بالتزامن مع الذكرى الثالثة والسبعين لنكبة فلسطين، والهبّة الشعبية في القدس والأراضي المحتلة، والعدوان الإسرائيلي الأخير على قطاع غزة، قدّم المفكر العربي الدكتور عزمي بشارة، المدير العام للمركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، بتنظيم من المركز، وبالتعاون مع مؤسسة الدراسات الفلسطينية، مساء السبت 22 أيار/ مايو 2021، محاضرةً بعنوان “في راهنية النكبة، وفي قضية فلسطين عربيًا”.
قدّم للمحاضرة الدكتور طارق متري، رئيس مجلس الأمناء في مؤسسة الدراسات الفلسطينية، الذي استهل تقديمه بالتأكيد على أن نكبة فلسطين لا تزال شأنًا راهنًا، في الأقل، كما يحس به ويعبّر عنه أحفاد من عاشوا أهوال النكبة في عام 1948، وما يقود إليه هذا من ضرورة استعادة قصة النكبة وروايتها بلغة جديدة، وكل ذلك يجعل تقديم هذه المحاضرة في هذا الوقت بمنزلة الضرورة. وأضاف متري أن إدراك هذا الأمر لا يفضي بنا فحسب إلى إنتاج فعل سياسي مواز وملائم لفكرة استمرارية منطق النكبة، بعيدًا من أوهام “التقدم السياسي”، بل يمكن أيضًا أن يعود بنا إلى التنظير الأول والمبكر للنكبة، بأنها “نكبة عربية”. ولعل ما شاهدناه من ردات فعل عربية على العدوان الإسرائيلي الأخير على قطاع غزة يدحض فكرة مغادرة القضية الفلسطينية إطارها القومي.
استهل بشارة محاضرته بالتأكيد على أن النكبة لم تكن فعل احتلال نمطيًا، بل إن جوهرها هو أنها “استعمار استيطاني”. ولا يزال هذا الجوهر قائمًا. وقد تجسّد، أخيرًا، في محاولة إخراج عائلات من منازلها وإحلال مستوطنين مكانها. ولذلك، لا يمكن فهم خلفيات الهبّة الشعبية الحالية بعيدًا من سياسة الاستيطان والتوسّع فيه، يُضاف إليها الانتهاكات المستمرة للمسجد الأقصى، الذي يرغب الاحتلال في جعل انتهاكات المستوطنين له أمرًا معتادًا.
ورأى بشارة أن الانتفاضة الحالية في القدس، والضفة الغربية، والداخل الفلسطيني المحتل، وقطاع غزة، تتشابه كثيرًا مع الثورات العربية في عام 2011، في بداياتها. وإذا كان مشهد الثورات العربية قد تشكّل في أسابيع، فإنه – في الحالة الفلسطينية – تشكّل في أيام معدودات. وتتقاسم الهبّة الفلسطينية الحالية مع الثورات العربية في أن كلتيهما تستند إلى خلفيات قائمة على الإحباط، ويحضر في كل منهما، وعلى نحو أساسي، عامل الكرامة، الذي يفسّر ابتهاجَ الشباب العربي، وبخاصة من الجيلين الرابع والخامس بعد النكبة، بردّ المقاومة على إسرائيل.
ولا ينبغي، بحسب بشارة، تجاوز التشابه في حضور التيار الإسلامي المنظّم في الحالتين لاحقًا على تفجر انتفاضة شعبية شبابية ليس لها طابع حزبي أو فصائلي، مع ملاحظة أن المقاومة في غزة أرادت أن تثبت أن القدس هي قضية ذات أولوية لها كذلك، وأنها ليست بعيدة منها.
وقد شكّل دخول المقاومة في هذا المجال تغلبًا على الشرخ بين الضفة والقطاع. ولعل هذا من أهم ما قامت به الهبّة الحالية.
وعسكريًا، يرى بشارة أن الجميع تفاجأ بالتكنولوجيا التي طوّرتها المقاومة، مع أنها محاصرة بشكل كامل منذ عام 2006، عدا السنتين اللتين تنفّس فيهما القطاع المحاصر بُعيد الثورة في مصر (2011-2013). وأشار إلى أن المقاومة استطاعت تغيير معادلة الردع، وإن كانت إسرائيل قد شنّت هذه الحرب نوعًا من الردع لهذا الردع، وسوف تتبين نتائج هذا التغير قريبًا، ولا سيما أن الاستفزازات عادت إلى الأقصى لدحض وجود إنجاز للمقاومة على مستوى الردع في القدس.
وقدّم بشارة لجداله بـ “راهنية النكبة” بأن أسبابها ودوافعها وتمثلاتها لا تزال قائمة وفاعلة؛ فإسرائيل قامت على قرار التقسيم عام 1947، وأحكمت توحيد سلطتها على الأراضي الفلسطينية عام 1967، لتقوم بعد ذلك بتهجير الفلسطينيين إلى الضفة وغزة. وقد تحوّل قطاع غزة، بسبب ذلك، إلى معسكر لاجئين كبير، مساحته 365 كيلومترًا مربعًا، وفيه قرابة مليوني فلسطيني لاجئ. ومن ثمّ، لا يمكن معاملة غزة بوصفها منطقة محررة، بل هي – في الحقيقة – معسكر لاجئين كبير.
