نور عبّاس* وبشار بكّار**
أوّلاً: الاحتلال الاستيطانيّ كإشكاليّة معماريّة
إنّ الإنسان كائن معماريّ بامتياز، فهو خالق نموذجيّ للفضاءات المعماريّة المتنوّعة، وهو إذ يخلق هذه الفضاءات فإنّه يراعي الطّبيعة الوظيفيّة الملبّية لها مستقبلاً، والسّياقات التّاريخيّة السّياسيّة التي ستتموضع، رمزيّاً، فيها، ورؤية العالم للجماعات التي ستتفاعل ضمنها.
فالفضاءات المعماريّة ليست فضاءات صامتة، ساكنة، بل هي فضاءات مشبعة بالدّلالات البراغماتيّة، والتّاريخيّة، والسّياسيّة، والرؤيويّة، التي يؤدي استنباطها إلى وعي أعمق بذاكرة الجماعات الخالقة هذه الفضاءات، والمتفاعلة ضمنها.
ولعلّ أبرز سياق إشكاليّ يمكن أن توضع فيه العمارة هو سياق الاحتلال الاستيطانيّ، فالمحتلّ يستولي على أرض الآخر بالقوة، وتكون هذه الأرض حاملة لهويّة معماريّة خاصّة، فيحاول، غالباً، تغييب هذه الهويّة وطمسها، ليخلق عوضاً عنها هويّة معماريّة مضادة، يؤكد، من خلالها، أحقيته الأزليّة في هذه الأرض.
وهذا ما حدث، تحديداً، في فلسطين، فالمحتلّ الإسرائيليّ استولى عنوة على أراضٍ فلسطينيّة، فطمس كلّ ما فيها من ملامح معماريّة مرتبطة بالهوية الفلسطينيّة، ليخلق، بعد ذلك، نمطاً معمارياً جديداً، ومضاداً للنّمط المعماريّ الفلسطينيّ، فغدا لدينا نمطان معماريان متصادمان في سياق مكانيّ واحد: نمط عمارة المحتلّ الطّامس الهويّة المعماريّة الأساسية للمكان، ونمط العمارة الفلسطينيّة المتعرّضة، دائماً، لمحاولات التّهميش، والطّمس، والإلغاء.
ثانياً: التّسقيف الجملونيّ؛ أداة تمييزيّة عدائيّة
مما يلفت الانتباه في عمارة الوحدات السّكنيّة الاستيطانيّة هو التّسقيف الجملونيّ المدعّم بالقرميد الأحمر، فالسّقف الجملوني هو سقف شديد الانحدار، له شكل هرميّ، يُكسى، عادةً، بالقرميد الأحمر، وهو من أفضل خيارات التّسقيف في المناطق ذات الثّلوج الكثيفة والأمطار الغزيرة.
ومن المُتعارف عليه أنّ مناخ فلسطين المعتدل لا يحتاج هذا النّمط التّسقيفيّ الذي اعتمده الاحتلال، فالمحتلّ استقدم نمطاً تسقيفياً غريباً عن الهويّة المعماريّة الفلسطينيّة، وغير منسجم مع البيئة المناخيّة للمكان.
ونحن نرى أنّ اعتماد الاحتلال التّسقيف الجملونيّ المدعّم بالقرميد الأحمر له غايات عسكريّة، “إذ أنّ هذا النّمط التّسقيفيّ يضمن البروز الفاقع لمكان المحتلّ الإسرائيليّ، مما يمكّنه من التّعرّف على نفسه في المشهد العام، وفرز العدو من الصّديق، مانعاً حدوث أيّة أخطاء عسكرية أثناء قيامه بعمليات جويّة أو بريّة تستهدف مكان الوجود الفلسطينيّ”(١).
فالهدف المعادي للمحتلّ الإسرائيليّ ليس خارجياً، بل هو ضمن نطاقه المكانيّ، لذلك كان لا بدّ من إيجاد آلية تمييزيّة بين المكان المُستهدَف؛ أي مكان الوجود الفلسطينيّ والمكان غير المُستهدَف؛ ألا وهو مكان الاحتلال الإسرائيليّ، وكانت هذه الآلية هي اعتماد التّسقيف الجملونيّ ذي القرميد الأحمر في مناطق الاستيطان الإسرائيليّة.
