أمل… بدون أكسجين

علا طبري

سينمائية فلسطينية

إن استثنينا كلام الشخصيات، نجد أنفسنا أمام ترنيمة تحتفظ لنفسها بالصمت الضاج الطاغي على هذه الأمكنة المصورة بواقعية وشاعرية في آن، كما بعبثيةٍ وبمراوحةٍ بين نظرة ابن البلد ونظرة المتفرج الدخيل. وفيها حزن كبير. وهي من الجمال والدقة بمكان أن تواجهنا بحقيقة مميزة وواقع أليم لكنه لا يتخلى عن الحلم.

...للكاتب/ة

اشتراكك بنشرتنا البريدية سيحمل جديدنا إليك كل أسبوع

الأكثر قراءة

الصحافة الثقافية وما نناضل من أجله
أين نحن في السير قدما...
عشرة أفلام عظيمة عن المافيا (ترجمة)
10 أفلام تشويق إيروتيكية رائعة (ترجمة)

من أجل صحافة ثقافية فلسطينية متخصصة ومستقلة

01/10/2021

تصوير: اسماء الغول

علا طبري

سينمائية فلسطينية

علا طبري

إذا كانت السينما إحدى لغات التعبير، من خلال نقل أو تركيب صورة لحياة أو لأحلام إنسان ومجتمع، فلا شك أن تعددية خطاباتها ستكون بتعدد وجوه الإنسان وأنماط حياته، كما واستراتيجياته في مواكبة هذه الحياة. ولكن، بطبيعة الحال، وجود منظومة صناعة الصورة العالمية، بأسواقها وإنتاجاتها المتعددة يجعل للأفلام “وأهميتها”، مراتب، عدا عن مقياس الجودة. وهي مراتب تضاف إلى تعدد فئاتها وهوياتها من أفلام روائية، تسجيلية، وثائقية، استقصائية، تاريخية، واقعية، تخيلية، انثروبولوجية، اثنوغرافية، تجريبية، دعائية-ترويجية أو تعليمية وما إلى ذلك. 

لطالما آمنت أن اللغات السينمائية الوثائقية لا تزال الأصدق في التلاحم مع فلسطين، والأقدر بنقل إيقاعاتها كما وجمع أشلائها والتفاعل مع روحها.  

طويلة وثرية كانت فترة فك علاقة التقرير التلفزيوني الإخباري بالفيلم الوثائقي وارتقاء الأخير، بلغاته المختلفة وتَبَلورٍها في مناهج جديدة، كما ونجاحه في اقتحام صالات العرض التي كانت تقتصر على الأفلام الروائية. وقد صدرت آلاف الأبحاث والكتب في هذا المضمار، كما في مواكبة تطور وتحول الفيلم الوثائقي والتسجيلي. 

إن علاقتي بالفيلم الوثائقي، وحميمية هذه العلاقة مع الفيلم المحلي بشكل خاص، هي من اهتمامي بمادته الأساسية، التي تنبع من وقائع الحياة اليومية للإنسان واستراتيجياته في التعامل معها، وما تنتجه من أراشيف تضاف إلى التاريخ وما سبق له أن بَذَر. تَتَشَكّل الأحداث والحيوات المتناولة، وفقًا لأنواع وأهداف ودوافع الفيلم، ومن ثم، عَبرَ اختلاف معالجاته الفنية، الفكرية والفلسفية، مع الحفاظ على أهمية إنتاج المتعة والمعرفة والحَث على الخروج من دوائر الأمان الفكرية والسلوكية. 

