يأخذنا كتاب “الفلسطينيون في سورية: ذكريات نكبة مجتمعات ممزقة” للباحثة أناهيد الحردان، (مؤسسة الدراسات الفلسطينية، ٢٠٢٠، ترجمة: محمد الأسعد) في رحلة تجمع البحثي المفاهيمي، بالحدث التاريخي، والحكايات والشهادات المروية عبر الذاكرة، وكذلك بالسيري الذاتي الخاص بالمؤلفة في رحلة تحقيقها للبحث، خلال الأشهر الستة التي أمضتها في سورية، حيث أجرت 63 مقابلة مع ثلاثة أجيال من اللاجئين الفلسطينيين ومنظمات المجتمع المدني، وعاملين في وكالة الأمم المتحدة والأونروا في سورية: “ولكوني عشت في مخيم اليرموك، أدرجت أجزاء معادة كتابتها من دفتر اليوميات المسهبة التي احتفظت به في سورية لوضع المقابلات التي أجريتها”. تمضي المؤلفة بالقضية موضع النقاش إلى ما هو أبعد من معاني دلالات أحداث الماضي الوطنية أو القومية المتغيرة، تلك الدلالات السائدة والمشروطة تاريخياً على حسب تعبيرها، وأسلوبها هو فحص الطرق التي تدل فيها تواريخ وذكريات مشتركة على بناء الذاكرة.
إن الذاكرة الفلسطينية هي على نطاق واسع تخيلات النشطاء للذاكرة. وبالتالي، فإن الفلسطيني والذاكرة المضادة في هذه التخيلات، عنصران أساسيان من عناصر فكرة أن الذكريات ضامنة لعودة المستقبل.
من الكتاب
ويحلل البحث مفاهيم النكبة وحق العودة في الذاكرة الفلسطينية، فتبحث المؤلفة في كيفية تشكل رواية “النكبة” ومن بعد في كيفية استخدامها بصورة منهجية، ويستكشف البحث الماضي الفلسطيني والحاضر الفلسطيني في سورية عبر الروايات والقصص التي جمعتها الباحثة من أوساط مجتمع اللاجئين الفلسطينيين في سورية. هذه الروايات والقصص هي التي كانت تروى في أوقات يتشارك فيها النشطاء في الرؤى والأهداف والتطلعات التي تحفز إحياءهم ذكرى النكبة وفعاليات إقامة النصب التذكارية، وأفراد المجتمع وهم يروون كيف يتذكرون النكبة أو يفهمونها. ولهذا السبب تعتبر الرواية وسيلة استكشاف للكيفية التي يستخدم فيها نشطاء حق العودة فكرة الذاكرة لتعزيز أهداف سياسية بواسطة ما أشير إليه أنه “خطابات ذاكرة”.
تكتب الباحثة في هذا الإطار: “في هذا الكتاب يتعزز استكشاف الحضور المتزامن لذكريات النكبة وتواريخها. فهذا الحضور المتزامن متأصل في دلالات النكبة المتنافسة. وهي دلالات يتم بيانها عبر قراءة التحول الذي ألمّ بالنكبة في الفكر القومي العربي، وتحليل خطابات الذاكرة لدى نشطاء حق العودة، ودراسة ذكريات وروايات خاصة بأفراد المجتمع. ويأخذ مختلف طبقات التحليل هذه معاً، نجدها تُظهر حضور النكبة في الحاضر كما يتجسد في المعالم الرمزية لمختلف جماعات المجتمع في سورية، وفي استحضار ذكريات النكبة بأشكال مرجعية وغير مرجعية (خطابات ذاكرة وروايات موضوعها الذاكرة). ولهذا السبب نجد أن الذاكرة والتاريخ يتعايشان في المعاني العديدة التي لا تحصى، وفي الاستحضارات وفي الإمكانات التي يتضمنها مفهوم النكبة اليوم”.
لقد كان للحرب السورية الآن تأثير مدمر في حياة كل الأفراد الذين شاركوا في البحث الذي يشكل أساس هذا الكتاب وآمنوا به. بعضهم قتل، اختطف أو اختفى، وآخرون شهدوا أطفالهم يقتلون رمياً بالرصاص أمام أعينهم، وفقدوا بيوتهم جراء القصف والحرب.
