يتكون نص الباحثان بشير مخول وغوردن هون في كتاب “الفن الفلسطيني المعاصر: الأصول، الهوية، القومية”من عدة مستويات، يمكن لكل منها أن يكون موضوعاً بحثياً مستقلاً، وبالتالي يمكن للناقد تقديم قراءات نقدية متعددة ومستقلة مستمدة من المستويات المتعددة في الكتاب والتي تمتد لتشمل تأريخ الفن العلوم السياسية والفن، سوسيولوجيا الفن، النقد الفني ونظريات علم الجمال. وإن كان المستوى النظري يتعلق بتقديم قراءة لتاريخ الفن الفلسطيني والحقب الأساسية التي تشكل مسيرته خصوصاً في التعبير عن التجربة السياسية والاجتماعية، فإن الجانب النقدي في الكتاب يقدم قراءات تأويلية للأعمال الفنية، ميزت كتاب مخول وهوردن بالاحتمالات الفلسفية، السياسية، المجتمعية، والثقافية للأعمال الفنية، والتوسع في تحليلها وتأويلها إلى مساحات نصية وفكرية واسعة مبنية على ربطها بأعمال فنية أخرى، بأنواع فنية أخرى كالسينما والأدب، وبدراسات مقارنة مع أعمال فنية عالمية، وبنصوص فلسفية وفكرية. حيث يتم تقديم قراءة لتاريخ وحقب الفن الفلسطيني في ارتباطها وتعبيرها عن التجربة السياسية والاجتماعية.
في الجزء الأول من المقالة التعريفية عن الكتاب سنتطرق نظرياً إلى منهجيات وإشكاليات تأريخ الفن الفلسطيني وتشكيل سرديته، لننتقل تالياً إلى مشكلة البدايات والأعمال الفنية التي شكلت هذه البدايات، ومن ثم نتعرف على الأعمال الفنية للمرحلة التالية والتي يطلق عليها الباحثان عنوان “مأزق النشأة: المركز الخاوي والجدار”، قبل الانتقال إلى المرحلة الثالثة التي يعنونها الباحثان “المنشأ والكارثة” ويقدمان الأعمال الفنية لهذه المرحلة تحت عنوان “الفوضى والفم المفتوح”، ويخصص القسم الرابع والأخير لدراسة حضور “القدس: السرة والبقعة العمياء” والتي يصنف الباحثان الأعمال الفنية عنها بين عنواني “المدينة كمظهر للقداسة”، و “المدينة بصفة الويكيبديا”.
في الجزء الثاني من المقالة التعريفية عن الكتاب نتعرف في قسمها الأول على الفن الفلسطيني داخل فلسطين المحتلة 1948، ودور الإنتاج الفني في التعبير عن الهوية أو الموضوعات المستجدة في ظل الحياة السياسية السائدة في إسرائيل، وننتقل في القسم الثاني إلى الفن الفلسطيني المنتج في المهجر والخارج، ما يدرسه الباحثان تحت عنوان “تماسك الشتات”، ويقدمان الأعمال الفنية لهذا القسم تحت عناوين “الظل والخريطة”، و”الأرض المتصدعة”، و”الاحتمالية والتكتيك والجوهرية الاستراتيجية”. وفي القسم الثالث، وتحت عنوان “احتلال الآفاق”، نعرف بدراسة الباحثان حول انتشار الفن الفلسطيني في العقديين الأخيريين، متمثلاً بزيادة الإنتاج والمؤسسات الثقافية في الداخل، والمكانة العالمية التي احتلها الفن الفلسطيني في الإقليم والخارج. ودور الفن الفلسطيني في البيناليات والمعارض الإقليمية والدولية.
أسئلة تأريخ الفن الفلسطيني وتشكيل سرديته
ينطلق الكتاب من إشكاليات تأريخ الفن الفلسطيني وكيفية بناء سرديتها الخاصة، ويطرح الأسئلة التفكيكية لتأريخ الفن الفلسطيني ويسائل المنهجيات السائدة من خلال مناقشة كتب تأريخ الفن الفلسطيني والدراسات عن الفن الفلسطيني السابقة. ومن هنا فإن أهمية الكتاب تنبع من محاولته لإيجاد سردية تاريخية، موضوعاتية، وجغرافية للإنتاج الفني الفلسطيني، تكتب المحررة روان شرف: “يوضح الكاتبان أن مسعاهما في هذا الكتاب هو أقرب للاستقصاء والاستكشاف في حقل الفنون البصرية، من خلال تفكيك علاقات التشابك القائمة بين الفن والسياسية، ومفاهيم الأصل والقومية”.
إن المتخصص بمنهجيات تأريخ الفن عامةً، والفن الفلسطيني خاصةً، أو المهتم بالعلاقة بين تجربة القومية الفلسطينية من الناحية السياسية، الاجتماعية، والثقافية وكيفية تعبيرها عن نفسها عبر الفن، سيجد في الكتاب نقاشات دقيقة ومكثفة في هذا الخصوص، وذلك ما يركز عليه البروفيسور جوناثان هاريس: “يتجنب كتاب مخول الوقوع في هفوات التاريخ الفني المثقل بسير القداسة وتتبع المنشأ”. وفي هذا الإطار، ورغم أن الكتاب مقسم فهرسياً إلى ستة فصول، وهي تحمل اقتراحات قراءة تاريخية وجغرافية لمسيرة الفن الفلسطيني، إلا أن متن النص يعمل بآلية لماحة من نقد كل سردية يشرع في تشكيلها، كأن عملية الروي أو ابتكار السردية يتم عبر طرح كل السرديات، تفكيكها، توظيفها، ومن ثم الكشف عن قصورها.
