«القدس وحدها هناك»… حكايات قصيرة عن الإنسان المقهور 

وائل قيس

شاعر وكاتب من سوريا

يحضر في المجموعة كذلك مشاهد تاريخية يستعيد فيها شقير سير مختلف عن تاريخ القدس حتى ما قبل 800 عام، قبل أن يعود لربطها مع مشاهد لذاكرته البصرية التي تؤرخ لما بعد 47 عامًا من وقوع الحرب كما يخبرنا الرواي المولود قبل وقوعها بعامين، ويقول إن "عمر المدينة أكبر من ذلك بما لا يقاس"،

للكاتب/ة

اشتراكك بنشرتنا البريدية سيحمل جديدنا إليك كل أسبوع

الأكثر قراءة

عشرة أفلام عظيمة عن المافيا (ترجمة)
10 أفلام تشويق إيروتيكية رائعة (ترجمة)
10 أفلام عظيمة عن الوحدة (ترجمة)
عن السيرورة والصيرورة

من أجل صحافة ثقافية فلسطينية متخصصة ومستقلة

18/02/2021

تصوير: اسماء الغول

وائل قيس

شاعر وكاتب من سوريا

وائل قيس

ليس غريبًا القول إن الكاتب المقدسي محمود شقير كان شاغله الأساسي منذ أعماله الأولى التوثيق لأحياء القدس سرديًا في سبعينيات القرن المنصرم، تيمة استمدت ركائزها الأساسية في المرويات القصصية والروائية من شبابيك وأزقة القدس المحتلة ضمن فترات تتعدد فيها الأزمنة والتواريخ التي ترصد وقائع المدينة بعد الاحتلال الإسرائيلي، بما يشكل فيها من ذاكرة توثيقية/بصرية سردية للأمكنة التي يروي تفاصليها في مختلف أعماله الأدبية.  

في مجموعته القصصية القصيرة «القدس وحدها هناك» (نوفل – هاشيت أنطوان، 2010) يذهب شقير في سردياته القصيرة إلى توثيق مشاهد مختلفة من حياة العرب المقدسيين في القدس الغربية، مع الإشارة إلى الأحياء وأبواب سور القدس بصورة مباشرة، كما لو أنه يريد لهذه القصص التذكير بتاريخ القدس خلال مرحلتين مختلفين من ماضيها، تجمع في متنها دلالات على الحقبة الأيوبية في أواخر القرن الثاني عشر إلى جانب الحقبة العثمانية التي امتدت لأربعة قرون منذ بدايات القرن السادس عشر، لتتقاطع في المرويات القصصية مع القدس في مرحلة ما بعد الاحتلال.

على عكس أعماله السابقة التي لا يشير فيها شقير للأحياء التي تدور حولها سردياته بأسمائها، كما الحال مع مجموعة “صورة شاكيرا” على سبيل المثال، والتي يترك فيها فضاء أسماء الأحياء المقدسية مجهولة مما يفتح المجال أمام المخيّلة لاستحضار الأمكنة بصور مختلفة. نجده في “القدس وحدها هناك” منذ العتبة الأولى يقابل عدم الإشارة للأمكنة بأسمائها بالنقيض عندما يتحدث الرواي عن “مقهى باب العامود” بصورة مباشرة، قبل أن يقدم سردًا توثيقيًا سرديًا للمقهى: “أجلس وأتأمّل حجارة السور، يعروها اصفرار ما. أراقب شبابيك البيوت التي تمتدّ أمام ناظريّ، شبابيك بعضها مغلق وبعضها مفتوح، وهي تخفي وراءها أسرارًا وحكايات”.

يعتمد شقير في نصوص “القدس وحدها هناك” الحائزة على جائزة محمود درويش للثقافة والإبداع في عام 2011 على صوت الراوي الذي يتقنه صاحب “القدس ظل آخر للمدينة” في سرد تفاصيل شخوصه القصصية، مقدمًا سردًا عن شخصيات مختلفة تتداخل وتتباعد في تفاعلاتها الاجتماعية فيما بينها، قصص مرتبطة-منفصلة لا تخرج عن سياق تقديم صور مختلفة لحياة العرب المقدسيين تحت حكم الاحتلال الإسرائيلي. 

لا تخرج المرويات القصصية القصيرة عن السياق القصصي لأعمال شقير السابقة التي يستعيد فيها من خلال ذاكرته البصرية لمشاهد مختلفة من حياة العرب المقدسيين بعد استيلاء المستوطنين الإسرائيليين على منازلهم غصبًا، ومواجهتم لمصير مجهول مع بروز مشاعر الغضب والقسوة، لا تلك المشاعر التي تعكس المصائر المجهولة لأبطال المجموعة، من الترحيل إلى الاعتقال وأوامر إخلاء المنازل، ومنها أبطال منسيين يستعيدهم الراوي بخيوط قصصية سريعة، ولا شيء سوى الغضب المدفون الذي يبقى حاضرًا في النصوص، مثلما يحدث مع خديجة التي “تطلّ من شبّاك غرفتها وترفع صوتها في احتجاج” لتعبر عن غضبها من صخب المستوطنين، يقابلها زوجها عبد الرزاق بالرد عليها راجيًا منها “أن تخفض صوتها. يقول لها: لا تفضحينا يا بنت الناس”.

