في ظل ازدياد الحديث عن أهمية حماية الرواية الوطنية الفلسطينية وصياغتها للتصدي للمحاولات المستمرة لطمسها وشرذمتها وتفريغها من محتواها الوطني والوحدوي، أصبح من الضروري استغلال كل الوسائل المتاحة من وسائل التواصل الاجتماعي، التلفزيون والأفلام السينمائية والوثائقية لإحياء الرواية الوطنية الجامعة للكل الفلسطيني في جميع أنحاء تواجده، خاصة في ظل النجاح الذي أحدثته هذه الوسائل في الترويج للقضية الفلسطينية في الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة ودحض الرواية الإسرائيلية المبنية على تزوير الحقائق للخروج بمظهر الضحية.
عكفت دولة الاحتلال على استخدام كافة الوسائل المتاحة لصناعة روايتها الهشة بما فيها الأفلام السينمائية والأرشيف، وهنا لا بد من الإشارة كيف أن إسرائيل استخدمت الأفلام السينمائية منذ بداية احتلالها لأرض فلسطين كوسيلة ناجعة للترويج لروايتها وتعزيز حضورها في المشهد الدولي. ومن خلال نفوذها في مؤسسة هوليوود.
أدركت مؤسسة الاحتلال الإسرائيلي أهمية تغيير الصورة النمطية عن اليهودي “من خلال استثمارها في صناعة السينما الهوليوودية للترويج لوجودها واحتلالها لفلسطين وتبرير هذا الاحتلال وإظهار صورة اليهودي الإسرائيلي بصورة البطل الذي عاد لوطنه بعد أن تعرض لأبشع الجرائم النازية. وأيضاً استخدمت جهاز مؤسسة السينما كذراع لأجهزة الدولة الصهيونية، مما يظهر وعياً مبكراً لأهمية هذه المؤسسة ودورها في صناعة الفكر والأيديولوجيا وهذا ما تحدث عنه مفكرين يساريين مثل ماركس وغرامشي وفوكو فيما بعد.
من أبرز الأفلام الأرشيفية والذي يعتبر نقطة تحول في المؤسسة الهوليوودية من حيث دعمها المطلق لدولة إسرائيل والذي يعكس بداية سيطرة إسرائيل على هذه المؤسسة وتسخريها لخدمة روايتها، فيلم الخروج Exodus.
بعد النكبة الفلسطينية وإعلان تأسيس دولة اسرائيل في العام 1948، طورت دولة الاحتلال بشكل منهجي من خلال وزارة خارجيتها علاقة حميمة مع المنتجين، والمخرجين الموهوبين في هوليوود، من خلال احد اهم اجهزة وزارة الخارجية الإسرائيلية، “الهاسبارا” المسؤولة بشكل رئيسي عن تحسين صورة إسرائيل في العالم. وعملت القنصليات الإسرائيلية في لوس أنجلوس ونيويورك دورا مهما في تسهيل الاتصالات بشكل متكرر بين المسؤولين الاسرائيليين والمنتجين ونجوم السينما، حيث نظمت ودعمت رحلة لهؤلاء إلى إسرائيل ، حيث استقبلوا رسميا من قبل الحكومة التي أعربت عن سعادتها بتقديم كل المساعدة اللازمة لإنتاج فيلم يوثق بطولات الحركات الصهيونية المتمثلة في ممارسات وهجمات عصابة الهاغاناة والأرغون الإجرامية ضد سكان فلسطين الأصليين.
تبنت الحكومة إسرائيلية هذا العمل منذ بداياته حيث قام القنصل الإسرائيلي في لوس أنجلوس آنذاك، نتانيل لورش، الذي كان يرأس سابقًا قسم حفظ تاريخ الجيش الإسرائيلي بالتواصل مع الكاتب الأمريكي الصهيوني ليون يوريس الذي نشر العديد من الروايات الأكثر مبيعًا في الولايات المتحدة. وفي إطار التحضير لروايته الجديدة، وصل يوريس إلى إسرائيل في نيسان / أبريل 1956. وخلال فترة مكوثه في إسرائيل، تم تزويده بمواد للقراءة وأفلامًا وثائقية. وخصص موظف من دائرة “هاسبارا” لتسهيل عمل يوريس وتوفير كل ما يلزم من معلومات وترتيب لقاءات له مع المسؤولين الحكوميين، وضباط الجيش المتقاعدين، وقدامى المحاربين والمستوطنين، بالإضافة لترتيب زيارة له للقرى الحدودية النائية. كل ذلك لضمان كتابة رواية من منظور صهيوني اسرائيلي للترويج للدولة الناشئة الجديدة. ليس هذا وحسب بل قام الكاتب يوريس بتسليم سفير دولة اسرائيل في نيويورك نسخة أولية عن الرواية لمراجعتها والتأكد بأنها تعكس تماما المنظور الإسرائيلي للصراع.