إن مشكلة البدايات هي إحدى المشكلات التي إذا أتيح لها المجال، ستواجهنا بالشدة نفسها على المستويين العملي والنظري، (دوارد سعيد). يتصدر الكتاب مقدمة تتناول الالتباس والاختلاف، ما بين مفاهيم المنشأ أو الأصل والبدايات، كنقاط مرجعية لإيجاد سردية تاريخية معينة، مستنداً بذلك إلى تحذيرات (إدوارد سعيد)، إذ يعلن الكاتبان عن تحفظهما على الخطاب أو النظريات التي تعتمد حقبة معينة على أنها نقطة البداية للفن الفلسطيني، (روان شرف)
من الرسومات الأيقونية إلى الرسومات الوطنية التاريخية
هناك ثلاثة أسماء يذكرها الفنانون والمؤرخون الفلسطينيون بثبات كأفضل الأمثلة المعروفة لرسامين فلسطينيين نشطوا ما قبل سنة 1948، هم: نقولا الصايغ، توفيق جوهرية، دواد زلاطيمو. ويرى المؤرخ إسماعيل شموط أن ما يميز تجربتهم هو رسم الأيقونات، ورسم لوحات دينية بغير أسلوب الأيقونة، بالإضافة إلى الرسومات العلمانية: “الرسم الأيقوني يؤكد تأثرهم من حيث التقنيات والأساليب المستخدمة في عملية التشخيص، أما القفزة من تقاليد الرسم الأيقوني إلى الرسم التشخيصي العلماني كان مفاجئاً للغاية إذا ما قورنت بتاريخ الرسم في أوروبا”. ويعتبر الفنان داود زلاطيمو شخصية رئيسية انتقالية بين الرسومات الدينية والعلمانية وتطور الرسم وإنتاج الثقافة البصرية الفلسطينية ما بعد 1948. وهذا النهج الذي تبناه أيضاً الفنان مبارك سعد وهو صاحب اللوحة المعروفة التي تصور الاحتفال بدخول صلاح الدين إلى القدس: “هذا النوع من التصوير انتقل بكل سهولة إلى فن حركة التحرر في النصف الثاني من القرن العشرين، وكانت تقنية التعبير المجازي عن المقاومة الفلسطينية من خلال اللوحات التاريخية مفيدة بصورة خاصة للفلسطينيين الذين يعيشون داخل إسرائيل والأراضي المحتلة”. ما سنتلمسه في الفصل المخصص لذلك في الجزء الثاني من المقالة.
من الاستعارات التاريخية إلى البورتريه السياسي
ورغم توسع الحكم البريطاني الاستعماري والاستيطان المتنامي، يتزايد الاعتراف بدور الفنانين والحرفيين أمثال: جمال بدران، حنا مسمار، صوفي حلبي، ونهيل بشارة اللتين تميزتا برسمهما المشاهد الحضرية والمدينية وبالذات لمدينة القدس، وتختلف أعمال حلبي وبشارة عن أعمال معاصريهما كونها أخذت منحى انطباعياً وتعبيرياً في رسمها المدن والمشاهد الطبيعية، وابتعدت عن التصوير الواقعي أو الاستعارات التاريخية والوطنية. أما الفنانة زلفى السعدي فقد رسمت أيضاً الأحداث التاريخية، لكنها أسهمت في استخدام البورتريه باعتباره نوعاً جديداً من الرموز الوطنية الفلسطينية. وحقيقة أن بورتريهاتها المستوحاة من الأيقونات، والتي تتمحور حول شخصيات حية وحديثة، قد تم اشتقاقها من الصور الفوتوغرافية المعاصرة، وإن نصوصها حاكت عناوين الصحف بقدر ما حاكت الأيقونات. كذلك، كان هذا الشكل الشعبي من الثقافة البصرية موضوعاً لعمل محمد الحواجري والذي هو عبارة عن سلسلة من الصور الفوتوغرافية تحت عنوان “بيننا، 2007″، إذ قام بالتقاط صور لهذه الرسومات في سياقها في شوارع غزة. كما أنه يلفت الانتباه بصورة خاصة إلى أن هذه الرسومات غالباً ما يتم تعليقها عالياً لتتدلى من كوابل الهاتف والسقالات وتحوم فوق رؤوس الأحياء.
الحروفية النضالية
تظهر الأسلوبية الحروفية أيضاً من بدايات الفن الفلسطيني، من أبرز فناني الحروفية الفلسطينية: كمال بلاطة، فلاديمير تماري، وعيسى ديبي الذي تقوم أعماله على أساس مفاهيمي في مجال الخط العربي مبتعداً عن الاستعمال المباشر للنص. كما أن هناك استخداماً حديثاً للخط العربي ظهر مع عمل الفنان شريف واكد، في عمله بعنوان “طغرة 3، 2009” هذا العمل الحروفي يتشكل من عبارتين شائعتين يصرخ بهما جنود الاحتلال بلغة مكسرة على الفلسطينيين، “يلا روخ من هون”، و”جيب هوية”، وقد تحولتا في اللوحة إلى صورتين رمزيتين كلاسيكيتين من الخط العربي الذي يسمى ظغرة. وكأن الفنان يحاول إدخال هاتين العبارتين في التراث الثقافي البصري العربي. لقد تميز الفن الفلسطيني باستخدام النص في الفن المعاصر من خلال التركيز على الأصوات واللغة المتداولة على نقاط التفتيش الإسرائيلية، كما في عمل الفنانة روان أبو رحمة بعنوان (ظرف طارئ، 2010) والذي عرض في بينالي ليفربول على الجمهور شريط ترجمة للأصوات والحديث الدائر على نقاط التفتيش، فأمكن للجمهور أن يصغي إلى علاقات السلطة المشحونة بشدة والمعقدة التي تتجلى باللغة في التعامل على الحواجز. ويعتبر سليمان منصور من ضمن الرسامين البارزين الذين استخدموا النصوص والخط العربي في لوحاته، وقد رسم منصور الشعر بطريقة تجعل النص جزءاً لا يتجزأ من التصميم. والفنان حسني رضوان الذي أنتج كثيراً من الملصقات السياسية التي ربطت تقاليد الخطوط العربية بتصميم الغرافيك الحديث، لإنتاج ملصقات سياسية ثورية. أما الفنان جون حلقة فقدم في سلسلة بعنوان “فضاءات الرغبة، 2009” رسماً لقرى مدمرة متشكلة من خلال كلمات متكررة مطبوعة بخاتم مطاطي. وقدمت الفنانة ليلى الشوا فن الغرافيتي في عملها المتسلسل “جدران غزة 1989-2009″، باعتباره فن تخطيط على الجسد يتعامل مع الجدران كأنها نوع من الجلد.
