يتكرّر لديّ إحساس بشيء غير سويّ في أفلام “القصّة الفلسطينيّة”؛ الأفلام التي تصوّر قصّة من واقع الكارثة الفلسطينيّة. ينتابني هذا الإحساس عادة عند الانتقال من الصراع إلى الحلّ، حيث تأتي النهاية على شكل تسوية مفاجئة، بين الفلسطينيّ والظروف المحيطة (البيئة)، تتيح للقصّة حلّا بصريّا-دراميّا، لكنّها تترك شعورا بأنّ هناك شيء مفقود أو ثغرة في تسلسل السرد. في فيلم “الهديّة” (فرح نابلسي 2020) مثلا، يمنع جنود الاحتلال عبور ثلّاجة الفلسطينيّ الجديدة إلى “الضفّة الأخرى” من البلاد بسبب حجمها الفائق الذي لا یمرّ من خلال بوابة التفتيش على الحاجز “الإسرائيليّ”، ولكنّ النهاية تقدّم الحلّ على شكل عبور غير متوقّع وغير إشكاليّ للثلّاجة من الطريق المخصّص لسيّارات المستوطنين. يتكرّر هذا السلوك الدراميّ في كثير من الأفلام الفلسطينيّة؛ فالثلاجّة تمرّ، والأسير المعزول عن زوجته ينجب الأطفال (فيلم “بنبونة”، راكان مياسي)، والأحفاد يعبرون الحاجز من الضفّة الغربيّة رغم إغلاقه لزيارة جدّهم (“العبور”، أمين نايفة)… وما إلى ذلك من حلول لا يجدها الفلسطينيّ على أرض الواقع عادة.
هذه التسوية في الظروف البيئيّة التي تحدث في بيئة الفيلم (إيجاد طريق جديد يتّسع للثلّاجة مثلا أو كسر في زجاج السجن لتهريب السائل المنوي للأسير)، أقرب إلى فانتازيا أو حلول خياليّة مرجوّة يقدّمها الفيلم كوسيط لحلّ الصراع، لكنّها غالبا تفتقد في سياق كارثة مثل الاحتلال إلى ظروف بيئيّة تتيح تحقّقها. فقوانين الاحتلال لا تزال تمنع عبور الثلّاجات وتعزل الأسرى مثلا. وهذا يدلّ على تقصير معيّن أو عدم توافق بين جوهر الفيلم، بصفته وسيط يقدّم استمراريّة بصريّة تتقدّم نحو الحلّ، وبين السرديّة الفلسطينيّة مقطوعة الحلول نتيجة الكارثة الفائقة والمستمرّة. أي أنّ الكارثة تمسّ أيضا علاقة جوهريّة بين السرديّة وقدرة الفيلم على تصويرها. فما الذي يترتّب على حلول الكارثة؟
تخرّب الكارثة جميع علاقاتنا الفراغيّة-المكانيّة والزمنيّة. فإن كان وجودنا الإنسانيّ مبنيّا على تشكيل بيئتنا وعلاقاتنا معها على نسق معيّن، فإنّ الكارثة تعبث باستمراريّة ھذه التجربة، وتحدث انقطاعا في النسيج الزمنيّ، ما بين الماضي والحاضر، فيصبح تسلسل أحداث حياتنا وإدراكنا لها كلّه معرّفا بعلاقته مع واقعة الكارثة، أي ما قبلها وما بعدها. ینعكس ھذا الانقطاع على شكل فراغ أو انسحاب للعنصر التراثيّ في التجربة الإنسانیّة، أي تعطيل تناقلھا عبر الأجيال وخلالها (intragenerations). هذا الفراغ، يخلق حالة من استحالة تصوير التجربة بعدما فقدت تماسكا جوھریّا في الكارثة، فيصبح إظهار التجربة باللغة والتعبير إشكاليًّا.
يبلور الكاتب والمنظّر جلال توفیق ھذا الانقطاع في مفھوم “عقب الكارثة الفائقة” فیكتب “إنّ مسألة معرفة ما إذا كانت الكارثة فائقة…، لا یمكن حسمھا من خلال عدد الموتى والمصابين، أو من خلال حدّة الصدمات النفسیّة أو حجم الأضرار المادیّة، بل بالأحرى من خلال مصادفتنا أم عدم مصادفتنا، في سیاقھا، لعوارض عن انسحاب التراث”. يتحدث توفيق عن انسحاب القدرة على التعاطي مع الإرث الإنسانيّ في المجتمعات التي عانت كارثة فائقة، ومن ضمنه الإرث الثقافيّ واللغويّ. وھو انسحاب لا مادي، فبالرغم من الوجود الماديّ لبعض النصوص، المباني، الأفلام والأعمال الموسیقیّة وما إلى ذلك… عقب الكارثة الفائقة، لا زلنا نشهد انسحاب هذا الإرث، لأنّ عملیّة التوارث عند المجتمعات التي عاشت الكارثة الفائقة قُطعت قطعا حادا، خلق ثغرة في منطق تناول المجتمعات للتراث.