وانتقل بشارة إلى تفسير حضور الدور المصري في الانتفاضة الأخيرة، ولا سيما العدوان على غزة، الذي استمر 11 يومًا (10 أيار/ مايو – 21 أيار/ مايو)، وذلك من خلال السعي إلى نيل رضا إدارة جو بايدن الجديدة؛ إذ لم يظهر الرئيس الأميركي حماسة في التواصل مع عبد الفتاح السيسي إلا بعد العدوان على غزة. ورأى بشارة أنه لو لم يكن الحزب الديمقراطي في الحكم لما حدث هذا السعي المصري. وأشار إلى تباين الدور المصري بشكل كبير بين عدواني 2012 و2014 على غزة، وهو ما يمكن تلمّس الفارق فيه بين سلطة رئيس مدني منتخب بشكل ديمقراطي عمل على التسهيل بشكل واضح وملموس على القطاع، وبين النظام الحالي الذي كان ضاغطًا على القطاع بشكل كبير، إلا أنه إبان الانتفاضة الحالية بات واضحًا أن المؤسسات المصرية أصبحت تستعيد دورها الخارجي. كما أنه بات واضحًا أنه ثمة رغبة أميركية في أن تؤدي مصر دورًا أكبر في التواصل مع حماس.
أما عن القدس، فجادل بشارة بأن المدينة كانت لها رمزية كبيرة في الأحداث الأخيرة، وقد خضعت بشكل خاص لسياسة الضم والاحتلال وأُسقطت الرواية التوراتية عليها في الحاضر، وتم توسيع المدينة لتشمل القداسةُ بعد ذلك كلَّ ما يُوضَع في إطار المدينة المقدسة. وبسبب ذلك، حددت إسرائيل عدد العرب في القدس، لتحاصر البلدة القديمة بالمستوطنات. وإذا نجح السيناريو الحالي في حي الشيخ جراح، فسيكون هدم “وادي الجوز” والاستيلاء على المنازل في سلوان هو النموذج التالي. ولمّح بشارة إلى أنه رغم محاصرة إسرائيل العرب بالأحياء الفقيرة التي تمتلئ بالمظاهر السلبية، خرج الشباب من تلك الأحياء لنصرة القدس، ومقاومة الاحتلال، وقد أدى المسجد الأقصى دورًا محوريًا كبؤرة التفّ حولها الشباب.
أما عن البعد العربي، فأوضح أن فلسطين لا تكون قضيةَ العرب الأولى إلا من حيث هم عرب؛ أي بوصفهم “أمة”، وأن للشعوب العربية، في سورية ومصر والعراق وسواها من البلدان، قضاياها ذات الأولوية بالنسبة إليها في بلدانها. ثم عرّج بشارة على محاولات إخراج القضية الفلسطينية من إطارها القومي، بدءًا بـ “معاهدة السلام المصرية الإسرائيلية” عام 1979، التي أخرجت مصر من معادلة الصراع العربي – الإسرائيلي، وعدّت جوهر الصراع بين مصر وإسرائيل يبدأ من احتلال سيناء عام 1967، وليس النكبة عام 1948، ثم تبعها الأردن. وفي كل ذلك، لاحظ بشارة أن أي دولة عربية خاضت مفاوضاتها المباشرة أو غير المباشرة مع إسرائيل لم تطرح قضية اللاجئين.
واستدرك بأن توجه هذه الحكومات العربية لم يكن موقف شعوبها، مبرهنًا على ذلك ببرنامج “المؤشر العربي”، وهو أوسع برنامج استطلاع للرأي العام العربي، ينفّذه المركز العربي منذ عشر سنوات، والذي بيّن أن التطبيع لدى المواطنين العرب لا يزال غير مقبول شعبيًا ومستهجنًا، وإن قُبل فهو شأن حكومات وليس شأن الشعوب. وأضاف بشارة أن الانتفاضة الأخيرة أكدت، بما لا يدع مجالًا للشك، أن السردية القائلة إن “القضية الفلسطينية نُسفت عند العرب” مضلّلة، وأن الانتفاضة الحالية هي امتداد لموجتي الثورات العربية.
واستعرض بشارة في الجزء الثاني من محاضرته تاريخ النكبة الفلسطينية عبر تفنيد الأساطير الإسرائيلية حولها، كأسطورة خروج العرب من بلداتهم ومدنهم بعد بدء الحرب عام 1948 بطلب من الجيوش العربية، في حين أن تهجير العرب من مدنهم وبلداتهم كان منهجيًا، وبدأ قبل بدء الحرب وقبل إعلان “استقلال إسرائيل”، وكذلك أسطورة أن مقاتلي القوات الصهيونية كانوا أقلية عددية بإزاء أعداد مقاتلي الجيوش العربية، وما إلى ذلك.
وفي ختام المحاضرة، أعاد بشارة تلخيص أطروحته الأساسية في المحاضرة، في أن القضية الفلسطينية بدأت بالنكبة عام 1948، ولا يزال منطق النكبة وأفعالها قائمين وراهنين، وأن اعتبار أن القضية الفلسطينية بدأت مع نكسة عام 1967 لن يكون في مصلحة القضية الفلسطينية. وشدّد على ضرورة إحياء منظمة التحرير الفلسطينية مجددًا لتكون بمشاركة سلطتي غزة ورام الله والشتات الفلسطيني والمبادرات المستقلة المختلفة، بشكل تسمح به هاتان السلطتان لأن تكون منظمة التحرير مرجعية سياسية لهما يُتخذ فيها القرار على نحو مشترك.
وشهدت المحاضرة، التي استمرت ساعتين، عدة مداخلات بعدها من عدد من الحاضرين عبر برنامج “زوم”، الذي اتسم، لا بكثافته فقط، بل بحضور عدد بارز من الخبراء والمتخصصين، الذين قدّموا نقاشات ثرية تناولت عدة مسائل، لعلّ أبرزها التطبيع وتأثيره في القضية الفلسطينية، وخيارات المشروع الوطني الفلسطيني ما بعد الحرب الأخيرة.