الوثائق البيروقراطية في ابتكار العمل الفني
ومن خصوصية استخدامات النصوص في الأعمال الفنية الفلسطينية، إدماج الوثائق الرسمية مثل بطاقات الهوية الشخصية وشهادات الميلاد وتصاريح السفر، كأساس في تشكيل الأعمال الفنية التي تنتقد ببيروقراطية الهوية وحرية الحركة والتنقل: “إن نقص المواد المستعملة في الفنون في غزة، دفع بعض الفنانين الغزيين أمثال عبد الناصر عامر، أيمن عيسى إلى استخدام ما يقع تحت أيديهم، وفي الغالب تكون الوثائق البيروقراطية أو جرائد الأمس”. لكن الوثائق الرسمية أصبحت مشروعاً بارزاً في الفن الفلسطيني على المستوى الدولي في عمل بعنوان “شعب بلا دولة، ساندي هلال وأليساندرو بيتي، 2003″، وهو عمل يتكون من جوازات سفر عملاقة أقيمت ما بين الأجنحة الدولية في أثناء معرض فينيسا. وتضمن عمل “كيف تحصل على غرين كارد، خالد جرار، 2009” إنتاج وثائق ملصقات هجرة فيزا لدولة فلسطينية متخيلة، وقام الفنان في أثناء المعرض بإصدار تصاريح للهجرة، وفي سنة 2011، تابع الفنان مشروعه، وقام بتصميم الختم الذي يوضع على جوازات السفر لهذه الدولة المفترضة.
الفن والتخييل في ابتكار الدولة
ينطلق الباحثان في التمهيد لمجموعة الأعمال المتعلقة بموضوعة تخيل الأمة أو الأمة الدولة المفترضة، من كتاب “المجتمعات المتخيلة، بينيديكت أندرسون”، فيكتبان: “لقد انشغل الفن الفلسطيني المعاصر بتخيل بأشكال متعددة من تخيل الأمة. وكان ذلك يتم دائماً بقدر كبير من السخرية، كأنها تشير إلى استحالة تخيل دولة فلسطينية”. فأعمال الفنان خليل رباح تتخيل أجهزة الدولة الاقتصادية والثقافية، ومنها: “المتحف الفلسطيني للتاريخ الطبيعي والبشري، 2006″، و”الخطوط الجوية للولايات المتحدة الفلسطينية، 2007″، حيث وظف الفنان الفن المفاهيمي للنقد المؤسسي كما يتضح جلياً في جريدته المتخيلة بعنوان “تايمز الولايات المتحدة الفلسطينية، 2007”. كذلك تعمل الفنانة نور أبو عرفة على تفكيك البناء المؤسساتي في أعمالها، متناولة مفاهيم الأرشيف والمتاحف، وارتباطها بمفهوم الحقيقة والخيال لتصور الماضي في ظل غياب الأرشيف. وقد نقلت الفنانة لاريسا صنصور هذه الموضوعات إلى إطار الخيال العلمي. ففي فيلهما القصير “نزوح الفضاء، 2009” تخيلت نجاح برنامج فضاء فلسطين في الهبوط على القمر. وفي مشروعها “مبنى الدولة، 2012” تتخيل فلسطين، من خلال سلسلة من الصور الفوتوغرافية الكبيرة الحجم ومشاهد فيديو، على هيئة بناية طويلة محاطة بجدار من الخرسانة: “إنها رؤية مريرة بارعة لفلسطين، كدولة في ظل الأوضاع السياسية الراهنة”. أما الفنان بيسان أبو عيشة فقد صمم في عمله الفني “العملة المستحدثة، 2018” ورقة نقدية من إصدار مصرف متخيل أطلق عليه اسم “البنك الوطني”، ويحمل تصميم وجهي العملة رموزاً من تاريخ الحركة الوطنية الفلسطينية وشخصيات عامة اقتصادية، وهذا العمل يحمل أبعاداً تتعلق بنظام رأس المال والبنوك وسياسات الإقراض لفلسطين.
الحدود كموضوعة فنية
يستخدم الفن في هذه الأمثلة كأداة لتفعيل أشكال التحرك والاتصال التي تكون نتائجها وثائقية بصورة عامة، بينما يكون موضوعها عموماً هو الحدود أو نقاط التفتيش. في عملها “من حيث نأتي، 2001-2003” طلبت الفنانة الأمريكية الفلسطينية إميلي جاسر من ثلاثين فلسطينياً في المنفى أن يسندوا إليها مهمات لتنفذها بالنيابة عنهم في وطنهم. وكان التوثيق الناتج من ذلك ممثلاً لمدى فرض الحدود الإسرائيلية على حياة الفلسطينيين الداخلية، وفصلها لهم عن ذكرياتهم ورغباتهم الشخصية. وقد قام خالد الحوراني من خلال عمله “بيكاسو في فلسطين، 2011” بتصميم وتخطيط عملية اقتراض لوحة للفنان بابلو بيكاسو من متحف هولندا، المشروع الذي وثقه الفنان على مدى عامين ليبين الصعوبات المرافقة لمشروع دخول عمل فني عالمي إلى فلسطين. أما في عمله المعنون “مانيفستو: كل لاجئ فلسطيني في لبنان فنان، إلى أن يثبت العكس، إعلان اللاجئون الفلسطينيون في لبنان جماعة فنية، 2011)” فقد فعل الحوراني بالضبط ما ينص عليه العنوان. لقد اكتشف أن اللاجئين في لبنان ممنوعون من ممارسة كل المهن باستثناء عمل الفنانين بموجب البند 25 الخاص بالدخول والإقامة، الذي يحظر على الأجنبي غير الفنان أن يتعاطى عملاً أو مهنة في لبنان.