تُهَمَّش الكثير من الأعمال المحلية، المبتدئة كما المحترفة، خاصة تلك التي تفتقر للإمكانات المادية، وبالتالي هي الممولة ذاتيًا أو من خلال مؤسسة أو حتى قناة تلفزيونيه محدودة الميزانية أو مشروع عابر، رغم أنها تنطق بمسائل غاية في الأهمية، محليًا على الأقل وإنسانيًا بشكل عام. نراها تعرض بِشُحٍ في أطر فنية ثقافية ضيقة أو تتحول، إن حالفها الحظ، الى مراجع في الدراسات الأنثروبولوجية والفعاليات التدريسية اللامنهجية.  تُعتبر هذه الإنتاجات التي يَصنعها أهل البلد، عن بلدهم ومن أجله وبهدف محاكاته، أقل قيمة من أن تحظى بالأهمية والترويج مقارنة بغيرها. وما لا يُعرض (يَفشَلُ أو يُفشَلُ) عالميا، يموت ويُدفن محليًا في واقعنا العبثي للأسف. وما أشبه ذلك بالتعامل مع البشر حيث نتعامل مع الأصوات الأعلى في المجتمع حتى ننسى أنهم نخبة أو على الأقل فئة من! 

اهتمامي الكبير بهذه الأفلام هو من شغفي بالأصوات التي لا تصدح بالضرورة في المنصات، أصوات ولدت من أرحام الحاجة للتعبير، للتغيير ولتسليط الأضواء على قيمة حياتية مصيرية تقبع في الظلام.  أفلام تُنتَجُ لكي تصبح جسورًا للتواصل الداخلي، مع أهلها، حيث هدف التطور والتطوير لا يزال أعلى مرتبة من التواجد في الساحة العالمية، فنيًا أو فكريًا. يتوافق شغفي هذا بإيماني بأنه كلما كان الخطاب ومعالجته أكثر محليةً وشخصانية كلما تموضع إنسانيا بعمق، وتواصَلً عالميًا بنجاح أكبر.   

وإن كان الشيطان يقبع في التفاصيل، فإن الزُبدة تكمن في التفاصيل أيضًا، ولذا فلا عجب من تَحوّل هذه الأفلام-الكنز إلى طُعم عالي الجودة في صنارة آخرين، من محترفي الصيد والإبداع، لإنتاج المشاريع الأكثر شهرة والأعلى “مرتبة” وفقًا لسياسات صناعة الصورة، وقوانينها واستعمالاتها.  

في هذا السياق تمامًا، تعرفت على شريط وثائقي غير معروف! لعله سيكون دافعي في البحث عن، وتظهير، كافة التعابير الصورية المحلية التي غُيبت بسبب تبريرات مثل، مرور الزمن، “غزارة الإنتاج”، مكانةِ وجودة التقنيات الحديثة المستعملة وما إلى ذلك. 

بتلقائية المكتشف، المنفعل بسعادة وقيمة اكتشافه، كتبت مباشرة على الحائط “الفيسبوكي” المخصص لي، تنويه ورسالة داعمة للصديق رمزي مقدسي، المخرج والممثل السينمائي المسرحي الفلسطيني هوية وقلبًا وممارسة. أرفقت برسالتي رابط فيلمه المتاح حاليًا للمشاهدة تحت عنوان “بدون أوكسجين”، أو بترجمة من اللغة الإنجليزية، “انتصاري على إعاقتي”. فجاءني رده الشاكر بخجل والسعيد بحذر: “انه فيلم بسيط وليس بالجديد فهو من تصوير عام 2012 وإنتاج عام 2016.”

أربع سنوات من الجهود والتصوير والتوليف والبحث عن موارد مالية حتى إخراج هذا الفيلم “البسيط” إلى النور، أي إلى الشاشة الصغيرة. كم هي كثيرة وقيمة هذه الإنتاجات المصنفة بـ “البسيطة”، العابرة مرور الكرام الحقيقين، والغائبة عن حاضر شاشاتنا على اختلافها واهتماماتنا المتنوعة، رغم قوتها وعمق تواصلها مع من شاهدها بغض النظر عن أعدادهم.