من الكتاب.
في مقدمة الكتاب بعنوان “نكبة 1948 ونكبات اليوم”، تروي المؤلفة الأحداث التي عايشها مخيم اليرموك منذ العام 2012، عن طريق تحليل مجموعة من الشهادات الشخصية، التي حملت أقوالاً من مثل: “ما حصل ذلك اليوم كان حدثاً أسطورياً أعاد الأمل إلى ملايين اللاجئين وأعاد البهجة إلى المخيمات”، أو: “بحبه كتير للمخيم، بحب تفاصيله، إذا قدرت اشتغل كل سنة بس مسرحية وحدة وأعرضها بس بالمخيم، ما عندي مشكلة”، إلى تحليل مجموعة من الفيديوهات التي تروي أحداثاً أهلية، سياسية، وعنفية خاصة بتلك الأحداث، لتصل بنا المؤلفة إلى الخلاصة التالية عن العلاقة بين النكبة والحدث السوري: “إذاً، في مسار الأعوام الخمسة، وعلى خلفية الخراب الذي تسببت به الحرب السورية، كانت النكبة تتغير. فالنكبة التي حاقت بالفلسطينيين سنة 1948، والتي شهدها أبو سميح وأدلى بشهادته في ذكراها السنوية الستين، أصبحت نكبة أخرى سيجسدها أبو سميح بمغادرته مخيم اليرموك في نهاية 2012”.
تخصص الباحثة الفصل الأول لدراسة “النكبة في الفكر العربي” في كتابات قسطنطين زريق، موسى العلمي، محمد أمين الحسيني، محمد نمر الخطيب، عارف العارف، عبد الله التل، جمال عبد الناصر، وكذلك الكتابات التي تلت حرب العام 1967، ومنها كتابات صادق جلال العظم، ومن ثم تتوقف الباحثة عند الاهتمام الأكاديمي باللغتين العربية والإنكليزية. وبعد دراسة الكتابات النظرية والأبحاث الأكاديمية تطرح الباحثة تساؤلاً أساسياً في دراسة هذه الموضوعة تاريخياً: “لماذا استغرق الأمر كل هذا الزمن الطويل للإصغاء إلى ذكريات وشهادات النكبة؟ ولماذا وكيف يمكن أن يتواصل هذا الإصغاء من دون متضمنات خلقية ومعنوية منصوص عليها في القانون الدولي الإنساني ؟”.
يحمل الفصل الثاني عنوان “مجتمع اللاجئين الفلسطينيين في سورية”، يدرس هذا الفصل تشكل، وتوزع، وديموغرافية المخيمات الفلسطينية في سورية، ويستعرض القوانين والأنظمة الإدارية التي يخضع لها، والقوى والسلطات السياسية وقوى المجتمع المدني الفاعلة في المخيمات ودورها عبر مراحل متعددة من التاريخ العربي والفلسطيني.
“ثقافة العودة بمعنى، إنو حق العودة هذا حق شخصي، وحق جمعي، هذا حقك ما بيسقط بالزمن، لا يسقط بالتقادم، ولا يجوز الإنابة فيه، لا يستطيع محمود عباس أن يتنازل عن حق أبوك، سوء ببيت أو دونم أرض في فلسطين، لأنو هاد حق شخصي”.
من الشهادات الواردة في الكتاب.