ولا يتوقف التّسقيف الجملونيّ عند هذه الغاية العسكريّة فحسب، بل يتعداها، أيضاً، إلى أبعاد رمزيّة وتأثيريّة أخرى، وتجدر الإشارة، قبل أن نناقش هذه الأبعاد، إلى أنّ التّسقيف الجملونيّ كمعطى ماديّ خام لا يحمل أيّة دلالة، بل إنّ هذه الدّلالة سيتمّ استبناؤها نتيجة خبرتنا بماهية الذّات المُستخدمة له، والحيثيّات التاريخيّة والسّياسيّة التي يجري في سياقها توظيف هذه الجزئيّة من النّسق المعماريّ.
ثالثاً: التّسقيف الجملونيّ؛ محاولة نفي الوجود الفلسطينيّ معماريّاً
إنّ سياسة المحتلّ الإسرائيليّ قائمة على نفي الوجود الفلسطينيّ نفياً زمنياً مطلقاً؛ أي في الحاضر والماضي والمستقبل، “فالشّعب الفلسطينيّ، بالنّسبة له، ليس شعباً غير مستحق الوجود في هذه الأرض فحسب، بل هو، أيضاً، شعب لم يكن موجوداً أصلاً “(٢).
وقد عمل المحتلّ الإسرائيليّ على تدعيّم طروحاته الوجوديّة المزيّفة بالنّسبة للشّعب الفلسطينيّ من خلال آليّات تعامله مع البنية المعماريّة الفلسطينيّة.
إذ يسيطر الإسرائيليّ على المكان الفلسطينيّ، ويطرد سكانه الأصليين منه، لكنّه لا يبني، بعد ذلك، فضاءات معماريّة متوافقة مع هويّة المكان الأصليّة، بل يلغي هذه الهوية إلغاء كليّاً، خالقاً فضاءات جديدة، متضادة مع الفضاءات الأم، النابعة من طبيعة البيئة الجغرافيّة الفلسطينيّة، والمنسجمة معها.
فقد كان من الممكن لهذا المحتلّ أن يبني وحدات استيطانيّة نابعة من الهويّة المعماريّة الأم، إلّا أنّه بنى وحدات استيطانيّة ذات أسقف جملونيّة، غريبة عن الهويّة المعمارية الأصلية، وغير منسجمة مع البيئة المناخيّة والجغرافيّة للمكان، وهو بذلك لم يلغِ الوجود البشري الفلسطيني من السياق المكانيّ فحسب، بل ألغى، أيضاً، وجوده المعماريّ، محدثاً نفياً مضاعفاً ومركّباً للذّات الفلسطينيّة.
فالفلسطينيّ منفيّ مرّتان؛ المرّة الأولى: عندما أُخرج من أرضه عنوة، لتحلّ مكانه مجموعة بشريّة أخرى، غير منتمية لهذه الأرض، والمرّة الثّانية: عندما أُلغيت هويّته المعماريّة الجّماليّة الخاصّة، وفرضت على المكان هوية جديدة غريبة عنه، وبذلك كان النفي الثّاني؛ أي النّفي المعماريّ تعميقاً للنّفي الأوّل وتأكيّداً له.
رابعاً: التّسقيف الجّملوني، نحو الشّعور بهويّة جامعة
“إنّ العمارة من أبرز العناصر المُسهمة في تكوين الجماعات وإدماج أفرادها بعضهم ببعض”(٣)، فالجماعات تحتاج، غالباً، نسقا معمارياً يؤكد وجودها، واتّساقها، وترابطها، وتفرّدها، ومن دون هذا النّسق المعماريّ الموحّد ستشعر بالتّفكك الدّاخلي وانعدام الهويّة الجامعة.