في حين نتفرج، نتلصص، ونشاهد ما يعرضه لنا المخرج عن، ما اسميه استراتيجيات حياة، لأفراد حكمنا عليهم بمصنفات مثل ” مُعاقون”، “مُعوَّقون”، “ذوي احتياجات خاصّة” وما الى ذلك، نجد أنفسنا أمام مرآة يمدها لنا المخرج بسلاسة ويعطي لمن يستطيع إمكانية تتبع انعكاسه فيها.

أكثر ما تردد في هذا الفيلم هو تعبير ” أنا أستطيع” ولم يكن ذلك توليفاً من المخرج بقدر ما هو إبداع في اختيار الشخصيات، وترجمة لُبّ وجود هذه الأرواح الجميلة المنبوذة اجتماعيا منا نحن ” أللا …”  ومن اختيار المخرج لهذا الطرح وقُدرتهِ على مَوسَقَتٍه.

أما من يقبل منا أن ينظر إلى انعكاسه/ها في المرآة المذكورة فسيجد لا محالة أننا أصحاب “الإعاقة” غير القادرين على التعامل مع شخصيات الفيلم المنبوذة في منفاها الذي شكلناه بأنفسنا. لكنهم سبقونا إلى الرقي بفكرة الأمل والحَل، إذ أن أملهم فاعل وليس حالم مثل آمالنا. 

لا بطولات في هذا الفيلم الوثائقي، ولا تسمح شخصياته بفقدان الأمل التام، فهم مثلنا يعيشون تحت وطأة الاحتلال، القصف، الإغلاق، الفقر، الدمار، الحاجة، الوحدة، القمع السياسي الداخلي، جدران الأبارتهايد، الألم الجسدي والروحي ولا يجدون آذاناً صاغية غير البحر، رغم أنه في كثير من الأحوال محاصر هو أيضا مثلهم، لكنه الوحيد الذي ينجح بالتواصل معهم. 

يبتدع هؤلاء الناس في وحدتهم طرقًا للتواصل مع الحياة من حولهم وهم يدركون استحالة الوصول إلى أي نوع من التلاحم مع الخارج إلا من خلال قوتهم الداخلية. أما الأيادي والقلوب النادرة التي تساند كل من هذه الشخصيات، بدءاً بالوالدين وأفراد العائلة وصولا الى المعلمة في المدرسة أو الأخصائي/ة الاجتماعي/ة في مؤسسة صغيرة المساحة، فقيرة المال، ورغم عدم تواجدها الجسدي على الشاشة فهي تظهر جليًا في الفيلم وفي حياة الشخصيات، التي صادقت الزمن والموت وقليل من الأحلام التي “يمكن” تحقيقها في مجتمع أكثر طبيعية فقط، وليس بأكثر عصرية أو ثراء.

إنه فيلم تسجيلي إنساني بحت، واقعي بعيد عن البكائيات أو الفذلكات، في مضمونه كما في شكله، “الكلاسيكي” إن صح التعبير، فهو عبارة عن مقابلات ومشاهد من حياة أفراد أحياء في غزة والخليل، يتخللها موسيقى تشبه حياتهم المنبوذة اجتماعياً، تستطيل صمت المتحدث السابق وتوصله باللاحق. أما تعليق المخرج فهو من خلال بساطة التوليف ومباشرته.

إن استثنينا كلام الشخصيات، نجد أنفسنا أمام ترنيمة تحتفظ لنفسها بالصمت الضاج الطاغي على هذه الأمكنة المصورة بواقعية وشاعرية في آن، كما بعبثيةٍ وبمراوحةٍ بين نظرة ابن البلد ونظرة المتفرج الدخيل. وفيها حزن كبير. وهي من الجمال والدقة بمكان أن تواجهنا بحقيقة مميزة وواقع أليم لكنه لا يتخلى عن الحلم.

