخل في نوعها السردي بين الرواية والمجموعة القصصية. فيمكن اعتبارها نصاً روائياً من حيث البنية، لأن القصص فيها تتضافر لتشكل نصاً روائياً واحداً، ويمكن التعامل معها على أنها مجموعة قصص تتجاوز في مجموعة قصصية واحدة. لكن الغاية من هذا الشكل السردي الهجين الذي يبتكره الكاتب، هو محاولة رسم صورة قصصية شاملة، فسيفسائية لمدينة بتاريخها، بأحداثها، بأماكنها وشوارعها وأحيائها، وبشخصياتها، بما في ذلك التخييلي منه والواقعي.
“ينتابني شعور بأننا إلى جانب مصائرنا كأفراد، نشكل أجزاءاً من أشخاص لا نعرفهم”، بهذا الإقتباس من الأديب الأرجنتيني خوليو كورتاثار، يفتتح الكاتب القسم الأول من مجموعة نصوصه القصصية، هذا الإقتباس ينبئنا بأننا إزاء حكايات تتقاطع شخصياتها لتؤثر في مصائر بعضها البعض. ويبدأ كل نص قصصي بتعريفنا بإسم الشخصية التي سنرافقها في حكاية هذه القصة بالأسلوب المباشر للرواي: “اسمي..”، أو بأسلوب الضمير الغائب: “اسمه، أو اسمها…”، ليبدأ السرد من بعدها.
عن أحياء المدينة وأماكنها
في الحكاية الأولى نتعرف على أماكن المدينة، أحيائها، ومناطقها، وشوارعها من خلال قصة التعارف بين حليم وبين الرسامة مريم التي تسعى إلى الرسم والتلوين على جدران المدينة وتحويلها من الرمادي إلى حيوية الألوان. يرافق حليم الرسامة في تجوالها في حارة النصارى، وفي الأسواق المكتظة بالناس، وهو يغطس في الألوان برفقة مريم، التي كان جدها واحداً من النشطاء السياسيين، عرفته شوارع القدس وهو يهتف في المظاهرات، حينما جاء التركي جلال باريار إلى البلاد لجرها إلى حلف بغداد، فكان جد مريم وآلاف الناس له بالمرصاد، بينما إلتزم والدها العمل بالتجارة، تقول مريم: “انظر كيف يتناقص عدد المسيحيين الفلسطينيين في المدينة”. كانت لديها القناعة بأن الرسم هو وسيلتها للرد على ما في الحياة من بؤس وخذلان.
حكاية كريستينا، التي جاءت من إشيلية إلى القدس، لتعمل في منظمة غير حكومية معنية بحقوق الإنسان، تطلعنا على جوانب أخرى من المدينة. تفكر كريستينا في القدس بأنها مدينة مظلومة لكثرة ما انتهكها الغزاة، ونمشي بصحبتها في أحياء الشيخ جراح، باب العامود، بمحازاة سكة القطار، لنشهد على حادثة استيلاء المستوطنيين الإسرائيليين على منازل الفلسطينيين، فيُنقل المشهد إلى القارئ من خلال عيني كريستينا: “رأت قرب البيوت التي استولى عليها المستوطنون حشداً من الناس: فلسطينيين ومتضامنين إسرائيليين وأجانب من مختلف الجنسيات. أُُلقيت خطابات ورُفعت شعارات، ورجال الشرط بالأسلحة والهراوات يقفون للجميع بالمرصاد”.
