اليوم
أصبحتُ فرنسياً
ذهبتُ إلى قاعة البلدية
التي كانت تعجُ بعرب وروس وآسيويين وأفارقة
غنوا جميعهم “لا مارسييز”
كنتُ أقفُ في القاعة
كمسيحٍ يقفُ على بحرٍ تتلاطمُ فيه الأمواج
والأفكار تقفزُ كأسماكِ السلمون
واحدة عن الاستعمار وإرثه، أخرى عن دعم الدكتاتوريين، عن سوق الأسلحة، عن اليمين واليسار،
الاشتراكيين والرأسماليين.. وأخرى كثيرة غيرها
هل أضربُ رأسي بكل ذلك؟
أم أكتفي بالاستمتاع
بجبنة السانكتير ونبيذ الكوت دو رون، ببراكين أوفيرن وحدائق فرساي؟
أكنسُ كل الأفكارِ، أبعثرها على أرضية القاعة كعامل تنظيفٍ يسرعُ الانتهاء من وظيفته
أستحضرُ الإخوة لوميير، أزهار شارل بودلير، خيبات إديث بياف، حذاء رامبو وقميص كوكوشانيل
الفرنسيون الجدد
معي الآن في القاعة
يصدحون بـ مارسييز مكسرة
جاءوا من الصباح الباكر
بملابس جديدة وأجساد تفوح منها رائحة شامبو وعطور رخيصة
دخلوا القاعة التي عُلق على جدارها الأيمن صورةٌ لـ إيمانويل ماكرون مبتسماً
وعلى الأيسر منحوتة مغبرة لـ ماريان، رمز جمهوريتي الجديدة
الفرنسيون الجدد
يغنون
والكلُ يصدحُ
بشفاهٍ متلعثمة ومارسييز مكسرة
النشيد يقرع في أذني:
“هؤلاء الجنودُ الهمجيون
الذين يأتون حتى أسرّتنا
لذبح أبنائنا ونسائنا
إلى السلاح، أيها المواطنون
شكّلوا صفوفكم
فلنزحف.. فلنزحف
وليتشبّع ترابُ أرضنا من دمائهم القذرة”
أتخيلُ “روجيه دو ليل” في إحدى ضواحي القدس
محتمياً خلف صخرة
يكتب هذه الكلمات في مواجهة الاحتلال..
هل يمكنُ أن يتحولَ هذا النشيد إلى “لا مارسييز” فلسطينية؟
هل يتناسب الدم مع شعارات اليوم المطرزة بالإنسانية؟
مرحباً فرنسا
ها أنا أخرجُ من قاعة البلدية
مثقل الكتفين
أحملكُ كطفل في أول مشيته يحملُ جبلاً من الأسئلة
قد أرمي بعضها عندما أتعب
قد أحتفظُ بالباقي
أو أتخلى عنها كلها
إلا سؤالاً واحداً
سيظلُ يقرع كمطرقة حدادٍ في رأسي الصلب:
ماذا يعني أن تحصلَ على بيتٍ
بعد أن تحرم من بيتك؟
أن تقرأ فاتحةَ أيامٍ مقبلة
وخلفكَ كراريسٌ كثيرة
كلما هبَّت عليها الريح
تناثر منها الحبر واستوطن في صدرك
في ذاك اليوم،
كان الجو صحواً رغم البرد الشديد
عدتُ إلى المنزل
تلقيتُ رسائل كثيرة بالفرنسية والعربية والإنجليزية
كلها تهنئ وتبارك
صديقي أعد لي جاتو بكريمة ملونة
بالأحمر والأبيض والأزرق
ابتهجتُ كثيراً
والتهمتها قطعة قطعة
حتى انتفخت معدتي
حين حلَ المساء
كانت جمهوريتي الجديدة
تجلسُ أمامي على طاولةِ المطبخ
هي، كأم تحدق بولدها العاق
وأنا، كولد صفعه الخذلان
تبادلنا نظرات طوال
وحين تعبت
ذهبت إلى السرير
اليوم،
وبعد عامين على دخولي القاعة
مازلتُ أراها كلَ صباح
تجلسُ بصمتٍ على طاولة المطبخ
أحياناً أتجاهلها
أحياناً أبادلها ذات النظرات
وأخرى أنهالُ عليها بأسئلة لا تنتهي
أسئلةٌ
أعرفُ مسبقاً
أن جمهوريتي الجديدة
لن تجيبَ
على أي واحدٍ منها.