مازلنا نقف بانتباه أمام احتمالات مفتوحة تفرضها علينا التجربة الفلسطينية، تجربة تفرض علينا صياغة الحاضر وفهم الماضي وإدراك الخسارات الكبيرة لنتنفسها بهدوء، وتبدأ خسارتنا الممتدة برحيل البروفيسور شفيق الغبرا بغياب مدوٍ لفدائي وأكاديمي وكاتب ومثقف كان يستعيد حكايتنا الفلسطينية في مرآة التحولات الكبيرة التي يفرضها الواقع ليجد نفسه دائماً أمام هوسه الشرس بتجسيد الفلسطيني في لجوئه وفي ثورته وفي قتاله المستمر، وفي همومه المعرفية التي يمكنه من خلالها التعبير عن نفسه وعن الآخر في حدود ضيقة يعيشها في الحاضر، لقد جسد الغبرا حالتنا الفلسطينية في التحولات الكبيرة لكي يتمكن من الدفاع عن الماضي وحماية الحاضر مما يهدده من انهيار، لقد استطاع الغبرا من خلال البحث تحديد صورة كبيرة يمكن من خلالها الدفاع عن قضايا الإنسان وتحديد مفهوم العدالة للشعوب العربية، كما وازن بين السلاح ورؤية المثقف العضوي الذي يعمل على حرية واضحة ليس فقط للشعب الفلسطيني بل لكل مواطن عربي في المنطقة.
إن مرآة التحولات الكبيرة التي عاشها الفلسطيني يمكنها أن تتجسد في حكاية طويلة عاشها البروفيسور شفيق الغبرا الذي ولد عام 1953 في مدينة الكويت، بعيداً عن أرضه الأولى حيفا وهو ابن الطبيب المرحوم ناظم شفيق عطا الله الغبرا الذي عرف مرارة النكبة واللجوء إذ رحل من فلسطين إلى مصر ومن ثم إلى دولة الكويت، ليجسد ابنه شفيق الغبرا من خلال تجربته صورة كبيرة للشتات الفلسطيني الذي كان مطالباً بأسئلة الثورة والمعرفة والبحث الطويل عن أجوبة الأرض والإنسان، لقد تخرج من جامعة “جورج تاون” والتحق بعدها مباشرةً في لبنان بالعمل العسكري، إن التجربة النضالية التي بدأها البروفيسور شفيق الغبرة امتدت على أحلام وطموحات الشعب الفلسطيني، فبعد هزيمة عام 1967 انفتح الوعي السياسي على مفهوم الهوية والرد على الهزيمة المدوية، لينتمي بذلك الغبرا إلى الجيل الذي عمل على إنتاج القدرة على استعادة الأرض والحقوق الفلسطينية وتحقيق النهضة الشاملة، ولذلك تحديداً انخرط في صفوف حركة فتح ليخوض بذلك أولى تجاربه في العمل الطلابي السياسي مع حركة فتح في عدة عواصم ودول، ليتطور التجربة إلى الالتزام الشامل بالكفاح المسلح والقتال انطلاقاً من جنوب لبنان.
إن الانفتاح الكامل على التجربة النضالية التي عمل فيها البروفيسور شفيق الغبرا، جعلته ينمو مع أسئلة الإنسان والموت، والتضحية التي اعتبرت وسيلة العودة الوحيدة في مرحلة مهمة من تجربة النضال الفلسطيني، كما نسجت خيوط الرؤيا الكبيرة لاستعادة أسئلة فلسطين أمام احتمالات التغيير بمعناه العربي الأوسع، وما ينتجه من مضاعفات أثرت على سير العمل النضالي في المستقبل، لا أعرف كيف يمكننا استعادة ذلك الجزء الضائع من عمر جميل جرنا إلى اليقين والتأمل في التجربة، ولا أعرف كيف نستعيد الماضي دون الرؤية الشاملة التي تعامل معها الغبرا في كتابه “حياة غير آمنة جيل الأحلام والإخفاقات” والتي كتبها بصوته الشخصي الذي تحول مع الوقت إلى صوت شعب كامل، فأسقط الشخصي في العام ليتحول ما هو فردي إلى جامع يفتح أبواب التجربة ليتعامل معها الجميع وكأنها ذاكرته الشخصية التي يمكن أن ينتقي من خلالها صورته الشخصية وصورة شعبه واحتمالات عودة أرضه، من هذا التداخل قال الغبرا بالنيابة عن جيل كامل ما عجزنا عن قوله في الشعر والنثر والفكر، والتبسيط السياسي والاجتماعي منذ النكسة حتى بداية الثمانينات، ليدون بالنيابة عنا ما فاض منا من خيبة وألم ونسيان.