الفن المبتكر على الحواجز الرقابية
كذلك تحضر الحواجز الرقابية كموضوعة فنية في عمل “هل هذه أول مرة لك في غزة؟، حازم حرب، 2010″، وهو عبارة عن فيديو وصور فوتوغرافية تعيد تجربة مراقبة الحدود الإسرائيلية في غزة، يستعمل هذا العمل الصوت بصورة خاصة، من خلال التحديات الدائمة والأوامر والأسئلة التي يصرخ بها الحراس. لكن الأعمال التركيبية عند باسل عباس وروان أبو رحمة، ومنها “ظرف طارئ، 2010″، “المنطقة، 2011″، فهي تستخدم تسجيلات صوتية حقيقة من حاجز قلنديا. ويستخدم خالد جرار في سلسلة الصور الفوتوغرافية “عبور، 2008″، “فيديو الرحلة 110، 2009″، صوراً وثائقية التقطها في نفق تم حفره للوصول إلى القدس لتجاوز العوائق والموانع التي تفرضها إسرائيل على الطرق والحدود. وتركز سميرة بدران في عملها “تمتع بإقامة سعيدة، 2009” على سياسات الحركة والقيود وعدم القدرة على التنقل: “فهي تعكس حالة الخناق وتحولها إلى حالة رهاب الاحتجاز عند المتلقي أمام التجهيز الفني الذي يعبره”. وتحضر أيضاً سلسلة من أعمال الفيديو التي تصور رحلات الفنانين/ات الشخصية إلى أماكن مختلفة، موثقين صعوبة التنقل والحركة، منها “الحلم بالبحر، إيناس ياسين، 2006″، “تهريب الليمون، جومانة عبود، 2006″، “عبور سرادا، إميلي جاسر، 2002″، “أمون حابو، إيمان أبو حميد، 2001-2005” والذي يوثق رحلة إعادة رفات جدة الفنانة لدفنها في مكان مولدها في عكا.
بشاعة الجدار المحفزة للمخيلة الفنية
وضمن إطار العلاقة مع المكان والحدود يمكن إضافة الأعمال الفنية المتعلقة بجدار الفصل العنصري، ومنها عمل بعنوان “المستوطنة: ستة إسرائيليين وفلسطيني واحد، ستيف سابيلا، 2010” الذي يصور الإسرائيليين والفلسطيني بالملابس الداخلية أمام الجدار، ليبين استحالة التمييز في الجنسية للشخصيات المصور عند الجدار. أما الفنان مجد عبد الحميد فقد قام برش الحروف المكونة لإعلان الاستقلال الفلسطيني على الجانب الغربي من جزء الجدار بين رام الله والقدس.
الصمت المفروض على الفلسطيني
في الفصل الثاني المعنون “المنشأ والكارثة”، يركز الباجثان على مجموعة من الأعمال الفنية التي تتمحور حول الصمت المفروض على الفلسطينيين كجماعة مرغوب بإخفائها أو قمعها. أبرز الأعمال في هذا المجال: “الرصاص المصبوب، ليلى الشوا، 2011” الذي اختارت فيه الفنانة وجه امرأة منتحبة، وقد تم اقتطاع وجه المرأة من كاميرات المراقبة الأمنية، وهي تصرخ لحظة القبض عليها في محاولة للتسلل عبر حاجز إيريز إلى إسرائيل. وقامت الشوا بتركيب وجه المرأة الصارخة على خلفية فوضى من الدمى المنصهرة والركام، تعبيراً عن أجساد الأطفال المحترقة بفعل القصف. وفي السنة نفسها، تقدم الفنانة عملاً آخراً بعنوان “الصرخة، 2011″، استخدمت فيه الصورة نفسها معكوسة ومكررة بلقطات مقربة مقصوصة للفم المفتوح الذي يمثل صمت الرعب الذي لا يوصف بالكلمات. وفي فيديو للفنانة منى حاطوم بعنوان “هناك الكثير لأقوله، 1983″، تعيق يدان ذكوريتان فم الفنانة التي ما أن تحرر فمها للحديث، حتى تكرر عنوان العمل الفني ذاته، عاجزة عن نطق غير ذلك.
القدس من رمز القداسة إلى الفن الديجتالي
في الفصل الثالث، وتحت عنوان (القدس: السرة والبقعة العمياء) يدرس الكاتبان توظيف القدس كموقع مادي ومتخيل ورمز جوهري يساهم في تكريس الأساطير، إذ تختزل تمثيلات المدينة في الفن مفاهيم الهوية القومية لتثبيت مخيلة المنشأ من حيث الزمان والمكان، ومقاربة لإشكالية علاقة هذه التخيلات مع السرديات الدينية”، ويكتب مخول: “إن التعامل مع القدس كمكان للأوهام والهلوسة ليس أمرأ جديداً، ففي كل عام، يتم تشخيص متلازمة القدس لدى أعداد من زوارها، إذ يسيطر عليهم بشكل مؤقت شكل من أشكال الذهان الوهم. وكان هذا جزئياً هو التفكير وراء اختيار (جاك برسكيان ونينا مونتمان) عبارة (متلازمة القدس) عنواناً للمعرض السنوي الذي تنظمه مؤسسة المعمل في القدس “على أبواب الجنة، نسخة 2009”. ما يمكن تلمس في لوحة مثل “التضحية، بشير السنوار، 2003” والتي تصور الفلسطيني يحمل رأسه بين يديه، بينما يحمل في تجويف داخل صدره قبة الصخرة في مكان القلب: “يصور السنوار حميمية العلاقة ووحدتها ما بين الجسد والوطن من خلال وضع القدس في القلب، وبالتالي رفع رمزية المدينة إلى المكانة العضوية الفيزيائية الملموسة”.