أما الفصل الثالث بعنوان “حركة حق العودة وذكريات من أجل العودة” فيتطرق إلى مفهوم حق العودة، والتعاريف التي أحاطت به عبر التاريخ: “لقد تم تعريف حركة حق العودة بصفتها حركة احتجاج، مقوماتها مبادرات متعددة مجتمعية المركز، تسعى للتنظيم والتعبئة سياسياً، دفاعاً عن حقوق اللاجئين الفلسطينيين في الأماكن الأخرى. ومن الواضح أن الناشطين كانوا يخاطبون، عن طريق ثقافة العودة ومقوماتها المتعددة، عدو الذاكرة، النسيان. وهذا النسيان ذو صلة بإمكان أن يهمل اللاجئون الأصغر سناً، بالمعنى السياسي، حقوقهم السياسية نتيجة مجموعة عوامل ظاهرة، منها مرور الزمن، وتهديد التخلي عن حق العودة في المفاوضات، والافتقار إلى مؤسسات فلسطينية، يمكنها تعزيز وتوظيف قوة هوية اللاجئين الشبان الوطنية واستمرارية المطالب والحقوق السياسية. ومن هنا، ولمواجهة تهديد النسيان، أسس الناشطون ثقافة عودتهم على ضرورة التذكر وحتميته. وبذلك منحوا الذاكرة ذاتها مكانة مركزية. وهذه الضرورة الحتمية، في الرؤية السياسية الأوسع لثقافة العودة، هي التي أفضت إلى فكرة “الذاكرة كضامن للعودة”. وهذه من حيث الجوهر مصفوفة ذاكرة/عودة في قلب خطابات الذاكرة التي ابتكرتها الحركة ووظفت قوتها في مجتمعات اللاجئين الفلسطينيين في سورية”
تعتبر الباحثة أن تسجيل الناشطين للتواريخ الشفهية هو إحدى طرق استنفار الذكريات كمورد من أجل العودة. فالتذكر وقدرة الحديث عن الذكريات أمران راسخان في مرجعيات ذات علاقة بالزمن، وعلاقات الجماعات الاجتماعية بالزمن علاقات مبنية اجتماعياً، ولا معنى لها إلا بقدر ما تخدم غرضاً معيناً من أغراض الجماعة. وذلك انطلاقاً مما كتبه آلبفاكس فيما يتعلق بالذاكرة والزمن: “الزمن لا يكون واقعياً إلا بقدر ما يمتلك من مضمون، أي بقدر ما يوفر من أحداث كمادة للتفكير، حقيقية بما يكفي لتوفر إطاراً لوعي الفرد يمكنه فيه وبه استرجاع ذكرياته وتنظيمها”.
في الفصل الرابع “رواية حكايات فلسطين وتناقل فقدانها” تنطلق الباحثة من نظرية عالم الاجتماع كارل مانهايم عن الأجيال لدراسة دور كل منها في رواية النكبة. فقد رأى كارل مانهايم بأن أي جيل من الأجيال هو موقع انتماء اجتماعي أو نوع معين من هوية موقع يحتضن جماعات متقاربة عمرياً، منغرسة في سيرورة اجتماعية-تاريخية. وجادل مانهايم، بالبناء على هذا التعريف، في أن إحدى السمات المميزة لجيل من الأجيال هي مساهمة أفراده في مجال سيرورة اجتماعية-تاريخية محددة زمنياً. وهذه السيرورة تستوجب انتقالاً متواصلاً لما دعاه مانهايام ترثاً ثقافياً متراكماً.
وبناءً على هذه الرؤية، يلاحق البحث حضور الذاكرة عبر ثلاثة أجيال: الجيل الأول والملقب بجيل فلسطين، يخصص له الفصل الخامس “جماعات جيل فلسطين وذكريات النكبة” وهم حراس الذاكرة الذين يعملون على رواية الذكريات في المناسبات العائلية. وينوه الكتاب إلى دور المرأة الفلسطينية كراوية وحارسة للذاكرة، ويكتب عن تجاربهن تحت عناوين “نقل الفقدان، مشاعر الانفعال الحزين”. وكذلك يركز هذا الفصل من البحث على دراسة مضامين الروايات التي تنقل الذاكرة، ويلفت الانتباه اهتمام الباحثة بدراسة التداخل الذي يحدث في بعض الأحيان بين الحكايات الواقعية والأسطورة، وذلك تحت عنوان “ذكريات أسطورية” متخذةً للتحليل نموذج حكاية عن أم تركت طفلها وحيداً أثناء النكبة، حكاية ضمنت واتخذت في عين رواتها بعداً أسطورياً. وبعد التوقف عند الحكايات البطولية، يتناول البحث الذكريات المحملة بالإحساس بالعار الناتج عن الصورة النمطية التي وسم بها اللاجئ الفلسطيني والاتهامات التي طالته ببيع الأراضي الفلسطينية، موضوعة وصورة نمطية تعالجها الباحثة باستفاضة.
