الطفولة المُزمنة تحت الرأسماليّة في “لعبة الحبّار”

حنين عودة الله

كاتبة فلسطينية

اللحظة الثانية، لحظة الرعب "الأخلاقيّ"، عندما يصل أوّل صوت يعارض إيقاف اللعبة بأصوات الأغلبيّة، بعد استعراض الخنزير المحشوّ بالملايين. في تلك اللحظة يتجلّى انحصار كل المنظومات الاجتماعيّة تحت مظلّة الرأسماليّة، بما فيها المنظومة الأخلاقيّة وقيم "الخير" و"الشرّ".

...للكاتب/ة

اشتراكك بنشرتنا البريدية سيحمل جديدنا إليك كل أسبوع

الأكثر قراءة

الصحافة الثقافية وما نناضل من أجله
أين نحن في السير قدما...
عشرة أفلام عظيمة عن المافيا (ترجمة)
10 أفلام تشويق إيروتيكية رائعة (ترجمة)

من أجل صحافة ثقافية فلسطينية متخصصة ومستقلة

15/10/2021

تصوير: اسماء الغول

حنين عودة الله

كاتبة فلسطينية

حنين عودة الله

مهتمة بمجالات التحليل الثقافي والفلسفة والسينما والثقافة الشعبية والبديلة. حاصلة على شهادة الماجستير في التحليل الثقافي المقارن من جامعة أمستردام. مخرجة سينمائية.

“عادة ما يظهر الأطفال  في خمسة تجسيدات: كتجسيد للخير في الإنسانيّة، كالفئة التي تعاني وتتألّم، كروّاد للحقيقة، كسفراء للسّلام، وكتجسيد للمستقبل.” – ليزا مالكي

بينما تجتاح ثيمات الدّيستوبيا الإنتاجات الثقافيّة التي تنبئ بالمستقبل المظلم الذي تجرّنا إليه الرأسماليّة، يكشف لنا المسلسل الكوريّ “لعبة الحبّار” عن فظاعة ورعب انحسار عمليّة نضج الإنسان في النظام الرأسماليّ، أو ما يمكن تسميته بالتأثير النكوصيّ للرأسماليّة على عمليّة إنتاج الفرد. فبدل أن تدفع المنظومة الفرد (بشكل تقدميّ) نحو حالة من النضج؛ تطوير نوع من الاستقلاليّة والمسؤوليّة العقليّة والأخلاقيّة والاجتماعيّة، تمارس الرأسماليّة ما يعرف ب”الاستطفال” (infantilization) وهو إطار نكوصيّ يعيد الفرد دائما إلى حالة من الانغماس في الذات. يقول بنجامين باربر في وصف هذه العمليّة: “تشكّل الرأسماليّة تنظيماتها حول “الاستطفال” أي حول صفات مثل اللهو، الاندفاعيّة، الاستهلاك، الإحساس والسرعة (مثل الوجبات السريعة)… التي تجسّد سلوك الأطفال” (باربر).

تدفع الرأسماليّة الفرد للبقاء في طوْر “النمو” المتّسم بالاندفاعيّة نحو الرغبات (أو النظم الواقعيّ، أي مرحلة ما قبل التعرّف على الذات ككيان مُكتمل (عند لاكان)، فتنتج نظاما يحثّ على ضرورة الإشباع الدائم للرغبات وسيلةً للإشباع الوجوديّ. وتضع نفسها كالمرآة (لاكان) الوحيدة التي يستطيع الفرد من خلالها التعرّف على كيانه المكتمل. فتقدّم العمل والإنتاجيّة كمقاييس للاستقلاليّة والسلطة على الذات وكمنظومة تحدّد وتشرّط العلاقات الاجتماعيّة والأداء الأخلاقيّ في المجتمع، فيصير صراع البقاء بموجبها مشروطا بالعمل والربح والخسارة الفرديّة في إطار المنافسة الطفوليّة أو البربريّة.

 في المحصلة، تنتج الرأسماليّة مجتمعا موسوما بالهشاشة ومؤهّلا للاستغلال والتصارع على الامتيازات. 

