جميل حتمل، الطفل الوادع الجميل الضاحك، تحوّل إلى شخص آخر وهو يحدّق بي مهموماً كما لو أنه لا يصدِّق أن من أمامه هو أنا.
أوقفَ تاكسي ودلَّ السائق على عنوان البيت.
هل استغرب جميل طول لحيتي وشاربيّ، فهو لم يرني من قبل بلحية وشاربين، أم هي صدمة رائحة جسمي وثيابي؟
هل أعتذر له عن اضطراري للإقامة شهوراً في تلك الجهنم التي لا تشبه غيرها؟
لم يخطر في بالي أن أحظى بمصادفة أفضل من مصادفتي لجميل في ذلك الصباح الباكر. لقد أنقذتني من إحراجات عديدة صباح ذلك العيد. لم يكن لدي نقود توصلني إلى أي عنوان أعرفه. المخابرات الصغار سرقوا نقودي القليلة.
لا بدَّ أن من يراني في الطريق سيظنّني مجنوناً، أو متسوِّلاً في أفضل الأحوال.
في بيت جميل أشعر عادةً أني في بيتي وبين أهلي، ومع ذلك طلبت من جميل أن يحضِر لي مرآة، كي أرى نفسي بعد طول غيابي عنها، وأن لا يسمح لأحد برؤيتي وأنا في تلك الحال المزرية.
صحيح أنني لست مكسوراً من الداخل، ولكن رؤية الآخرين لي قد تكسرهم.
حين رأيت وجهي في المرآة، أدركت سبب انقباض ملامح جميل لحظة لقائنا.
خلال ساعات استحممتُ، وغُسِلت ثيابي، ونُشِّفت، وشعرت أني صرت خارج السجن حقاً.
في المساء أخذني جميل من بيتهم في حي القصّاع إلى حي التجارة القريب. قال لي إنه رتّب الأمور لسهرة تضم مجموعة صغيرة من الأصدقاء الأكثر موثوقية، وأننا سنتحدث هناك بشأن تفاصيل كثيرة.
منذ عرفت جميل وأنا أتساءل من أين يأتي بالوقت، ليقرأ كل ما يصدر من كتب ومجلات وجرائد، وليلتقي بمعظم الكتاب السوريين والعرب الذين يمرّون بدمشق أو يعيشون فيها، وليكتب قصصاً ومقالات، ويشارك بفاعلية في تحرير الكراس الأدبي، وينشط سياسياً ضمن رابطة العمل الشيوعي، وقبل وبعد كل ذلك يترك من وقته ما يكفي للعشق.
كان في انتظارنا في بيت التجارة صديق العمر الجميل وائل السواح. وضعت صفة “الجميل” بين العمر ووائل لكي تمسك الصفة بهما معاً.
واحدة من ضربات الحظ في حياتي أني عرفت وائل منذ بداية السبعينيات في حمص. ما الذي يمكن أن يجمع بين شخص مديني دمث ولبق مثل وائل، ورِث من أسرته ثقافة عريقة وافرة الغنى، وبين شخص مثلي قادم من قرية مطعونة بالبؤس والتعب والفجاجة وقسوة الظروف؟
للصداقات أطوارها التي لها علاقة بالكيمياء أكثر من أي شيء آخر.
وائل شخص يمكنك ببساطة أن تقرأ المياه العذبة الذكية التي تجري في روحه وسلوكه.
كنا جزءاً من شلّة تهتم بالأدب والفن والموسيقا والمسرح والسينما، وتتعاطى السياسة والورد والخمر والأمر، ولسبب أو أسباب ما، وجدتُ ضالتي السياسية عنده.
كنت عائداً من بودابست، كارهاً لكل ما له علاقة بالأسد وبكداش، وكان انشقاق رياض الترك والمكتب السياسي عن حزب بكداش قد تبلور، ووجدت نفسي قريباً منه ولكن ليس تماماً. بضعة حوارات مع وائل ثم وجدتُني أقرب إلى رابطة العمل الشيوعي، غير أن علاقتي بالرابطة بقيت خيطية، أي عبر وائل فقط، بعيداً عن الجسد التنظيمي للرابطة.
كان في سهرة بيت التجارة صديقان لهما محبة خاصة من الجميع، وحرص خاص على وضعيهما كطالبين يدرسان الطب في مراحله الأخيرة، هما جبرائيل غربي وعزّام دهبر اللذان يحبهما حتى أعداؤهما.
كيف يستطيع عزام وجبرا أن يجمعا متناقضات لا أحد يستطيع جمعها مثلهما. سريرة مفضوحة الطيبة والنقاء والجمال والمسالمة، واستعداد لخيارات خطرة تقتضي السريّة والمغامرة؟
وكان في السهرة أيضاً فادية لاذقاني صديقة وائل ونجوى صديقة جميل. صبيتان في مقتبل الورد والحلم وغمام الأمومة والأخوّة.