حكايات عن الحب والموت
تتنوع المشاعر الإنسانية التي يختارها الكاتب لكل حكاية من الحكايات؛ الحب، الشوق، السأم العاطفي، والإخلاص كلها حالات عاطفية تملئ نصوص الحكايات. في حكاية سرحان ونسرين نشهد على قصة حب بين ثنائي من ذوي الإحتياجات الخاصة. وُلد سرحان بنقص في الأوكسجين، فبلغ العشرين لا يقرأ ولا يكتب، وعاجز عن التركيز الذهني. أما نسرين فقد ولدتها أمها ولادة طبيعية مثلما ولدت بناتها الأخريات، غير أنها فقدت بصرها بعد سنوات. يفكر الأهالي بتزويجهما، فينشأ التقارب بينهما، لكن نسرين ترفض الإقتران بالولد، لأنها غير واثقة من مستقبلها معه. تشعر كما لو أن شباكاً نصب لها، غير أنها كانت ترتاح في بعض الأحيان حينما تسمعه، وحينما تراه بعين خيالها إلى جوارها في السرير. لتلد ابنها منه ويموت الأب بعد شهرين برصاصة من جندي أثناء مطاردة في السوق لعدد من شباب الإنتفاضة، فتترمل الأم لتبكي حيناً وتضحك في بعض الأحيان، وطفلها يكبر بسرعة كأنه على موعد مع أشياء مدهشة ليست في البال.
حكايات بين القدس واسطانبول وبرلين
ترتبط حكايات مدينة القدس بحكايات مدن أخرى، أبرزها حضوراً في قصص المجموعة مدينة اسطانبول، وذلك من خلال حكايات عدة تحضر فيها المدينة في علاقتها مع القدس. نتابع حكاية المقدسي الذي يقوم بزيارة إلى اسطانبول ليتقارب مع ميرال الطالبة الجامعية التي تعد رسالة الدكتوراه عن تاريخ القدس، وتعمل في أوقات فراغها مرافقة للوفود القادمة إلى اسطانبول. كانت ميرال تنهال بالأسئلة فضولاً عن القدس، وتحلم بزيارتها.
في القسم الثاني من الكتاب نتعرف على حكاية من زمن تاريخي مختلف، زمن يعود إلى تاريخ العثمانية في القدس، عبر حكاية روكسلانة الجارية في الباب العالي والتي يعشقها السلطان ويقربها إلى قلبه. تبدأ حكاية روكسلانة عند زيارتها إلى القدس للمرة الأولى والوحيدة، حيث تعشق المدينة ولكن عقلها يبقى مع سلطانها الذي تركته في اسطانبول. تتداخل في هذه الحكاية مدينتا القدس واسطانبول في مشاعر وأفكار روكسلانة والسلطان: “جسدها الآن في القدس وعلقها في اسطانبول. جسد السلطان في اسطانبول وعقله في القدس….روكسلانة تمشي الآن في طرقات اسطانبول، وترى نفسها في القدس”. من زيارتها الوحيدة، تعشق الخادمة-السلطانة روكسلانة مدينة القدس، فتتأمل رحلة حياتها التي كانت حافلة بالأمجاد، غير خالية من الخسارات، وبين الحين والآخر يستيقظ في قلبها حنين إلى القدس، يستيقظ الحنين مع البكاء. وتنتقل بنا الحكاية التالية من زمن السلطان العثماني إلى زيارة الإمبراطور الألماني للقدس، عبر حكاية زوجته فكتوريا، يترافقان برحلة من برلين إلى القدس تمتد على بضعة أسابيع. يدخل الإمبراطور إلى المدينة من ثغرة فتحت خصيصاً في السور، وزوجته تتأمل البيوت والحوانيت وشعرها ينسدل على عينيها مثل نساء الحكايات. تغضب أوغستا فكتوريا من زوجها لأنه اشتاق إلى برلين وهو راغب في العودة إليها، فتصر على أن يمنحها الإمبراطور طفلاً في القدس.
