جودة فقّوسة
ليس بالإمكان مخاطبة الحيتان؛ فهي مجرد حيوانات لا تساوينا ذكاء، وليس باستطاعتها التهام القمر؛ فهي كبيرة الحجم. وحتى في ليلة مكتملة القمر، وفي وسط المحيط، وفي خضم مشهد ملحمي فيه حوتٌ يقفز خارج الماء بجانب القمر المكتمل، فإن الحوت لن يستطيع أكل القمر. يبعد القمر عن الأرض حوالي 353300 كيلو متر في أقرب حالاته و406700 كيلو متر في أبعدها، وحجمه 2.1958× 1010 كم،3 بينما لا يتعدى طول أضخم حوت ثلاثون مترًا. اليوم يمكن وبسهولة إثبات استحالة منطق جمل كهذه، لكن إذا تخلينا عن الحاجة إلى إثبات المنطق وسمحنا لأنفسنا الغوص في عالم نخشى فيه على قمرنا من حوت، فقد نجد في منطق ذلك العالم ما يعرّي وهم عالمنا.
أمرّ أحيانًا في أماكن مألوفة بعد غياب طويل وألاحظ التغيير الجذري الذي طرأ عليها، لكنني أغفل النمو البطيء لشجرة الزيتون أمام باب منزلنا حتى أرى صور قديمة للشجرة وصورة لي بجانبها. هل تغفل البشرية جمعاء نفسها أيضًا؟ نسخر بسذاجة من الماضي، ونقنع بأن التكنولوجيا وضعتنا في طليعة التقدم التاريخي رغم أننا ننجرف باتجاه يخل بتوازن كياننا. أرى العالم يفقد سحره مع كل إجابة يتوصل إليها. تلاشى السحر من العالم ولم ينتبه أحد. ماذا سأفعل بعد الإجابة على كل تساؤل، وبعد تفسير كل ظاهرة، وبعد دحض كل أسطورة؟ كيف نغير العالم من حولنا وفي داخلنا؟ ما الذي سيحل مكان السحر؟
بحثت جمانة إميل عبود في الخرافة والقصص الشعبية وعلاقتها بتغير الحيز العام الفلسطيني، فقادها ذلك إلى كتاب “قول يا طير” وإلى دراسات توفيق كنعان التي تتطرق إحداها إلى ينابيع الماء المسكونة بالجن والعفاريت في فلسطين، فجاء معرض “يا حوت لا توكل قمرنا” (مركز خليل السكاكيني ٢٠١٧). لفتني كُتيّب المعرض الذي حمل عنوان “كتاب الأيدي العائدة”، إذ وضّح عمق الخرافة في الموروث الفلسطيني، وبخاصة ارتباط الأساطير بأعين الماء والتطرُّق إلى اختفائها التدريجي لأسباب شتّة، منها خارج عن سيطرتنا، أي تدخل الاحتلال، ومنها خارج عن إرادتنا جرّاء انشغالنا بهموم الحياة وتقصيرنا بدراسة تاريخنا. يستعمل عمل الفيديو “خبئ مائك من الشمس” أسطورة تحكي قصة هروب الكائنات الأسطورية من المياه التي تصلها الشمس. وأرى فيه ارتباط مرئي مباشر لكُتيب المعرض، وتحديدًا بالجزء الذي اقتبسته من بحث د. كنعان. في قسم آخر من الكُتيّب، تفتح عبود موضوع العلاقة بين الأساطير والحكايات الشعبية وبين علاقة الإنسان بنفسه وتاريخه وأرضه والطبيعة، كما وضحتها في مراسلاتها مع القيّمة لارا الخالدي. أشعر أن في جملة “يا حوت لا توكل” توسلًا لإيقاف تغيير جذري سيحل على شكل حياتنا. يبدأ هذا التغيير كما أتخيله في أحداث تعود بدايتها إلى أساطير بعل الكنعاني وتستمر حتى حاضرنا. يسمى الحوت في اللغة العبرية الحديثة “لفياثان”؛ تسمية تعود إلى وحش بحري هزمه “بعل هدد” إله العواصف والأمطار في الأساطير الأكادية والسومرية والأمورية التي انتشرت في منطقة الهلال الخصيب قبل ألاف السنين، وتبنت الديانة اليهودية هذه الأسطورة بشكل يلائمها لاحقًا. في كتاب اللفيتان (١٦٥١) لتوماس هوبز عن نظرية الدولة، طرح فكرة العقد الاجتماعي والسلطة المطلقة. يعتبر هوبز أن على جميع مواطني الدولة التخلي عن القليل من حريتهم وقوتهم من أجل خلقٍ جماعي لجسم حكومي قوي وسلطة تحافظ على الجميع، أي أن يقرر فصيل من الطيور التخلي عن أجنحته لتكوين نظام يوفر غذاءً دائمًا للفصيل، وهذا الجسم الاجتماعي الذي يشارك الجميع في تكوينه لقبه هوبز “اللفيتان”. في سياق فلسطين، نرى أن اللفياثان (في مفهوم الأنظمة السياسية العالمية) تحول إلى سلطة مطلقة. إحدى أوجه اللفيتان هي حكومة توفر احتياجات ورفاهية لجزء من سكانها، ووجه أخرى يفرض فيها وحش اللفياثان نفسه ليس فقط بوجوده على الشعب بل بتحكمه بحياة الأفراد وحرياتهم؛ يلتهم حضارة السكان الأصليين وعاداتهم وتقاليدهم ومساحتهم الطبيعية.