لا يصوّر المسلسل، شبه-الديستوبيّ، “لعبة الحبّار” مستقبلاً بعيدًا يتراكم فيه الاستغلال واللامساواة لإنتاج نسخة بربريّة من الإنسان والعالم، بل يستعرض بصورة فجّة ما تمارسه الرأسماليّة في عصرنا الحاليّ، من استطفال (infantilization) للمجتمع ، بحيث تخضعه لحالة من الطفولة الدائمة والبربريّة معاً: ينحصر صراع البقاء في لعبة أطفال بدائيّة نتيجتها موت المئات؛ الجميع ماعدا الرابح. هكذا يقدّم “لعبة الحبّار” تمثيلات الثنايا الجهنميّة للمجتمع الرأسماليّ الحديث، لترعب جماهير “نتفلكس” الاستهلاكيّة ونقّاد الرأسماليّة على حد سواء. في المسلسل يتنافس مئات اللاعبين الغارقين في الديون للفوز في سلسلة من ألعاب الأطفال، تصل قيمة جائزتها الكبرى إلى ثمانٍ وثلاثين مليون دولار يغتنمها من  يجتاز كل الألعاب ويبقى حيّاً. حيث يقتل اللاعب الذي يفشل في إتمام التحديات، التي تعتمد على الحظّ والمصادفة كما على أداء اللاعب وقدراته الجسديّة والعقليّة في اجتياز اللعبة أو الموت محاولاً. للّعبة ثلاث قواعدٍ فقط: اللاعب الذي يفشل، يُصفّى. اللاعب الذي يرفض المشاركة في اللعبة، يصفّى. إيقاف اللعبة مشروط بموافقة الأغلبيّة. والقاعدة الأخيرة هي أن موت/فشل كل لاعب يعني إضافة مليون دولار إلى حصّالة كبيرة—خنزيريّة الشكل—تعلّق عليها أحلامهم فوق أسرّتهم المكدسّة في قاعة نوم مشتركة. 

“يعد البالغون الأطفال بأن التضحيات المؤلمة التي يتطلّبها الانخراط الاجتماعيّ ستثمر بشروعهم في عملية النضج الغامضة؛ وهي ألغاز يتوقون لمشاركتها، لكن الشروع فيها وحده يحقّق الإشباع المرجوّ” (كونل)

يرى “كونل” في قراءة “لأدورنو” أنّ النضج أو التمتّع بالسلطة على الذات ما هو إلّا  وعد غامض بعيد المدى، تعطيه المنظومة الاجتماعيّة للأطفال الذين يكبحون رغباتهم المطلقة بما تقتضيه المنظومة، حيث تعدهم بأن الإشباع الحقيقيّ لذواتهم ورغباتها يأتي مع النضج نفسه، أي يأتي بالتزامهم بالأعراف والسلوكيّات الاجتماعيّة المقبولة. أداؤهم وحده يشعل النضج فيهم، فالنّضوج ليس له وقت محدّد لكنّه لن يأتي دون الالتزام بشروط المنظومة. هكذا تماما، تضع “لعبة الحبّار” اللاعبين أمام تحدّيات طفوليّة، كحفر الأشكال في كعكة السكّر بشرط عدم  كسرها (أو كالحصول على وظيفة في العالم غير المجازيّ) تحدّيات خاضعة لمنطق الاستحقاق الرأسماليّ (meritocracy) والذي بموجبه يتحمّل اللاعب وحده مسؤوليّة إتمام اللعبة (أو الحصول على الوظيفة وأدائها في عالمنا) بغض النظر عن العوامل التي قد تجعل بعض اللاعبين مؤهّلين “للرّبح” أكثر من غيرهم، ويصبح العجز عن الأداء أو سوء الأداء مسؤوليّة الفرد التي تقصيه من المنافسة كنوع من العقاب. هذا يجعل اللاعب الذي يتمتّع بقدرات جسديّة وعقليّة أكبر أكثر جدارة في اللعبة، فنلاحظ في المسلسل كيف ينفر اللاعبون من التحالف مع النساء والعجزة (ويقابلها في العالم الرأسماليّ القدرة على العمل لساعات أطول دون معيقات جسديّة واجتماعيّة مثلا). نلاحظ أيضا عرض شخصيّات الإناث على أنّها مخادعة واستغلاليّة تحتال لسلب الذكور الأكثر كفاءة ثمرة جهودهم. وهذه إشارة إلى تكريس النظام للتمييز الجنسيّ. ففي النهاية، عندما يكافأ اللاعبون الثلاثة المرشّحون للعبة النهائيّة بعشاء “فاخر”، يرتدي ثلاثتهم (بمن فيهم الأنثى) بدلات توكسيدو المعروفة بأنها “للرجال”، فاللاعبة الأنثى التي اجتازت الألعاب وتفوّقت على غيرها  تعامل كـ”رجل”. و”الطريف” أنّها خلال العشاء كانت تعاني من نزيف في رحمها (أسفل بطنها) جرّاء إصابة عرضية؛ انفجار لم يُصب المرشحيْن النهائيّيْن الآخريْن سوى بخدوش طفيفة، كناية عن هشاشة الأنثى أو إنتاجيّتها المنقوصة بحكم الطبيعة (العادة الشهريّة مثلا)، لذلك “تستحقّ” أنّ يصفّيها أحد اللاعبيْن الآخريْن، لأنّها “كانت ستموت على أيّ حال”.
 