لدي ثلاث أخوات، وفادية تشعرني أنها الرابعة.
في نهاية السهرة عرفت أن بيت المخيّم يمكن أن يكون مضروباً، أي أنه، في اللغة الحزبية، تحت قبضة أو تحت رقابة المخابرات.
بيت المخيم كان جمهورية مستقلة خارج ضوابط السلطة وخارج ضوابط المجتمع. كنا نطلق على تلك الشقة الواسعة، الواقعة ما بين شارعي فلسطين واليرموك، اسم الكومونة، لأن حياتنا فيها جماعية. من معه يدفع ومن ليس معه معفيّ، وقد كنت حينها عسكرياً راتبه في أدنى سلالم الرواتب.
أنا أحد ساكني الكومونة التي كانت أشبه بملتقى لمحرّري الكراس الأدبي، ولبعض الأصدقاء السياسيين المعارضين.
ضايقني غموض مصير وضع بيت المخيم.
قلت: كيف لم تتأكدوا حتى الآن إن كان البيت مضروباً فعلاً أم لا؟
قالوا: وكيف لنا أن نتأكد؟
قلت: لا خيار آخر إذن.. أذهب غداً بنفسي وأتأكد.
قالوا: وإذا كانت المخابرات في داخله؟
قلت: حينها ستتأكدون أنه مضروب، وترتبون أموركم على هذا الأساس.
قالوا: وأنت.. ما الذي سيحل بك؟
قلت: لا شيء. أنا اليوم خارج من الاعتقال كالطفل الذي ولدته أمه. ليس لي ذنوب وليس لدي معلومات أو أسرار أو مواعيد ليسألني عنها المحققون.
حاول الأصدقاء جاهدين ثنيي عما أفكر فيه، ولكني أبلغتهم أن لا سبيل إلى التراجع، فأنا ذاهب إلى البيت ليس من باب التضحية أو الشجاعة، بل لأن ثيابي وأوراقي وبعض المتعلقات الشخصية ووثائقي العسكرية كلها داخل البيت. إهمال وثائقي العسكرية قد يكلفني أكثر مما يمكن أن يكلفني اعتقالي في حال كانت المخابرات في انتظاري.
اتفقنا أن أذهب إلى البيت في الصباح، على أن ترافقني فادية إلى مقربة منه، وتنتظرني ثلاثين دقيقة، فإن لم أعد، فعليها أن تبلغ عن اعتقالي.
في الطريق كنت أمزح مع فادية وأضحك، لعلها تكسر القلق البادي في حركة بؤبؤي عينيها.
– إذا كانوا في الشقة واعتقلوني فاطمئني. سأخرج سريعاً لأنهم سيعرفون أنني لست المطلوب.
براءة وجه فادية تحمّلني هماً إضافياً.
ليت أحداً غيرها رافقني في هذه المهمة.
كانت فادية تذكِّرني بمشوار قديم لنا في نفس المنطقة:
– هل تتذكر فرج ماذا قلت لي هنا؟
لم أتذكّر، فراحت فادية تحدثني عن فكرة مقطع شعري لي تحدثت فيه عن غيمة أربطها بخيط وأنهرها لتبتعد، ولكني سرعان ما أشدّ الخيط وأسترجعها.
فادية، رغم القلق، تضحك بكامل طفولة ملامحها.
قبل أن نصل إلى سينما النجوم بقليل قلت لها: سأودّعك الآن بدون حتى مصافحة، وسأحاول العودة بعد نصف ساعة كحد أقصى، فإن لم تجديني هنا…
قالت: أعرف، أعرف، ولكني آمل أن تعود.
لم يكن في منطقة البيت أي مظاهر غير معتادة. ذلك يعني أن البيت ليس مضروباً أو أن المخابرات أتقنت تمويه وجودها. بالطبع كانت يدي ترتجف وأنا أفتح الباب الحديد الخارجي. بدا الممر كما لو أنه مهجور. مشيت خطوات وأنا أراقب باب الشقة على اليمين، وكذلك الدرج المودي إلى السطح.
كان كل شيء طبيعياً، ولكن هواجسي ودقات النبض التي ترتجّ في كامل جسدي كانت تقول غير ذلك.
وضعت المفتاح في قفل باب الشقة، وقبل أن أديره انفتح الباب بقوة، ووجدت في وجهي باردوة كلاشينكوف، لكن سرعان ما ارتطم الباب بالحائط وعاد لينغلق. انبطحت على الأرض خشية أن يطلقوا الرصاص من وراء باب الشقة الخشبي، ولكن عاجلني بضعة أفراد نزلوا من درج السطح، وفُتح الباب، ليقول لي أحدهم: جيت والله جابك.