كيف يمكن للكتابة، عن الراحلين، ألا تتحوَّل إلى جزء من الاحتفاء الفرجوي الذي يمعن في تسليعهم؟ وكيف يمكن للتعريف بهم ألا يتحوَّل إلى محفِّز آخر لخفَّة الاقتباس الذي صار، في فلسطين، رياضة وطنية؟ وكيف يمكن لمن لا يساجل، ولا يجامل، أن يقرأ فريداً كحسين البرغوثي دون أن يقترف أيًّا من هاتين الخطيئتين؟ ما من إجابة واضحة على أي من هذه الأسئلة، وربما لا يكون الصمت أفضل. لكن “الكتابة الموازية”-سطرٌ بسطر، قد تشكِّل مدخلاً يجعل المرآة أكثر تواضعاً في “عكس الصورة” دون اجتهاد أدائي زائد في فعل الظلال، أو افتعال قزح. ولعلَّه من المبكِّر تأمُّل نرجس البرغوثي بعد تحويل رائعة “الصوت الآخر: مقدِّمة إلى ظواهرية التحوُّل” إلى العربية، لكنَّ الاقتراب منها يعلِّمنا أن كتابته كانت: ترحاليَّة، سُلاليَّة، تخريبيَّة، لاهثة… لأنَّها كتابة فلسطينيَّة: واضحة البداية، مشتَّتة الرِّحلة، مبتورة النِّهاية. وبعيداً عن حراسة البوابة أو دخول السيرك، هذه شذرة، من أرشيفه المجهول، تقول الكثير (في ١٦٢ كلمة) عن البطولة والتاريخ والحياة والموت في فلسطين والعالم، وتُلاشي الفروق بين: تأبط شرًّا والغولة، وغاليليو وبريخت، وسعيد ودرويش.
“وجميل في التاريخ.. أهل بيتي، وكل ما هو فاشي ومتقوقع ولا إنساني لا هو مني ولا أنا منه. وفلسطين الطيبة الحرة وطني الذي ليس لي سواه؛ وباسم هذا الأفق قلت وسأقول للظلم ظلماً في عينه، وباسمه اخترت الانحياز للضحايا بدون أن أحول “الضحية” إلى نموذج أسمى. وبمقدار ما نحن ضحايا أنحاز لنا، وبمقدار ما نحول كوننا ضحايا وأبطالاً إلى مثال أسمى أنحاز ضدنا، فمسكين الوطن الذي يفتقر لأبطال، ومسكين الوطن الذي يحتاج لأبطال. أحب الناس لأنهم كائنات حيَّة أولاً، وأحب النباتات والحيوانات لأنها كائنات حيَّة، وباسم الحياة وحق الحياة صارعت الموت، مثل تأبط شراً الذي صارع غولة طوال الليل ثم وضعها تحت إبطه صباحاً وعاد لأهله! النكبة ليست “تاريخاً”، ليست ١٩٤٨، إنها سؤال التاريخ كله لأي مثقف: أي تاريخ تختار لهذه الأرض الجميلة، لهذا الكوكب: تاريخ المجرمين أم تاريخاً آخر، تاريخ خائفين ومخيفين أم تاريخاً آخر لا خوف فيه؟ واخترتُ حياتي أن تكون سطراً صغيراً في مقدمة لهذا التاريخ الآخر! ومن أجل هذا السطر قاتلت، واخترتُ أن تكون أحرف الأبجدية “حمولتي” وعالمي”.