أما الفصل السادس فيخصص لـ “ذكريات الجيلين الثاني والثالث التابعة عن فلسطين وروايتيهما عن ذكرى النكبة”، ويتوقف الكتاب عند الروايات الجدلية لهذين الجيلين في علاقتهما مع النكبة: “يرى الجيل الثاني النكبة ممتدة في حياته، بالإضافة إلى أن قربه الزمني من ديل فلسطين وذكريات هذا الجيل عن النكبات يعني أن رواياته توظف هذه الذكريات، في أثناء تشكيله معنى النكبة، بصورة مباشرة ومتعاطفة معه. وعلى النقيض من ذلك، يعني بُعد الجيل الثالث عن ذكريات جيل فلسطين أنه يضع للعدد الهائل من دلالات النكبة الوطنية والقومية الأولوية حين يعبر عن أشكال فهمه لسنة 1948”. ولهذه الأسباب، مرت النكبة بعدد هائل من التحولات غير المتوقعة في المعنى والدلالة، تاريخياً وسياسياً
كنت عم احكي بيني وبين حالي إنو أهلنا بسنة ثمانية وأربعين لمن طلعوا من فلسطين واستقروا بخان الشيح كان قصدهم يكونو قراب من بلادهم. بس للأسف أزمتهم طولت. وصاروا يحنوا ويشتاقوا للوطن تبعم، بس للأسف حلم العودة ما تحقق، فققروا يضلوا بالمخيم، ويعملوا منو فلسطين صغيرة أو وطن صغير. وبالفعل نجحوا، وتعلقوا وعلقونا فيه من دون ما حدا يعرف، وهلآ صارت الأزمة تبع الزمن تبعنا وكمان طلعنا، وصارت العالم تستأجر بيوت قريبة من المخيم مثل عرطوز وجديدة وصحنايا.
من الشهادات الواردة في الكتاب.
وفي الخاتمة “نكبات اليوم ونكبة 1948” تصل الباحثة إلى الخلاصة التي ترى أهمية النكبة بأنها: “تكمن في الطرق التي وفرت فيها مرجعيات ذكريات جيل فلسطين المكانية والزمانية عن النكبة، المعالم الرمزية لما ستبلوره المجتمعات من خرائب التدمير الذي أحدثته سنة 1948″، وتتساءل الباحثة: “لكن ما هي متضمنات هذا المستقبل البديل حين يكون هناك اليوم أولويات أخرى تسبق العودة، كما قيل خلال مصادفتي أحد معارفي من مخيم اليرموك في بيروت؟، وحين يكون على العودة إلى فلسطين أن تأتي أهميتها مرتبة تالية للحرب في سورية، والضرورة الملحة للعودة إلى المخيمات والتجمعات الفلسطينية في مواجهة التدمير الذي لا يتوقف لكليهما؟”
وعن الهوية المزدوجة في الانتماء تصل الباحثة إلى الاستنتاج بأن: “انتماء المجتمعات الفلسطينية إلى سورية وفلسطين معاً، وهو مصدر المطالبة بالعودة إليهما، يتحدى ويطالب أن يتم تجاوز المرحلة الاستعمارية البريطانية والفرنسية التي أنشأت دولاً قطرية أخفقت إخفاقاً كبيراً في المشرق العربي. وهي انتماءات إلى فلسطين تاريخية تتجاوز جغرافيتها دولة إسرائيل الاستعمارية الاستيطانية الراهنة، وهي أيضاً انتماءات إلى سورية التي تتجاوز حدودها المعاصرة المنحوتة على يد الاستعمار الفرنسي، كما تم التعبير عنها بجلاء عبر استحضار نكبات اليوم والأمس في ضوء ما استجد من دمار وتمزق”.
ميزة كتاب الباحثة أناهيد الحردان هو القدرة على دراسة الحدث التاريخي عبر معطيات الذاكرة الجمعية والفردية، تجمع بين الأكاديمية المرجعية، وتحلل الشهادات التي تعطي بعداً أدبياً للتراث الشفاهي في الكتاب، وتوشح كتابها أيضاً بخط من أسلوب السيرة الذاتية القائمة على رواية تجاربها في رحلة تحقيق هذا الكتاب المرجعي.