أما إذا استبقينا الصوت، واستثنينا الصورة، التي تظهر لنا ما يجعلنا نحكم على هؤلاء بالـ “الإعاقة” و “بالاختلاف”، أي التي تسمح لنا برؤية أجسادهم المبتورة، ومشيتهم المختلفة، نجد أنفسنا أمام حنين، الفتاة الجميلة، التي تسبب نقص الأوكسجين في غرفتها لحظة الولادة بأضرار جسدية جسيمة وحياة صعبة، وهي تقول تماماً ما يقوله كل فلسطيني عن بلده وحياته وأحقيته كآدمي/ة على هذا الكوكب “شو إحنا ممنوع نحلم مثلهم…!! حرام أحس زي غيري؟؟…”  وهو خطاب لطالما رددناه في مواجهة الصهيونية وحلفائها في العالم كله، تردده صبية مليئة بالمثابرة والحلم لكن هذه المرة في مواجهة المجتمع الفلسطيني ذاته المصنف على أنه غير معوق. رغم جملة الشاب الجميل مبتور الأطراف المتزن بكلامه كما على دراجته الهوائية “الإعاقة مش في الجسم الإعاقة في العقل”.

إن الصورة الترابية التي اختارها المخرج لينقلها لنا عبر كاميرته، والتي ذهبت بي إلى نوع من خشوع، لا تتوافق مع اللمعان المطلوب للترويج والتوزيع العالمي. لا شك أن الشاشات، التلفزيونية أو السينمائية، ذات الشأن التجاري التي تستقطب الجماهير الكبيرة اللامتناسقة، لن تأبه لهذه الأفلام ذات الطابع المحلي والبعيدة عن المنافسة بسبب بساطة أساليب تعبيرها التقنية-الفنية. أما شاشات المهرجانات “المستقلة” الممتدة على وجه العالم، التي تجهد في استقطاب الجماهير فكثيراً ما تجد نفسها بين المطرقة والسندان، فمن ناحية عليها مواكبة كل جديد، وهناك الكثير مما يحدث وينتج في التعبير الصوري العالمي، ومن ناحية أخرى عليها مراعاة النوعية والمضامين المطروحة سياسيًا أيضًا، لكيلا تخسر جمهورًا يخالفها الرؤية.

فيما تستمر “سلطاتنا المحلية” القامعة/المقموعة، في حصارها لأدنى حقوق الشعب ويستمر الاحتلال بحصاره وقتله للإنسان يستمر الطفل المثابر، إدريس، الذي يرفض فكرة عدم المقدرة بقوله “أنا أستطيع”، ومحاولاته في الوصول إلى دار عمه بقوله: “شوي وبوصَل…عشرين دقيقة وبوصَل”. يَحلم في أن يبيع كرسيَّه البدائي الصنع يوما ما، بعد أن يتمكن من المشي على قدميه، ليستثمر ثمنه في تحقيق حلم.

جميل هذا الفيلم، “البسيط”، “غير الجديد”، “المجهول”، مثل العديد من إنتاجنا الفلسطيني، مثل تاريخنا ويومياتنا التي نتحدث عنها للعالم بما يهم العالم وليس بما يهمنا نحن.   

على أمل أن نتغلب على إعاقتنا هذه ونتعلم من ذوي الآمال الفاعلة، إنسانيًا وسينمائيًا، اكتب. علنا نتعلم منهم أيضًا، تقدير ودعم تعابيرنا وإنتاجاتنا المحلية أكثر.

الكاتب: علا طبري

هوامش

موضوعات

...للكاتب/ة

الأكثر قراءة

عشرة أفلام عظيمة عن المافيا (ترجمة)
10 أفلام تشويق إيروتيكية رائعة (ترجمة)
أين نحن في السير قدما...
الصحافة الثقافية وما نناضل من أجله

GOOGLE AD

نكـتـب لفلسطين

اشتراكك بنشرتنا البريدية سيحمل جديدنا إليك كل أسبوع

اختيارات المحرر

من أجل صحافة ثقافية فلسطينية متخصصة ومستقلة

اشتراكك بنشرتنا البريدية سيحمل جديدنا إليك كل أسبوع