تتعدد الأعمال الفنية الفلسطينية المتعلقة بالقدس، لكن المعالجة الفنية الأكثر طليعية والمتعلقة بهذه الموضوعة تعود إلى العمل الفني “المدينة بصفة ويكي، شروق حرب، 2010”. لقد فتنت الفنانة بحقيقة أن المدينة لها العديد من الأسماء، ولا سيما كيفية وصف هذه الأسماء في موقع ويكيبيديا الذي كان سنة إنتاج العمل الفني قد سجل 12 اسماً للقدس يمكن كتابتها باللغة العربية. فتعاونت الفنانة مع الخطاط مصطفى جعفر لكتابة الأسماء الإثني عشر بخط النسخ التقليدي المعياري، ثم قامت بمعالجتها بتطبيق مبادئ الكتابة التناسبية متتبعة نظام النقاط. فظهرت الكلمات مثل رسوم مخططات حضرية عالية التنظيم، لا تختلف عن خطط بناء المستعمرات الإسرائيلية. وفي عمله “الطريق إلى القدس، 2009″، يضعنا الفنان خالد حوراني أمام بلاطة من السيراميك المتواجد في طرقات القدس، مكتوب عليها بالعربية (القدس) وبالإنكليزية (JERUSALEM) وأسفلها (00 k m) في تلاعب ساخر على تعدد الأسماء في الإشارة إلى المكان الجغرافي الواحد. وفي عمل فيديو “من سجلات فنادق للمبيت والإفطار، ألكسندرا حنظل، 2008″، تضع الفنانة نفسها في مكان سائحة اختارت الإقامة بأحد فنادق المبيت مع إفطار في حي المصرارة. وكان هذا الحي حزءاً من المدينة الفلسطينية، وهذه المنازل المخصصة للسياحة، كانت في يوم من الأيام بيوتاً لفلسطينيين مهجرين يتم تسويقها الآن من جانب ملاكها الإسرائيليين بأنها تقدم “تجربة أصلية” في القدس: “ينطوي هذا العمل على عدة مستويات من الكوميديا السوداء، ليس أقلها التجربة الاستعمارية الأصلية حقاً والعفوية التي تقدمها الإقامة بمنازل فلسطينيين، تم الاستيلاء عليها بطريقة غير قانونية: “يخاطب فيلم ألكسندرا حنظل مباشرة الحالة المؤلمة والغريبة الناجمة عن حقيقة أن تكون غريباً في بيتك، فالاغتراب إلى حد ما يندمج في تجارب أنواع الإقامة بفنادق المبيت جميعها مع إفطار، حيث يكون فيها الشخص ضيفاً بالأجرة في بيت شخص آخر، وفي كثير من الأحيان كلما زاد السعي لتوفير “الجو البيتي” زاد إمكان أن تكون التجربة فظيعة. وفي هذه الحالة، نجد مستويات إضافية من المفارقة الساخرة المؤلمة وهي عندما تكون مقدسية مهجرة ضيفة بالأجرة لدى من احتل بيوت مقدسيين آخرين مهجرين”.
تمثلات الهوية في الإنتاج الفني الفلسطيني داخل إسرائيل
يتناول الفصل الرابع الإنتاج الفني البصري في فلسطين المحتلة سنة 1948، في وصف الفلسطينيين الذين يعيشون ويعملون في إسرائيل، على أنهم “أمة داخل أمة” كما يراها الكاتبان. وفي هذا السياق تعرض الأعمال الفنية تعقيدات القومية الفلسطينية داخل إسرائيل. فالفن لعب دوراً أساسياً في التعبير عن الهوية والثقافة بالنسبة لما أطلق عليهم لقب عرب إسرائيل، لذلك نجد الفنانين الفلسطينيين في الداخل الاسرائيلي قد تمسكوا أيضاً برسم الأحداث التاريخية والرموز الوطنية الثقافية مثل اللوحات العديدة التي تناولت شخصية صلاح الدين، وأعمال الفنان فتحي غبن الذي قام بتوظيف رمزية الحصان في العديد من أعماله، لإضفاء مضامين المعاناة والتصدي والشموخ، كما استخدم الفنان أسد عزي صورة الفارس كفكرة زخرفية من الفن الفلسطيني.
لكن العمل الذي لابد من التوقف عنه، هو النصب التذكاري الذي يحمل عنوان “يوم الأرض” في سخنين، 1978، والذي جاء بناءاً على طلب الحزب الشيوعي من الفنان عبد عابدي على تحقيق نصب تذكاري لشهداء يوم الأرض في قرية سخنين. وقد دعا عابدي الفنان اليهودي الإسرائيلي غيرشون كنيسبل للتعاون معه في هذا المشروع: “وقد أصبح هذا النصب الذي شيد بعد عامين، الضريح الفلسطيني الذي يتحد من حوله المجتمع المتصور للأمة الفلسطينية لإحياء ذكرى الأموات سنوياً. ومن المهم أيضاً أن النصب التذكاري قد صمم بالتعاون مع فنان يهودي إسرائيلي، الأمر الذي جعل موقع الشهادة مكاناً للوحدة الوطنية الفلسطينية داخل إسرائيل بواسطة عمل تعاوني ثنائي القومية. حتى إن هذا النصب يحتوي على لوحة تحمل بياناً عن التعايش العربي واليهودي، وهو أول نصب وطني فلسطيني داخل إسرائيل. ولم يظهر أي بيان للتعايش مثل هذا النصب من حيث كونه أول نصب وطني فلسطيني داخل إسرائيل، ولكونه أيضاً آخر نصب يحتفي بالتعايش، يؤهله ليكون أحد أهم المعالم في أية دولة مستقبلية ثنائية القومية”.