ولأن الحكاية مستمرة أدرك البروفيسور شفيق الغبرا منذ البدايات أن العودة إلى الحياة الفكرية يمكن أن تؤسس لتجربة أنضج يمكن من خلالها تجاوز عقبات الحاضر الفلسطيني، ليعمل كأستاذ للعلوم السياسية في جامعة الكويت، وليعمل على عشرات الأبحاث والدراسات التي استطاع من خلالها أن يناقش قضايا المنطقة، ويستند من خلالها على حقوق الشعوب العربية في الحرية والمساواة، إن الحياة الفدائية التي انطلق منها الغبرا كانت فاتحة لرؤية الواقع العربي بصورة أشمل واستطاع من خلال البحث والعمل الفكري تلخيصها من خلال الحوارات التلفزيونية، والنقاشات الأكاديمية، بالإضافة إلى الدراسات التي رصد من خلالها أكبر التحولات العربية وطرق الحرية للشعب الفلسطيني، كما فتح البروفيسور الغبرا أسئلة الحوار الفلسطيني في كتابه “إسرائيل والعرب: من صراع القضايا إلى سلام المصالح” الذي صدر عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر في عام 1997 إذ نقد فيه البروفيسور الغبرا التجربة التاريخية، ومحاولة تطبيق أساس موضوعي في فهم الصراع العربي الإسرائيلي ومعنى التحول نحو السلام، والذي نرى من خلاله مراحل متداخلة لطموحات سقطت مع الزمن، ومراجعة نقدية شاملة لكيفية تعامل العرب مع حروب مواجهات ومراحل الصراع العربي الإسرائيلي، وهنا تكمن أهمية الكتاب كونه بداية لنقد يمكن من خلاله إدراك أخطاء الماضي من وجه نظر سياسية والبحث عن مرحلة لها سماتها وأبعادها الجديدة.
للبروفيسور الغبرا كتب عديدة منها “فلسطينيون في الكويت”، ” من تداعيات احتلال الكويت”، “النكبة ونشوء الشتات الفلسطيني في كويت”، عالج فيها واقع البلاد التي عاش فيها كل تجاربه وخلص فيها احتمالات الوجود الفلسطيني وعالج ماضيه المفتوح على كل أبواب الرحيل، كما رصد من خلال عمله اليومي علاقة الولايات المتحدة والخليج في كتاب يحمل ذات العنوان، وضع فيه النقاط الأساسية للعلاقات المتداخلة والمصالح المفتوحة بين الدول الخليجية، كما كان يعتبر من أبرز المتحدثين إعلامياً في القضايا العربية في المنطقة، ومن أهمها داخلياً قضية البدون، وعربياً الربيع العربي وما يحمله من تغيرات كبيرة.
إن فلسطين الممتدة على احتمالات العودة والصراع والمواجهة اليومية تودع اليوم في رحيل البروفيسور شفيق الغبرا تجربة نضالية فدائية ثقافية فريدة، إن الإيديولوجيا الفارغة من واقعها وشعبها لا يمكن إلا أن تنهزم أمام احتمالات الفراغ في المضمون، أما قضيتنا فغنية بقدرتها على استنتاج أهم الصور وهي فلسطين الفكرة، التي تعامل معها الغبرا بتحولاته الكبيرة ليطل من خلال كل مرحلة على تجربة فلسطين الكبيرة وهي تمتد بقدرتنا على تحديد دورنا الحقيقي في فهم مسألة المواجهة مع الاحتلال، لقد رحل الغبرا بعيداً عن حيفا أرضه الأولى، وعمل طوال حياته على تحديد مفهوم عودتها من خلالها، وكان يعلم أنه من خلال الفكر يمكن أن يؤسس لجيل يفهم جيداً مضمون هذه العودة سياسياً وفكرياً وثقافياً، ويعلمنا أن المكان الذي هو فلسطين سوف يبقى منذوراً دائماً للقوة والفكر الثوري من جهة، ومن جهة أخرى للفكر والعلم والإدراك لقدرتنا بالتعبير عن أنفسنا وعن العالم الذي نعيش فيه.