يحضر في المجموعة كذلك مشاهد تاريخية يستعيد فيها شقير سير مختلف عن تاريخ القدس حتى ما قبل 800 عام، قبل أن يعود لربطها مع مشاهد لذاكرته البصرية التي تؤرخ لما بعد 47 عامًا من وقوع الحرب كما يخبرنا الرواي المولود قبل وقوعها بعامين، ويقول إن “عمر المدينة أكبر من ذلك بما لا يقاس”، لكن التاريخي يظهر أكثر مع القصص المروية عن يورام، القائد المسؤول عن أمن المدينة، والمهووس بـ”نظريات المؤامرة” التي ينسجها من الوثائق التاريخية التي توثق التاريخ الاجتماعي-السياسي للقدس على مرمى الأزمان والقرون المنصرمة.

يتجلى هوس يورام الأمني أكثر من ذلك حين يتخيّل مشاهدته “فرسانًا بملابس غير مألوفة على ظهور الخيل، وخوَذًا من العصر الأيوبيّ على رؤوس الفرسان، وسيوفًا يمانيّة تتدلّى من خصورهم”، أو من مخاوفه من صناعة العرب المقدسيين الذين يمتهنون الحدادة “مواسيرًا لصواريخهم” بعد أن يقرأ وثيقة تاريخية تتحدث عن مهارة المسيحيين المقدسيين في صناعة الأدوات المنزلية، إذ أن يورام قبل انتحاره بعد تنكره بزي عربي مقدسي، كانت حياته تمضي في القراءة والبحث “عن تاريخ المدينة في ساعات الفراغ”، فقد كانت “تؤرّقه أشياء كثيرة في تاريخها ويتمنّى لو أنّها تختفي، لو أنّ المؤرّخين يرسلونها إلى غياهب النسيان لكي تصفو المدينة خالصة له ولذرّيته”.

من عبد الرزاق إلى خديجة مرورًا برباب زوجة الرواي تتعدد شخوص المجموعة التي نسمع حكايتها على لسان شقير/الراوي الذي ينوب عنهم بنقل قصصهم وحوارتهم في بعض الأحيان، وتقمصه دور الراوي في أحيان أخرى، أخبار وسرديات وأقاصيص يإيقاع سريع يستذكرها من خلال تفاعله المباشر مع شخوص قصصه، يتداخل فيما بينها العاطفي مع السياسي والاجتماعي لتشكل صورًا تتقاطع فيها المصائر والوجهات: “أمشي أنا ورباب من دون استعجال (…) تحملنا المدينة على صدرها كأنّنا طفلان، وهي تلقي بثدييها نحو اليمين ونحو الشمال. نتلكأ في مشيتنا بين الثديين. نقترب من البيت الذي استولى عليه شارون. نرى أعلامًا باللونين الأبيض والأزرق على سطح البيت، أقول لها: استولى على سرّة المدينة، هل ترين؟”. 

وليس من نافل القول التذكير بالمتوالية القصصية التي يبني عليها شقير أعماله القصصية، حيث نجده يعيد نسج مروياته القصصية على شكل حلقات قصيرة منفصلة-متصلة فيما بين الشخوص والأمكنة، مضمنًا فيها أنماط المتوالية القصصية الخمسة كما يحددها دومينيك مانغونو، هكذا تنتقل السرديات المروية عن شخوص المجموعة لتكون ظاهرة في إحدى القصص قبل أن تختفي في القصة التالية لتعود مرةً أخرى بالظهور لاحقًا. 

إذ تغوص مشاهد المرويات القصصية المتنوعة في تفاصيل شخوص الحكاية الممزوجة ما بين الفرح والقسوة، ومشاعر محكومة بالألفة والغرابة، مسترجعًا في لحظات عابرة تاريخ المدينة التي أُعيد بناؤها 17 مرةً بعد أن دُمرت بالرقم عينه، كما في قصة “مشهد” عندما يقول: “أمشي في الطريق الذاهبة إلى المسجد الأقصى بحذر وإشفاق. أمشي وأنا أستعيد في ذهني المشهد الرهيب. سبعون ألفًا من أهل المدينة ذبحتهم سيوف الفرنجة الغزاة، والدم في الأسواق والساحات وصل إلى الرُّكَب”، ويتبعها في النهاية بقوله: “لا يفارقني المشهد، والدم كان يسيل في أسواق المدينة وساحاتها، وما زال”.

هكذا إذن، يستعيد محمود شقير في “القدس وحدها هناك” جزءًا من تاريخ القدس غير المرئي في مروياته القصصية القصيرة، صورة أخرى تضاف إلى مئات الصور التي تروي مشاهدها عن حياة العرب المقدسيين تحت حكم الاحتلال، مجموعة يمكن إنهاء الحديث عنها باقتباس ما جاء في بيان جائزة محمود درويش عندما أشارت إلى أن فلسطين “تتكشّف في مأساتها وصمودها وآفاقها في كتابات محمود شقير فهي ماثلة في حكايات الإنسان المقهور الذي يستولد الأمل وفي التمسّك بعالم القيم وفلسطين ماثلة في المجاز الجمالي الذي بنى عليه شقير كتابه «القدس وحدها هناك»، وحيث فلسطين هي الإنسان البسيط المدافع عن ماضيه ومستقبله معًا”.

الكاتب: وائل قيس

هوامش

موضوعات

الأكثر قراءة

عشرة أفلام عظيمة عن المافيا (ترجمة)
10 أفلام تشويق إيروتيكية رائعة (ترجمة)
عن السيرورة والصيرورة
10 أفلام عظيمة عن الوحدة (ترجمة)

GOOGLE AD

نكـتـب لفلسطين

اشتراكك بنشرتنا البريدية سيحمل جديدنا إليك كل أسبوع

اختيارات المحرر

من أجل صحافة ثقافية فلسطينية متخصصة ومستقلة

اشتراكك بنشرتنا البريدية سيحمل جديدنا إليك كل أسبوع