يتطرّق المسلسل إلى تقاطعات أخرى مثل تقاطع الرأسماليّة والعرق، فالرجل الأكثر بنيّة أو الأقلّ بياضا؛ الرجل الباكستانيّ “المعاق” (علي، مبتور الإصبع) مستطفَل من الرأسماليّة ومن غيره من اللاعبين بسبب عرقه  فينادي جميع الغرباء بـ “سيّدي”. ويقدَّم على أنّه الأكثر “براءة” وصاحب القلب الأكثر “بياضا” لكنّ لونه وعرقه يبيح استغلاله من غيره من اللاعبين، مثلا يفوز هو في لعبة البلي لكن اللاعب المنافس يخدعه ويسرق فوزه ويتركه ليصفّى. بصورة معاكسة يظهر اللاعبون الفلبينيّون (المهاجرون) “أطفالا سيّئين” يثيرون المتاعب، فيخلقهم النظام كال”شرّير” في اللعبة الذي ينتظر الجميع تصفيته قبل غيره. وتظهر تقاطعات الاستحقاق والعنصريّة العرقيّة والجنسيّة أيضا في  تقديم النخبة أو ال”الأشخاص المهمّين جدا”(VIPS) كرجال بيض أثرياء يلهون في ديكور الغابة التي يطلى فيها الخدم بألوان الحيوانات وينحنون كطاولة يمد النخبة أرجلهم عليها أحيانا. يتقنّع النخبة بأقنعة حيوانات كريستاليّة باهظة؛ فإن كانت لعبة الحبّار حفلة دمويّة لتعرية الواقع، يتقنّع صنّاع هذا الواقع العاري لأنّه في “الواقع” لا يمكننا تمييز المتورّطين في ترسيخ النظام بل يظهرون كسائر الأفراد (كحيوانات مثلنا)، لكنّ المسلسل يدعونا لتمييزهم من أقنعتهم الباهظة (حياتهم الفارهة). “نجد في الأطفال آثارا وبذوراً لما سيصبح يوما تركيبة نفسيّة سويّة، لكن الطفل بالكاد يختلف في تركيبته النفسيّة عن الحيوان” (بيرجر). يرى جون بيرجر أن الحالة الحيوانيّة أو الحيوانات هي أيضا حالة من الطفولة، الجميع أطفال في اللعبة: رجال، شيوخ، نساء، بيض، سود، بنّيين… مع فارق الإنتاجيّة. هكذا تحدد إنتاجيّة الفرد في النظام جائزته أو عقابه، تماما كما يحدّد سلوك الطفل جائزته وعقابه. وهكذا يصبح الفشل موتاً في النظام. وتصبح “المسؤوليّة” نفسها مرعبة. يقدّم المسلسل فظاعة أو رعب هذا الاستطفال في ثلاث لحظات أساسيّة:

اللحظة الأولى، لحظة الرعب “الدراميّ”، عندما يدرك اللاعبون لأول مرّة في لعبة “ضوء أحمر- ضوء أخضر” أن الفشل في اللعبة يعني الموت، أي أنّ الخيارات المطروحة  هي الاستمرار في اللعبة/ الفوز أو الفناء. وهذا يعيدنا إلى الرأسماليّة التي تطرح نفسها على أنها الخيار الوحيد القابل للتطبيق (أي الشروع في المنافسة). بالإضافة إلى أن الأداء وحده يحدّد مصير الفرد سواء كان الفوز أو الخسارة، ربح الملايين أو الموت. وهذا يرتبط بعمليّة النضج الغامضة، التي تدفع التنشئة الاجتماعيّة الأطفال نحوها، حيث أنها تجعلهم يهذّبون أنفسهم ويكبحون غرائزهم ورغباتهم من أجل وعد النضج—المجهول بحد ذاته. 

اللحظة الثانية، لحظة الرعب “الأخلاقيّ”، عندما يصل أوّل صوت يعارض إيقاف اللعبة بأصوات الأغلبيّة، بعد استعراض الخنزير المحشوّ بالملايين. في تلك اللحظة يتجلّى انحصار كل المنظومات الاجتماعيّة تحت مظلّة الرأسماليّة، بما فيها المنظومة الأخلاقيّة وقيم “الخير” و”الشرّ”. الصوت الذي يختار مواصلة اللعب، يختار نظامًا سيودي بحياة الآخرين لا محالة. هكذا يصبح فعل “الخير” غير ممكن بالمنطق الرأسماليّ. يصبح أيّ فعل لا ينادي بإيقاف اللعب/النظام فعلاً عنيفاً بالضرورة. نظام الاستحقاق (الربح/الخسارة) في النظام الرأسماليّ يستبدل المنظومة الأخلاقيّة (الخير/الشر). الحقيقة تحدّدها معايير “الآخر الكبير” (لاكان) أي النظام الموضعي للأخلاقيّات والقيم. بالتالي بمنطق الربح والخسارة والاستحقاق، تقتضي أخلاقيّات اللعبة مثلا الاستمرار في المنافسة حتى يربح المستحقّون، وحقّ اللاعب في المشاركة هو مسؤوليّته على حياته حتى لو كان خروجه منها مشروطا بموافقة الأغلبيّة على الخروج أيضاً؛ أي أنّ “شرّ” المنافسة على اللاعبين خير لاستمرارية النظام وبالتالي هو “الخير” أو-الطريق إلى- “النضج”. بالإضافة إلى ذلك، يتفكّك في هذه اللحظة وهم الديموقراطيّة التي تعد بها الرأسماليّة، فالنّظام لا يطرح خيارات معادية للنظام، واللاعبون الذين يوقفون اللعبة، يعودون إليها لأن اللعبة لم تنتهِ بخروجهم، أو أنهم لم يخرجوا منها حقّا عندما أوقفوها، بل إن عودتهم كانت للشقّ الآخر من اللعبة، والذي يقتل فيه الفرد بشكل بطيء وأقل صراحة في القواعد. وتظهر منظومة الدين أو الإيمان (منظومة “الخير والشرّ”) بصورة كاريكاتوريّة؛ يستهزئ اللاعبون بالرجل الذي يصلّي في داخل اللعبة حيث لا سلطة إلّا لإله المال، ويركلونه من على الجسر الزجاجيّ إلى الهاوية في اللحظة التي يتحول فيها لعقبة تحول بينهم وبين الجائزة. 