الهويات المتشككة والساخرة
ويرى الباحثان أن أعمال الفنان أسد عزي، بالنسبة إلى سيرته الذاتية، تنقل احتمالية الهوية أكثر مما يمثلها معظم الآخرين: “ففي كثير من الأحيان يكون موضوعة عمله نوعاً من البورتريه الشخصي الذي يكون أحياناً مباشراً في رسم وجهه وجسمه، وأحياناً أكثر تورية من خلال استخدام الذاكرة وموضوعات السيرة الذاتية، وطوال حياته العملية، كانت فكرة الذات وصورتها لديه متعددة وغير محددة”. وقد كتب الكثير عن تعدد هويات عزي في حياته وأعماله (داميانوفيتش 1998، أنكوري 2006)، وكذلك عن تركيبته الثقافية والفنية المهجنة (بلاطة، 2000) والتي تعتبر بحد ذاتها نوعاً من الانشقاق السياسي لمواطن اسرائيلي. تكتب جيميجوي لا بيللي عن تعدد الهويات عند عزي بكونه رفضاً للهوية: “لم يكن من المستغرب أنه بعد فترات كان عزي انقسم فيها بشكل مندفع إلى ذوات عديدة متغايرة، أو ابتكر سلسلة من الذات المزدوجة، قد بدأ بتصور نفسه كنوع من الخواء”. ويربطه النقاد بفكرة (دريدا) عن العلاقة بين الأنقاض والبورتريه الذاتي عندما يذهب انشغال الفنان بعيداً نحو منشأ العمل الفني.
ومن الفنانين المعاصرين الذين يقدم عملهم مثال للمفارقة الساخرة السياسية بإمتياز للفن الفلسطيني في إسرائيل، هو الفنان (شريف واكد). في (Chic Point، 2003) فيديو يصور عارضين ذكوراً على منصة عروض أزياء يعرضون ملابس مصممة لكي يرتديها الرجال الفلسطينيون على نقاط التفتيش الإسرائيلية، وقد تم تكييفها من الملابس الرجالية العادية لتكشف بطونهم العارية. يوجه هذا العمل بشكل مباشر الهاجس الأمني لدى الإسرائيليين، والخوف من الجسد العربي الذكوري. وفي عمل آخر بعنوان “Beace Brocess، 2010″، يتناول واكد عملية السلام من خلال اللعب البصري على اللقطة التاريخية التي دخل فيها أيهود باراك وياسر عرفات إلى صالة مفاوضات السلام. وتلعب الفنانة نسرين نجار بمصطلحات عملية السلام بسخرية تهكمية في عملها بعنوان “الطريق 443، 2010″، وهو عبارة عن تركيب نحتي كبير مستمداً عنوانه من الطريق الإسرائيلية السيئة السمعة. ويبدو هذا التجهيز مثل لعبة غريبة وضخمة الحجم على شكل مضمار سباق تم حشرها في المعرض، بحيث ترتفع وتنخفض بشكل عشوائي تشكل مسارات طرقية متقطعة، صعود كتلة زفت سوداء بشكل حلزوني، تقاطعها كتلة أخرى تعقد المسارات الطرقية، وتنتهي المنحنيات الطرقية للدخول في جدار، العمل لا يخلو من حس الفكاهة النابعة من مرارة تشكل المكان من عدة طرق ومنحنيات لا تؤدي إلى مكان ولا تتجه إلى وجهة. إنه المكان المركب بعبثية هندسية والذي يعبر عن رؤية الفلسطيني في إسرائيل للمكان من حوله، ورؤيته لطريق السلام.
مفاهيم المكان، الرحيل، الهجرة
ضمن إطار مفهوم الشتات أيضاً، تحضر الأعمال الفنية التي تتناول الرحيل، النزوح، والمنفى. كما في أعمال الفنانة إميلي جاسر التي هو نتاج تمفصل للحدود والاختلافات بين الفلسطينيين من جهة الخارج ومن جهة الداخل. ويصور عمل الفنان عيسى ديبي بعنوان “نوماد متنقل، 2007” أسراباً من الطيور المهاجرة التي تظهر في آن واحد ككتلة جماعية متحركة وكسحابة من الذرات، ليعالج موضوع التهجير المتجذر في أعمال عيسى ديبي، إذ أنتج أعمالاً مثل “بيت الأحلام، 1999” وهو تركيب على هيئة منزل من الشجر مبني فوق سور متحف حيفا للفنون، وهو عبارة عن نسخة معمارية من منازل المستوطنين. أما الفنان بشار الحروب فيستعمل الزجاج المهشم في عمله بعنوان “أرض الألماس، 2014” للتعبير عن البنية اللاهيكلية للشتات: “وفي هذا العمل يعرض الفنان كومة من الزجاج المهشم أمام حائط تظهر عليه خريطة أوسلو مركبة من قطع الزجاج المكسر، كأن كومة الزجاج على الأرض هي كل ما فقد من أرض فلسطين”
المواد المتنوعة في التعبير عن النزوح
وأقامت الفنانة فيرا تماري روابط بين الوسيط الذي تستخدمه، وهو التراب حرفياً، وفكرة وطنها كحقيقة مادية. ففي عملها “حكاية شجرة، 2002” قامت تماري باستخدام السيراميك بتشكيل مئات أشجار الزيتون في إشارة إلى الأشجار المقتلعة من قبل المستوطنين. وتنقل الفنانة “ميرفت عيسى” أعمال الخزف نحو مجازات شعرية، ففي عملها “صفورية، 2002” قامت بوضع أكياس من الخزف جنباً إلى جنب مع صورة فوتوغرافية لقرية برعم المهجورة. وهذه الأكياس، تمثل البقج، أي الأكياس التي تحتوي على أثمن الأملاك، أو الأغراض الضرورة التي كانت كل ما استطاع القرويون المبعدون أخذه معهم عند مغادرة القرية. ويستعمل الفنان إياد صباح الطين في عمله “تهالك، 2014” للتعبير عن حالة التهالك والانهيار للمجتمع الفلسطيني في غزة إبان الغزو، من خلال سلسلة من المجسمات الطينية تمثل مجموعات من الناس في مسار رحيل وتبدو عليهم علامات التعب والإرهاق. وقد قام الفنان بعرض الأعمال التي تعيد رسم مشهد نزوح الفلسطينيين.