حكايات السفربرلك
مهنة الحكواتي المتعلقة بالحكي والقصص تخصص لها قصة الحكواتي جبريل الذي يروي في كل ليلة قصة عنترة أو قصة أبي زيد الهلالي، وفي بعض الأحيان يروي قصصاً عاشتها المدينة وأصبحت على كل لسان. أحب امرأة من غجريات القدس، بيتها لا يبعد سوى بعضة أمتار من المقهى الذي يعمل فيه. الغجرية كانت تأتيه بعد منتصف الليل، أي بعد أن ينصرف زبائن المقهى ويبدأ الحكواتي استعداده للنوم، تدخل الغجرية وتجلس إلى جواره وتطير النوم من عينيه. بعد ذلك، يمضيان الوقت في كلام لا ينتهي، والوقت ينتهي والغجرية تغادر المقهى بعد ساعتين، على أن تعود في الليلة التالية مثلما وعدت الحكواتي قبل أن ينام. ثم تأخذنا حكاية الحكواتي جبريل وزوجته الغجرية إلى أيام السفر برلك، لتروي الحدث التاريخي من خلاله حكاية هذا الثنائي العاشق الذي يتزوج خطيفةً بعد رفض عائلتها طلب الزواج منه. تزوجا وكانا في أتم انسجام، وبعد ستة أيام يلقى القبض عليه، ويقتاد من قبل الأتراك إلى الجبهة لمحاربة الأعداء، وهي لم تعد تعرف متى تصحو من نومها، ومتى تنام. الحكواتي جبريل يُقتل في الحرب بعد أيام من مشاركته فيها، لم يكن يجيد القتال مثلما أجاد مهنة الكلام، أعيدت جثته إلى زوجته. فاستعانت بالجيران الذين كانوا من زبائنه في المقهى، دفنوه في مقبرة المدينة وهم يتحسرون على حكاياه.
كذلك تعاني حفيظة التي أصرت المجيء إلى القدس بعد شهر واحد من زواجها، رغم الحرب التي أنذرت المدينة على الأبواب، فتفقد زوجها الذي يُساق إلى الحرب. فيطول انتظارها دون أن يعود. قيل لها إنه الآن في اسطانبول مع الجيش الذي انسحب. قيل: إنه تزوج من امرأة تركية وله منها ولد. قيل: إنه ظل يحارب حتى اللحظة الأخيرة، وهو مدفون عند مشارف القدس، وقيل: إنه فر من الجيش وتاه في الطريق. ومن خلال حكاية خادمة يتركها سيدها وسيدتها في القدس وحيدة نتعرف على مرحلة الخروج التركي من المدينة لصالح دخول القوات البريطانية.: “الخادمة ظلت في المدينة المستباحة ولم يسمح لها سيدها العجيب بالمضي معه”.
رسائل الجندي البريطاني
أما مرحلة التدخل العسكري البريطاني في القدس، فنتعرف عليها من خلال مجموعة من الرسائل التي يوجهها جندي بريطاني من القدس إلى عائلته، صحيح أنه كلما كتب رسالة توصل إلى تمزيقها وعدم إرسالها إلا أنه ومن خلال مسودات الرسائل التي يحاول كتابتها نتعرف على الأحداث الجارية في القدس. نتعرف على التصادم الثقافي بين ماضي الجندي وثقافة المدينة، تجربته في الصداقة، في الهوس بالجنس الشرقي فتجربة بنات الهوى والخادمات الجنسيات، نتعرف على تعلقه بالقدس وقراره البقاء فيها، ونتعرف على قصة الحب التي تربطه مع بديعة الطالبة الجامعية التي جاءت من يافا إلى القدس لتلحق بكلية البنات في الفترة التي غادر الأتراك فيها المدينة ودخلها الإنكليز، يكتب الجندي الإنكليزي لأمه: “هذه المدينة تنطوي على المفارقات، فيها مسجد وكنائس، وفيها بيوت دعارة وقوادات”.
الحب في زمن الحصار
بين القصة والأخرى نعبر من مرحلة تاريخية إلى أخرى، ومن المظاهرات المقدسية ضد الوجود العسكري الإنكليزي في المدينة، ننتقل إلى حرب ال 1948، مع حكاية الزوجة التي ترملت بعد مجيء الحرب بأسبوعين: “قال الزوج لزوجته وهو يقبلها عند باب الدار: أعود بعد ان نضمن، أنا وأخوتي الجنود، للقدس أمنها وسلامها. والزوج لم يعد، ظل أمر حياته أو مماته طي المجهول. والمرأت تعيش الآن مع أطياف زوجها في الليل وفي النهار، والنافذة تبقى موصدة، وعلى حوافها يتراكم صدأ وغبار”.