اللحظة الثالثة كانت لحظة الرعب” الوجودي” عندما يقدّم “هيكل” اللعبة الثانية بعد إقرار اللاعبين باستكمال اللعبة. عندما يصل اللاعبون إلى ملعب أطفال ضخم يحوي أرجوحة ومنزلقات فائقة الحجم، يرتمي اللاعبون في الفراغ وعلى الألعاب الفائقة لإتمام تحدّي اللعبة الثانية، التي يتبيّن أنها غير متعلّقة بهذه المنشآت، لكنّ وجودها هناك يجعلها صرحيّة (monumentality) عابرة لحالة الطفولة، فتشكّل اللاعبين كأفراد في فراغيّة الرأسمالية. حيث أن فشل أو تصفية اللاعب بعد هذا المرحلة، لا ينفذّه النظام مباشرة، بل اللاعبون بأنفسهم على أنفسهم. هكذا يسحبون بعضهم للهلاك في لعبة شدّ الحبل، يسلبون بعضهم البلي في لعبة البلي (الكرات الزجاجيّة) ويقفزون إلى هلاكهم في لعبة جسر الزجاج. من الجدير بالذكر أنّ إدخال البلي إلى اللعبة التي تتلو لعبة شدّ الحبل التي تعتمد على الفرق الجماعيّة، يلمّح إلى دخول النقود إلى لعبة الحياة؛ شرط اجتياز لعبة البلي بسيط: افعلوا ما يحلو لكم، الفائز هو الذي يستولي على كرات منافسه. فنجد منهم من يلعب بنزاهة، منهم من يسرق، يخدع أو يستسلم لينجو منافسه في حالات نادرة… لكنّ جميع الفائزين يأخذون نصيب غيرهم ليربحوا، وهم “يخترعون” الألعاب التي ستيسّر ذلك بأنفسهم (كالوظائف والسرقة والاختلاس والنصب). الأراجيح والمنزلقات والهياكل الضخمة غير المستعملة في الملعب الثاني تشكّل صروحاً للمتعة الموعودة، والتي تفوق الجائزة الكبرى بمجرّد الفوز وتخطّي المخاطر، بل بالمشاركة نفسها (التي لا تُربح إلّا الفتات كما في لعبة البلي الذي لا يحقّق ربحه في اللعبة سوى تصفية المنافس واستمرار المنافسة).  

بالفعل، يقترح “لعبة الحبّار” ثلاث فراغات حياتيّة في ظلّ الرأسمالية: السكن؛ وهو هيكل مؤقت من السقالات التي تحمل الأسرّة، حيث ينام اللاعبون ويأكلون ويتصارعون ليقصوا (يقتلوا) بعضهم بسبب الموارد الشحيحة. الملعب؛ حيث يقصي اللاعبون بعضهم وأنفسهم بإتمام اللعبة  أو المهمّة. ما بين هذين الفراغين هو متاهات النظام (البيروقراطيّة، الاجتماعيّة، الهيكليّة) أي متاهات الأدراج الصاعدة والهابطة وغرف التحكم، والتي تطلى بلونيْن؛ الأخضر وهو لون بدلات اللاعبين الذي يذكّر بلون النقود (الدولار) في الثقافة الشعبيّة (لون الموارد الخصبة)، واللون الأحمر/الزهريّ الغامق وهو لون بدلات عمّال اللعبة الذي يذكّر بالدماء، لون السلطة والقوّة (والذي يقابل اللون الأخضر في عجلة الألوان). ويعطى الموت حالة لامكانيّة، حيث يغطّى الحدث بمشهديّة استطفاليّة (زهريّة الغلاف)، متمثّلة بوضع الموتى في علب هدايا وسحبهم من ساحة المنافسة إلى وجهة غامضة، لكن “التغليف” يبقيها مطمئنة، والحقيقة أنّ النظام لا يتّسع للفشلة—للموتى في هذه الحالة، فيحرقون إلى رماد.
 

أمّا سرقة أعضاء الموتى والتجارة فيها يتناولها “لعبة الحبّار”  مثالا على محاولة “الغشّ” أو تحقيق الأرباح داخل النظام بالتآمر على النظام، فيصفّى فيها المتآمرون؛ الفاسدون من العمّال (الذين يلبسون أقنعة برتب إشارات وحدة التّحكم في البلايستيشن أي يظهرون كأدوات تحكّم) ويصفّى اللاعبون الغشّاشون المتعاونون معهم (الغش مسموح إذا لم يكن ضدّ النظام). لكنهم لا يحالون إلى اللامكانية، بل يعلّقون كالقطعة المفهومة (الصريحة) الوحيدة في متاهات السيستم والتي يشدّد خلفها الصوت على مصير المتآمرين على النظام. وتذكّر التركيبة اللي تعلّق فيها جثث المتآمرين بالألعاب التي تعلّق فوق أسرة الرضّع التي تعمل كمهدّئات (pacifiers) وكألعاب تعليميّة لتطوير وعي الرضيع بالأشكال وعادة ما تكون مصحوبة بالموسيقى، من أجل تعويد الرضيع على العالم من حوله.