الحكايات الشعبية في تشكيل العمل الفني
أدرجت الفنانة جمانة عبود تجربتها الشخصية للتعبير عن التهجير داخل عملها الفني، ويعتبر الباحثان أن: “منهجها مثال جيد للجوانب المولدة من الشتات على المستوى البنيوي للإنتاج الفني من حيث إن أفكار التهجير والتشرذم حاضرة فيه كموضوع وشكل وأسلوب. وكذلك فإن موضوع العودة يعاود الظهور في عملها بطرق مثيرة للانتباه بصورة خاصة”. يتجلى ذلك في أعمال الفيديو بعنوان “العودة، 2002” والذي تترك الفنانة فيه أثراً ممتداً من الخبز على طول الطريق، على غرار “هانسل وغريتل في حكايات الأخوين غريم”. وفي فيديو آخر بعنوان “الرمان، 2005” تحاول الفنانة أن تعيد بذور الرمان مرة أخرى في قشرة الفاكهة: “هذه الأفعال المنوطة بالفشل، والذي تحاول استعادة حكاية نهر هيراقيليطس، لا تقوم بها الفنانة تقوم بنوع من التفاؤل، بل بشعور من المأساة”. واستعلمت الفنانة جمانة عبود الحكايات الشعبية الفلسطينية في أعمالها “رحلة الليل، 2011″، و”يا حوت لا توكل قمرنا، 2011” كلا هذين العملين يستخدم الحكايات الشعبية الفلسطينية بطريقة مكثفة، ولا سيما العمل الأخير الذي يصور أطفالاً على خشبة مسرح يؤدون حكايات شعبية فلسطينية إلى جانب لقطات فيديو: “فالفنانة من خلال توجيه عملها نحو أنماط من السردية، لا تبحث فقط عن أصول وهوية ثقافية في القصص التقليدية، بل تتعرف أيضاً على الإمكانات المولدة في صميم استحالة العودة، من خلال هذه الإيابات وإعادة تخيلات هذه القصص التي يُعنى الكثير منها بالأصول وبطريقة أو بأخرى. تبين الفنانة أنه بالإمكان التلاعب بالروايات بلا حدود، لكن لا يمكن التلاعب بوقت روايتها، وإن استحالة العودة تقبع في صميم الرواية الزمني، لكن شيئاً ينتج عن عملية روايتها. إن استخدام الحكايات الشعبية الفلسطينية يعني أكثر من مجرد البحث عن الهوية في التقاليد، فهو مهتم بدرجة أكبر بعمليات السردية وما ينتج في الحاضر من خلال إعادة رواية قصص الماضي”. ومن الأمثلة الجيدة على استعمال الحكايات الشعبية عمل بعنوان “أبي” للفنان تيسير بركات، والذي يعود للعام 1997، والذي استعاد فيه صندوق أدراج قديم من دائرة الهجرة الصهيونية في فترة الانتداب. وبدلاً من وثائق الهجرة، تم تحويل الأدراج إلى أرضية لرواية تصويرية عن حياة والد بركات، بما في ذلك التهجير القسري. ويقدم الفنان عبد الرحمن قطناني في عمله “سنعود بعد ستة أيام إن شاء الله، 2011″، صورة مألوفة من الفن الفلسطيني من منتصف القرن العشرين إلى أواخره: “يشير العنوان الساخر إلى حقيقة أن شيئاً لم يتغير بالنسبة للاجئين، فالأيام الستة أصبحت ستة عقود، وهو ما يجعل موضوعة العمل معاصرة، ويجسد تفاؤل اللاجئين الأوائل الذي كان محتوماً بالفشل، إلا أن النضال من أجل حق العودة لا يزال مستمراً”.
معالجة مفاهيمية جديدة للرموز الوطنية
كما تحضر الرموز الوطنية في التعبير عن الهوية الوطنية في فلسطين واسرائيل، يستعيد الجيل الجديد من الفنانين الرموز الوطنية للتعبير عن موضوعات الهجرة واللجوء. وتبدو شجرة الزيتون المثال الأكثر وضوحاً في عمل “تطعيم النبات، خليل رباح، 1995″، عندما زرع الفنان أشجار زيتون من فلسطين في حديقة الأمم المتحدة في جنيف، كمعالجة فنية لكثير من موضوعات الهوية والتهجير والتجذر. وفي سلسلة رباح الفوتوغرافية “بلا عنوان، 2001” يظهر فيها الفنان وهو يقلد شجرة زيتون، كتبت عنه الناقدة (أنكوري) باعتباره تماهي الفنان رباح مع الشجرة: “ففي صور الأداء تلك، يرتدي رباح قميصاً ناصع البياض بظلال بحيث يبدو في كل تفصيل فناناً حضرياً تائهاً في الريف، وهو يؤدي وقفات سخيفة أمام الكاميرا في تقليد لشجرة زيتون كبيرة ومعمرة. وهذا يذكرنا أكثر بالمحاكاة الساخرة لبروس ماكلين لأوضاع المنحوتات والفن في المتاحف في بداية السبعينيات من القرن الماضي”. وفي عمله بعنوان “مشروع ثانوي، 2011” يشكل الفنان رباح من وسائط متعددة طائرة ركاب ضخمة على شكل قطاع غزة، وعلى متنها مزرعة مرفقة بمرفق للتصنيع الغذائي لإنتاج رب البندورة ومربى الفراولة، يكتب عنه الباحثان: “عنوان هذا المشروع غامض، يشكك فيما يمكن أو لا يمكن أن يعتبر منتجاً حقيقياً ومنتجاً ثانوياً. كما أن لهذا المشروع دلالات مثيرة للاهتمام عند تطبيقه على فكرة فلسطين باعتبارها أمة يمكن النظر إليها كمنتج ثانوي للصراع، أو حتى ما هو أكثر إشكالية، كمنتج ثانوي للاستعمار الصهيوني. فكلما ازداد إنتاج إسرائيل من خلال الآلة الإيديولوجية القومية، يزداد إنتاج فلسطين أيضاً، ويبدو أن الآلة نفسها التي تنتج رب البندورة تنتج أيضاً مربى الفراولة”.