في القسم الثالث من الكتاب تحضر الحكايات الأكثر معاصرة، فتعكس لنا قصة سكينة التي تعيش في غزة وحبيبها الذي يعيش في القدس، صعوبة اللقاء في ظل واقع الحصار، فيستيعنان بخدمات الإنترنت، يتلاقيان على صفحات مواقع التواصل الإجتماعي، وينجبان الأطفال في غرف الدردشة. وحينما لا يكون ثمة قصف جوي أو اعتقالات، يصعدون إلى أسطح المواقع الإلكترونية، يلعبان مثلما يريدان، يجلسان على حافة أحد المواقع متلاصقين. هي حكاية حب فانتازية تجري أحداثها في الفضاء الإفتراضي. هذه القصة في نهاية المطاف، رغم طابعها الجمالي، إلا أنها ترصد صعوبة الحب بين امرأة من غزة ورجل من القدس، يعيشان الحياة في فضاء التواصل الإلكتروني، إلا أن تقدم العاشقة سكينة على عبور الحواجز والوصول إلى القدس، رغم معرفتها بالجرم الذي ستعاقب عليه من قبل السلطات.
حكاية الأسير الفلسطيني
قصة الأسر للفلسطينيين لا يعيشها الأسير وحده، بل تمتد لتؤثر على كامل أفراد عائلته، ويخصص لها المؤلف مساحةً كبيرة من القسم الثالث للكتاب، عبر حكاية الأسير نعمان الذي قضى حكماً بالسجن مدته عشرون سنة، تبين لنا الصعوبات التي تعيشها العائلات الفلسطينية من تجربة الأسر، بالإضافة طبعاً إلى الصعوبات التي يعانيها الأسير. وذلك من خلال حكاية زوجة الأسير. فبينما يسأل الأسير: “من الملوم من الذي يتحمل المسؤولية عن حالنا؟ هل نسكت على المهانة والظلم والاستعباد؟”، يعرق جسد زوجته وهي تبحث عنه بين السجن والآخر في المسافات الطويلة ويرهقها ضجيج الحافلة، يعتريها القلق على الأولاد الذين تركتهم خلفها، لأنها لا تستطيع إصطحابهم معها في كل زيارة. وتصف القصة ليال الإنتظار وأيامه التي تذوي في إنتظار الإفراج عن الأب-الزوج-الأسير. تروي الزوجة وداد مشاهداتها في السجون الإسرائيلية: “كنت أرى معتقلين يخرجون من الباب الرمادي وعلى عيونهم أربطة من قماش، ومن حولهم جنود يأخذونهم في السيارات العسكرية إلى أمكنة أخرى. لم أنم تلك الليلة، كنت أراه وهو بين أيديهم في غرف التحقيق. وكنت أنهض بين الحين والآخر لتفقد الأطفال في أسرتهم، ثم أعود إلى السرير”. بينما تنتظر أيضاً ابنة الأسير خروج والدها من المعتقل لتعلن قدرتها على الحب والزواج. مصير شخصية أخرى يرتبط بمصير الأسير نعمان، وهو مصير ابنته. ليمتد أثر الأسر على العائلة الفلسطينية لأجيال.
في “مدينة الخسارات والرغبة”، لا يرسم المؤلف صورة مثالية للمدينة القدس، بل يشمل بنصوصه تنويعاتها بين الجماليات والخسارات، بين الشاعري والظالم، بين الإنساني والبالغ القسوة، وبين السياسي والتاريخي، لترتسم صورة الجمعي عبر منمنمات من الحكايات الفردية. كل ذلك ضمن شكل أدبي خلاق، يبتكره الأديب محمود شقير بعناية، ويصنعه بمتانة التعامل مع التقنيات الأدبية.