أما الفراغ الثالث فهو غير متاح لأغلب لللاعبين، حيث تقعد الأقليّة الثريّة من النخبة، الفائزون الحقيقيّون في لعبة الرأسماليّة، للاستمتاع بالملذّات المطلقة، وأحدها مشاهدة الأغلبيّة تصارع على حياتها في اللعبة. فراغ للنّاضجين؛ الذين تصبح مشاركتهم في اللعبة مشهديّة نرجسيّة. لهذا يأتي إفشاء أنّ الرجل العجوز، اللاعب رقم واحد، هو صاحب اللعبة تأكيدًا على زيف المساواة التي يعتقد بها في نظام الاستحقاق. قد يشاهد النخبة اللعبة وقد يشاركون فيها، لكنّهم لا يواجهون خطر التصفية، لأنهم يفرضون ديناميكيّة اللعبة، فهم قصص النّجاح أو تجسيد لوعد الجائزة ولحياة الفائز، تحصيل المتعة الفائقة التي لا يتصوّر الأغلبيّة وجودها، والتي أُثمرها “شروعهم في عملية النضج”؛ بالمنافسة. هكذا نرى كيف يقرضهم الربح/المال قوة؛ نضجاً يتيح لهم اختيار جوائزهم بأنفسهم بينما يعفون من العقاب لأنهم “ال” فائزون. رغبة الثريّ العجوز في التمتّع بملذّات حالة الطفولة بصورة حقيقيّة قبل أن يقضي عليه المرض في رأسه (والتي لم تعد متاحة بسبب “نضجه” كممارسة ألعاب الطفولة مع “أطفال” جادّين مثلاً) تدفعه لتصميم العالم (وبناء اللعبة) بحيث يدور حول إشباع رغبته والانخراط -المشروط- فيه.

لهذا يركّز المسلسل على “الذكريات” المشتركة بين العجوز وبقيّة اللاعبين؛ كصندوق الغداء المزيّن، الألعاب، شلّة الطفولة… لأنّ الماضي، حالة الطفولة القمعيّة، هي الأرض المشتركة بينهم فعلاً،  بينما بإمكان النخبة تخطي هذه المرحلة فقط على حساب بقاء الأغلبيّة عالقين فيها حتى الموت. يدرك الرابح، جي-هيون، أنّ النضج الموعود لن يتحقّق بالربح، فالثمن سيكون موت منافسه (سانغ-وو) والذي هو أيضا شريك ذكريات “طفولته” الذي “لعب” معه لعبة الحبّار مرارا. بل إنّ جي-هيون، الذي جعلته اللعبة يفقد إيمانه ب”الخير” فتحوّل مثلا من مناصر لللاعب العجوز في اللعبة إلى المنافس الذي يسلبه حياته فيها، يدرك في النهاية، أنّ النضج يأتي بتطوّر حسّ المسؤوليّة الاجتماعيّة، إنقاذ رفيقه من التصفية. لكنّه لا يجد نداءا بالخلاص، لأن منافسه الأخير سانغ-وو عالق في اللعبة،  لا يرى سوى هلاكه القادم—فشله في اللعبة، فينتحر بالسكّين التي قدّمتها اللعبة ليُقتَل بها. وهكذا يحرم جي-هيون من صوت لإيقاف اللعبة. لا يستطيع جي-هيون، بطل اللعبة، سوى أن يربح لأنّ القواعد تقتضي ذلك؛ أي تفرض عليه وجودا محايثا للواقع. 