الفن الفلسطيني وانتشار الآفاق العالمي
يتطرق الباحثان في الفصل السادس التغييرات التي طرأت على حقل الفنون البصرية في فلسطين، في العقدين الماضيين، والتي تتمثل برأي المحررة روان شرف: “في زيادة الإنتاج وفي تطور البنى التحتية الثقافية في الداخل الفلسطيني، وزيادة حضور الفن الفلسطيني على المستوى العالمي، خصوصاً مع تضخم مكانة الفن المعاصر في مدن عربية، وتحديداً في الخليج وهو ما أتاح منصات للعرض والتقديم، وفرص أوسع للإنتاج”. بينما يرى الباحثان أن تعرض الفلسطينيون للتجريد داخل قضية سياسية عالميةً، جعلهم من أكثر الشعوب تسييساً في العالم، والحديث عن الفن السياسي مع الفنانين الفلسطينيين غالباً ما يكون بديهياً. وفي سياق كهذا، يمكن أن تكون قراءة لوحة لصبار في أصيص كما لو كانت أطروحة قومية، كما نرى في لوحات كريم أبو شقرة مثلاً)، ولعل الفنانين الفلسطينيين الشباب كانت لديهم ميزة على القوميات الأخرى، إذ أنهم نشأوا في ظل مستوى من الحكمة السياسية وفهم لعلاقات القوة، الأمر الذي يعدهم بشكل أفضل لعالم الفن الدولي وديناميكياته. وخاصة مع أولئك الفنانين الذين ولدوا في الشتات وشكلوا مرجعيات هوياتية متعددة. ينطبق هذا الأمر على الفنان مروان رشماوي المولود في بيروت، والي غالباً ما تتناول أعماله ثيمات التخطيط الحضري والتاريخ الاجتماعي، فقد أعاد في سلسلة بعنوان “الأونروا” إنتاج خرائط تمثل الواقع المعاش في مخيمات اللاجئين الفلسطينيين في لبنان باستخدام أكياس الاسمنت والأرز والسكر، والتي جميعها مواد يصعب الوصول إليها في المخيمات. وفي عمله “بيروت كاوتشوك، 2008” أنتج خارطة بيروت على شكل سجادة أرضية مطاطية سوداء كبيرة، منقوشة بدقة لتستعرض التفاصيل المدينية وحدود الأحياء التي تعكس التكوين المادي والاجتماعي الانقسامات الطبقية والطائفية والأيديولوجية.
لقد تمكنت بعض التجارب الفنية الفلسطينية أن تشكل لها جمهوراً عالمياً، يقف الباحثان عند تجربة الفنان تيسير بطنيجي التي شهدت مشاركات عالمية عديدة في البيناليات والمعارض: “على الرغم من حضور البعد الفلسطيني في أعماله، واستلهامه من تجربته الشخصية، فإنها تبتعد عن الخطاب السياسي التقليدي وتسعى للمساءلة في مفاهيم وهواجس تتعلق بالغياب والحضور، الوجود واللا وجود، المرئي واللا مرئي، كما تتناول العلاقة مع المكان، وفي الغالب تتسم بعدم الثبات والهشاشة”. وكذلك تجربة الفنانين الغزيين طرزان وعرب اللذين يجسدان أفضل الأمثلة لطبيعة التعقيدات في الفن الفلسطيني المعاصر في السياق المعولم، والبراعة الرائعة للجيل الجديد من الفنانين. وهما توأمان (أحمد ومحمد أبو ناصر) والعمل الذي عرفا به هو سلسلة من ملصقات الأفلام، وشريط دعائي طويل لأفلام خيالية، تبدو أنها من أنواع الإثارة والحرب الهوليودية، لكن عناوينها، مثل “الرصاص المصبوب، أمطار الصيف، غيوم الخريف، الدرع الواقي” مأخوذة من العمليات العسكرية الإسرائيلية: “لقد عرف هذا العمل على مستوى عالمي، ودخل الفنانان من خلاله حقلاً رسمياً جديداً من خلال توليفة من الاحتمالات المحلية والسياق المعولم لتوزيع الأفلام واستهلاكها. ويبدو أن أسماء الحملات العسكرية نفسها جرى استيحاؤها من الأفلام وألعاب الكومبيوتر. ومن هنا فإن لدينا حالة لفنانين فلسطينيين يافعين لم يتمكنا من مغادرة غزة قط، إلا أنهما استطاعا استخدام خصوصية قومتيهما أوضاعهما المحلية في وسائل الإعلام المعولم وشبكة الفن المعاصر”.
ويتوقف الباحثان عند مجموعة من الفعاليات، المعارض الفنية التي شكلت الروابط بين الفن الفلسطيني والفن العالمي مثل مشروع “بيكاسو في فلسطين”، المعرض السنوي “على أبواب الجنة، مؤسسة المعمل في القدس”، “على أبواب القدس، 2008″، “تحيا القدس، 2017”. كما شكل محفل قلنديا الدولي، الذي انطلق سنة 2012، حدث فني واسع النطاق يتبنى نمط البيناليات العالمية، ليصبح مهمة لتقديم أشكال الإنتاج المعاصر. فقدم على سبيل المثال عمل الفنانة منال محاميد، بعنوان “حيفا كركوك، 2016” وهو عمل تركيبي على شكل نصب وسط في القاعة الرئيسية من المعرض، يتألف من كومة من راميل النقط التي استخدمنها البريطانيون لتصدير النفط في عهد الانتداب وعرضت عليها صورة قديمة من ميناء حيفا، في إشارة إلى التاريخ الاستعماري والصناعي للمدينة، وهو امتداد لمشروع متسلسل عملت عليه الفنانة يوظف البراميل المعدنية الضخمة كعنصر أساسي في عملها التركيبي.