وقد كان المحتلّ الإسرائيليّ واعياً دور العمارة في تكوين هويّته الجماعيّة، فلم يتماه مع النّسق المعماريّ الفلسطينيّ القائم، بل تجاوزه، كليّاً، ليشكّل نسقاً معماريّاً خاصّاً به، ومتمايزاً من النّسق المعماريّ الفلسطينيّ، وقادراً على إشعار جماعته بتوحّدهم وتفرّدهم عن محيطهم.
فالذّات الإسرائيليّة المُلاحظة، بصريّاً، وحداتها السّكنيّة ذات الأسقف الجملونيّة، والمختلفة عن المسكن الفلسطينيّ اختلافاً جوهريّاً ستدرك تميّزها المعماريّ، وتسعى، من خلاله، أنّها تشكّل جماعة متماسكة، ذات بنية معمارية خاصّة، ومتمايزة من البنية المعماريّة الفلسطينيّة، التي تسعى جاهدة إلى إلغاء وجودها، تمهيداً لإحداث نفي كليّ للذّات الفلسطينيّة.
خامساً: التّسقيف الجملونيّ والذّاكرة المتّقدة
إنّ العمارة فنّ بصريّ بامتياز، فالعين هي المتلقي الجوهريّ والأوّل للكتل المعماريّة المحيطة بها، وتدرك العين، في أثناء هذا التّلقي، خصوصيّة الكتل المتموضعة، وتحدد أبعادها، وسماتها الجماليّة المميزة لها من بقية الكتل المعماريّة المغايرة، فالتلقي البصريّ للعمارة ليس تلقياً سلبيّاً، بل هو تلقٍ معرفيّ فاعل.
وقد اتّبع الاحتلال الإسرائيلي آليّة منح الكتل الاستيطانيّة مميزات لونيّة بصريّة فاقعة، وذلك من خلال النّمط التّسقيفيّ الجملونيّ، القادر على إبراز الكتل المبنيّة للعين.
ولهذا الإدراك البصريّ الفاقع تأثيراته على الذّات الفلسطينية والذّات المحتلّة:
فالمتلقي الفلسطينيّ للكتل الاستيطانيّة الإسرائيليّة ذات التّسقيف الجملونيّ ستبقى ذاكرته البصريّة نشطة، وستحيله بشكل دائم إلى الآخر المستوطن أرضه، كما ستتابع عينه بسهولة حركة التّوسع الاستيطانيّ المبتلعة أراضٍ فلسطينيّة جديدة.
أما عين المتلقي الإسرائيليّ فستعيش في حالة تأهّب، نتيجة تفاعلاها المستمر مع نسقها المعماريّ الفاقع، وهذه العين المتأهبة ستبقى، أيضاً، في حالة فصل مستمرة بين مكانها الاستيطاني الفاقع المدعّم بالأسقف الجملونية، وبين مكان الآخر الفلسطينيّ المنزاح عن هذا النّسق المعماريّ الدّخيل.
فالنّمط التّسقيفيّ الجملونيّ أداة تكرّس، بشكل مستمر، التّمايز المعماريّ الوجوديّ بين الكيان المحتلّ والشعب الفلسطيني، وهذا من شأنه خلق ذاكرة بصريّة نشطة، ومتقدة، ومحيلة إلى سياقات الاحتلال اللإنسانيّة.
* ماجستير في النقد الأدبي الحديث، جامعة حلب
** إجازة في الهندسة المعمارية، جامعة حلب
١-
ينظر، وايزمان، إيال: أرض جوفاء (الهندسة المعماريّة للاحتلال الإسرائيليّ)، تر: باسل وطفة، الشّبكة العربية للأبحاث والنّشر، بيروت، مدارات للأبحاث والنّشر، القاهرة، ط1، د. ت، ص: 197.
٢-
Deleuze, Gilles: Grandeur de yasser arafat, ln Deux regimes de fous. Editions de minuit 2003 p. 221- 222.
Deleuze, Gilles: Grandeur de yasser arafat, ln Deux regimes de fous. Editions de minuit 2003 p. 221- 222.