تم اختيار المخرج اليهودي النمساوي أوتو بريمنغر لتحويل رواية الكاتب يوريس التي حققت نجاحاً باهرا في الولايات المتحدة وترجمت الى أكثر من خمسين لغة الى فيلم رصدت له هوليوود ميزانية ضخمة، وشارك فيه عدد كبير من كبار نجوم السينما الأمريكية بعد أن تم إجراء بعض التعديلات على الرواية للتماشي مع الرؤية الصهيونية.
في إطار التحضير للفيلم وفي عام 1959، تمت دعوة بريمينغر لزيارة إسرائيل، حيث أعلن خلال زيارته أن الفيلم سيتم تصويره في إسرائيل وبالألوان وبذلك يكون أول فيلم يصور الصراع العربي الاسرائيلي من داخل فلسطين المحتلة. خلال الزيارة تعرّف بريمنغر على كبار المسؤولين الحكوميين، رئيس الوزراء دافيد بن غوريون، ورئيس هيئة الأركان وزيرة الخارجية غولدا مئير، وقادة من حزب العمل كانوا سابقاً كبار القادة في الهاغاناه وغيرهم من قادة الحركة الصهيونية.
علاوة على ذلك، وفي العام 1960 وفرت مؤسسات الحكومية كل الوسائل المتاحة لتسهيل عملية تصوير الفيلم من خلال تأمين التصوير في المؤسسات الدينية والمكاتب الحكومية وقاعات المحاكم. كما قامت الحكومة ببناء قرية مؤقتة للأطفال بالقرب من قرية عربية في الجليل أثناء التصوير، كما تم ايضاً إغلاق ميناء حيفا، البوابة البحرية فعليًا ليوم كامل. كما أغلقت الطرق في كل من مدينة حيفا وعكا والقدس، وقدمت أزياء الشرطة البريطانية القديمة وأزياء السجناء لضمان إنتاج الفيلم بجودة كبيرة ومنافسة تليق بالدولة الناشئة. ولم تكتفي بذلك بل وقبل عرض الفيلم عملت الحكومة الإسرائيلية على دعم المنتجين من خلال تأمين صفقات مع الشركات التجارية المحلية لعرض الفيلم.
ليس الهدف من هذه المقالة هو نقد الفيلم الذي هو بمجمله دعاية صهيونية ركيكة تخلو من الإبداع الفني واللغة السينمائية وتعرض لانتقادات جمة من حيث ميزانيته الضخمة وتحيزه الكامل للرواية الصهيونية ولكن من المهم الاطلاع على كيفية وآليات صنع الرواية “الوطنية” والاستثمار في صناعة الأفلام والمحتوى الذي يعبر عن معاناة الشعوب ونضالاتهم، وكيف من الممكن صناعة الصورة لتدعم روايتنا كفلسطينيين.
في حالتنا الفلسطينية روايتنا تم صنعها بنضالات شعبنا المستمرة وتضحياته، استطعنا خلال العقود المنصرمة تقديم روايتنا للعالم بطريقة تعكس طموحات شعبنا، وتعبر عن معاناته في ظل الاحتلال الإسرائيلي. تم تحقيق العديد من النجاحات في مختلف المحافل الدولية، إلا أنها في معظمها فردية ومن نتاج مؤسسات المجتمع المدني الفلسطيني خاصة في ظل غياب الدعم الرسمي لموضوع الرواية.
وإن كان مجلس الوزراء في شهر تموز المنصرم قد صادق على قرار تعزيز الرواية الفلسطينية وتخصيص الموازنة لها للعام 2021، إلا أن مثل هذا القرار لا يمكن أن يحقق هدفه من غير الشراكة الحقيقية مع المجتمع المدني من أجل توحيد الجهود واستثمار كافة الإمكانيات التي تدعم إنتاج أعمال على جميع المستويات تحاكي نضالات شعبنا وتضحياته وتقدم صورة ذات محتوى حضاري وحدوي وجامع للكل الفلسطيني .