قررت عبود أن تزور بصحبة المصور السينمائي عيسى فريج عيون الماء التي ذكرها د. كنعان لتوثيقها لتجد أن الحوت التهم معظمها. الحوت مستوطنة، أو الجدار، أو مضخة تسرق الماء. بدأ الحوت في التهام الحياة العضوية ابتداء من عصر الحداثة؛ يتغذى على أفكاره ويسيطر على الطبيعة ويسخِّرها من أجل نموه. ولكي ينجح الحوت في الوصول إلى القمر، كان عليه قتل الأرواح التي تعيش في عالم الأساطير، وخلق محاكاة لعالم جديد مُتخيل يستطيع اللفيتان فيه فرض قوانينه الخاصة على البشرية، حتى أصبح عالم المحاكاة المُتخيل واقعًا حقيقيًا، وأصبح بإمكان الحوت أكل القمر.
إذا كنا نغفل ذواتنا وهي تتغير، فكيف لنا أن ننتبه لتغيّر يطرأ على البشرية منذ مئات أو آلاف السنين؟ بدأت موجة باجتياح العالم؛ تقضي الخيال الذي لطالما استمدّت منه البشرية المعنى والحياة وعلاقتها مع الأرض لتصنع مكانه واقعًا متخيلًا عن حياة مثالية مستحيلة. ما زالت هذه الموجة تحول الواقع من حولنا؛ تجرف الجبال وتقتل الحيوانات وتجفف الينابيع وتحرق النباتات، وتغطي سطح الأرض بالإسمنت لتُسّوق لنا ما لا نحتاج. تزرع الموت داخلنا وتتغذى على أرواحنا، ونحن لا نرى.
تخيلت في عنوان الكُتيب الذي رافق المعرض أيادٍ ممتدة لنا من الظلام تدعونا ألا نخاف ولوجه لأننا سنجد الحياة فيه. في حال لم نعد، ستودعنا هذه الأيادي إلى عالم المحاكاة الحقيقية، إلى الأبد. العائلات اليوم لا تجتمع كي يقصَّ الكبار على الصغار أساطيرَ وخرافات تحمل رسائل ضمنية تعلمهم عن الحياة الفكرية والروحية والأدبية والثقافية. تراجع الأساطير الماضي كي نفهم الحاضر وكما لا يمكن فهم منطق الأسطورة بالتحليل إلا في صورتها الكاملة، فلا يمكن فهم الحياة بالتحليل والتفسير، بل بصورتها التاريخية الكاملة. أرى في عنوان الكتيب “الأيدي العائدة” دعوة من عَبود إلى المجتمع، تطلب فيه منا العودة لنبحث في ماضينا، لاكتشافه، للكتابة عنه، لتسليمه للأجيال المقبلة، لأن ماضينا يتلاشى والبشرية تفقد نفسها معه.
لا بد من التطرق الى الجانب السلبي الذي صاحب التغير في الأساطير والخرافات. في حديث عبود والخالدي حوارٌ حول دور المرأة في الخرافة والقصص الشعبية، لكني أجد الخرافة لم تختر التقصير في حق المرأة، بل هذا انعكاس للفكر المجتمعي في نص الخرافة بكل أشكاله الرجعية، منها نتذكر جميعنا محاولة الكبار إخافة صغارهم بالمخلوقات الأسطورية. هذا استغلال ضعيف لمخلوقات خدمت الحضارة البشرية، في فرض السيطرة على الأطفال، لأن الكبار عجزوا عن إيجاد الطرق السليمة في مخاطبة أطفالهم. يُحكى عن العفاريت والجن في الخرافات، وهي كائنات ما ورائية تعيش متنقلة بين عالمنا المرئي وبين عالم لا يمكننا وصوله، وتخدم هذه الكائنات تكوين الرسالة التي تحملها الخرافة. يعود أصل الخرافات إلى الأساطير وهي حكايا تقليدية يخلقها الخيال المشترك للمجتمعات تتناقلها الأجيال مع الحفاظ على طاقتها الإيحائية. تلجأ الأسطورة إلى الخيال والعاطفة والترميز من أجل بناء صورة شمولية نفسية تمارس تأثيرها على الفرد وعلى المجتمع وتخفف سيطرة النزعة العقلانية على الواقع.
لا يقتصر تحول الأساطير إلى خطابات خوف وفرض السيطرة على الأطفال، بل أيضًا عودة للسيطرة على الشعوب بشكل يتلاءم مع الديانات الحديثة من توزيع البركات والشفاء والخلاص بالنعمة، أو استغلال الأنظمة السياسية الأسطورة لتسيير الشعوب والتحكُّم بردود أفعال الجماهير وتعتيم رؤيتها المنطقية للواقع كأسطورة الدم النقي والشعب المختار وغيرها من الأساطير التي زرعت بدراسة في مجتمع يفتخر بأنه الديمقراطي الوحيد في الشرق الأوسط، وقائد التطور التكنولوجي في العالم.
لم تغب الأساطير عن حياتنا، بل استغلَّت وحوِّلت من حكايات تخدمُ الإنسان في فهم الحياة واكتساب الحكمة، ومن عادة تنسج الروابط الاجتماعية وعلاقة الإنسان بالأرض إلى دعاية تشكِّل صورة لواقع محاكاة يخدم أهداف استهلاكية وعنصرية. رغم أهمية المعرض، إلا أن سؤالًا كبيرًا ما يزال ينتظر الإجابة: هل بإمكاننا اليوم إنقاذ الخرافات والأساطير من الأرشفة وإعادة إحيائها في صورة جديدة ربما؟ من الواضح أن الأساطير اليوم تحتاجنا كما نحن بحاجتها.