عندما يربح جي-هيون يكتشف حقيقة اللعبة؛ يتحقّق كونه رابحا بإيمانه بـ “الخير” الإنسانيّ، في لعبة خارجيّة ارتجاليّة أخيرة مع الرجل العجوز الذي يكشف له أنه هو مهندس اللعبة، ويبرر ذلك “لهيون” بأن العالم كله خاضع لمنطق اللعبة، ويتحداه بسؤاله إن كان لا يزال يؤمن بالخير، وليثبت له انعدام الخير يراهنه على أن الناس سيتركون المتسوّل يموت على حافّة الطريق دون مساعدته. يقبل جي-هيون المشاركة في هذه اللعبة الأخيرة  ويراهن على حس المسؤوليّة الأخلاقيّة والاجتماعيّة عند الإنسان، ويربح الرهان. ويموت العجوز، مصمم اللعبة. عندها يتصرّف جي-هيون كرابح/ناضج فعلا ويصرف لأول مرّة من مال الجائزة (ويصبغ شعره بالأحمر-بلون السلطة والقوّة). وكجزء من نضجه الجديد يتصرف بمسؤوليّة تجاه من يعرفهم فيعطي أمّ سانغ-وو مالا وابنا جديدا (أخو منافسته التي قتلها سانغ وو في اللعبة). وبينما يمشي البطل نحو الحلّ الدراميّ (زيارة ابنته في أمريكا-مسؤوليته الأخلاقيّة)، يعيده مشهد رجل يُصفَع على وجهه بدلا عن خسارته في لعبة* (بنفس الطريقة التي استُقطِب فيها هو إلى اللعبة الدمويّة). في تلك اللحظة، يدرك جي-هيون أنّ النضج/المسؤوليّة الأخلاقيّة لن تتحقّق بأعمال خيريّة صغيرة (مثل مساعدة الجارة أم سانغ-وو) ما دامت اللعبة مستمرّة. هنا تتحول العلاقة بين المسلسل وشخصياته وبين المشاهدين. فالعمل يسلبنا الحلّ الدراميّ، ويعيد نظرنا ليركّز على اللعبة؛ على الرعب في استطفالنا كما أعاد جي-هيون. هذا هو نداء الخلاص الذي يقدّمه العمل؛ أنّ نثق بمخاوفنا في ظلّ نظام الاستطفال. فبينما نشاهد رعب الواقع في بيئة تجاريّة لطيفة (نتفلكس مثلا) لتشبع فينا رغبة الخلاص دون المواجهة الحقيقية مع هذه المخاوف التي يرسّخها النظام، يطلب منا المسلسل أن نتمسّك بهذه المخاوف بدل أنّ نهرب منها، بل أن نرى حالتنا المستَطفَلة والمرعَبة في جميع “منافسينا” (مثل جي-هيون). ف”الرعب” أقوى تأثيرا على الأطفال، والنضج الحقيقيّ، هو المواجهة الحقيقيّة لهذه المخاوف. 

 

مراجع

Adrian, Johnston. “Jacques Lacan.” The Stanford Encyclopedia of Philosophy, Metaphysics Research Lab, Stanford University, 2018.
Barber, Benjamin. “Challenges to the Common Good in the Age of Globalism.” Social Education, vol. 64, no. 1, 2000, pp. 8-13.
Berger, John. About Looking. Vintage, 1992.
Connell, Matt. “Childhood experience and the image of utopia.” Radical Philosophy, no. 99, 2000.
Malkki, Liisa. The Need to Help: The Domestic Arts of International Humanitarianism. Duke University Press, 2015.

هوامش

موضوعات

الأكثر قراءة

عشرة أفلام عظيمة عن المافيا (ترجمة)
10 أفلام تشويق إيروتيكية رائعة (ترجمة)
أين نحن في السير قدما...
الصحافة الثقافية وما نناضل من أجله

GOOGLE AD

نكـتـب لفلسطين

اشتراكك بنشرتنا البريدية سيحمل جديدنا إليك كل أسبوع

اختيارات المحرر

من أجل صحافة ثقافية فلسطينية متخصصة ومستقلة

اشتراكك بنشرتنا البريدية سيحمل جديدنا إليك كل أسبوع