فالذاكرة والمعنى كتجربة تواصلیّة، تضمن استمراریّة العلاقة مع تلك النصوص، الأفلام، السردیّات أو المفاهيم والمعاني الإنسانيّة المتوارثة مثلا، فُقدت في الحاضر، الذي أضحى يختلف عن ذاته (ھامل). آثار الكارثة الفائقة، كالموتى والمصابين وتفكّك معاني كالوطن، المجتمع، الأخلاق والإيمان وغيرها… لا تجد مكانها في بيئة الحاضر. فهي على حدّ تعبير الباحثة السينمائيّة غادة الصايغ “آثار تتعدّى حدود إدراك الوعي لها”. أي أنّ خراب تلك العلاقات البیئیّة (إثر الكارثة) يؤدي إلى “انكفاء” أو انصراف التراث إلى موضع غیر معرّف في بیئة ما بعد الكارثة، فيجعلنا نتساءل: كيف نتعامل مع الإرث الإنساني الموجود بعدما تزعزعت التجربة بصورة عنيفة وقطعت العلاقات معه في نقطة زمنیّة معيّنة؟
“مثل هذا الشقّ في الزمن التاريخيّ، والذي يولِّدُ انقطاعاً في التجربة وكذلك أزمةً في التصوير، يرتبطُ بشكلٍ أكثر تحديداً، وفق جلال توفيق، بما يسمّيه 'الكارثة الفائقة”. غادة الصايغ
وصف المفكّرون عبر الزمن ھذا الانقطاع بأنّه يسبّب إشكاليّة في التصوير، سادت عقب الكوارث عبر التاريخ. فمثلا يتحدّث سوندي عن كتابة الشعر بعد كارثة معسكر الإبادة النازيّة في أوشفيتز، فيكتب عن تصريح أدورنو بأنّ الكارثة ولّدت أزمة في التصوير الشعريّ على شكل حظر جماليّ: “بعد أوشفيتز، لم يعد بإمكاننا أن نكتب القصائد”. ومن ثمّ عن إعادة تشكّل هذه الأزمة: “بعد أوشفيتز، لا يمكننا أن نصوغ الشعر إلا بموجب أوشفيتز” (غادة الصایغ). لهذا يؤكّد جلال توفیق على دور الفن بالذات في كشف ھذا الانسحاب وبعث ھذا التراث أي إعادة موضعته في التجربة الإنسانيّة بعد صدمة الانقطاع.
أما القصّة “الفلسطینیّة” فتعرّف بأنّھا الكارثة بحد ذاتھا، فتسمّى النكبة. والكارثة الفلسطینیّة لا تأتي على شكل حدث أو واقعة واحدة بل ھي كارثة مستمرّة ولّدت انقطاعا مزمنا في التجربة الإنسانيّة، فراغ تتقارب وتقع عنده محاولات تصویر التجربة الفلسطینیّة. فـ “التجربة الفلسطينيّة” لم تختفِ من التصويرات المختلفة عقب الكارثة، لكنها مشروطة بانسحابها أو بعلاقة مستمرّة معه في التصوير. فتلك العلاقة تفرض عليها أسئلة شرعیّة عن كیفیّة إحياء مفهوم “الفلسطیني” في السرد؛ ھل نستنسخ قصّته من الكارثة كما شاھدناھا في الأخبار أو شبكات التواصل أو الشارع، لإحياء العلاقة مع الماضي الفلسطینيّ ما قبل الكارثة؟ وكيف نحيي تلك العلاقة في ظلّ الكارثة الممتدّة وكلّيّة الوجود؟
بشكل عام، نلاحظ تجاهل أفلام “القصّة الفلسطینیّة” لھذه الإشكالیّات في التصویر، فتستغلّ قدرة الوسیط الصوريّ على الربط الزمنيّ، لتفادي التعامل مع “التراوما الشكلیّة” التي تخضع لها السردیّة الفلسطینیّة. أي أنّ عدم قدرتنا على إدراك آثار الكارثة ينعكس بعدم قدرتنا على استعمال شكل الفيلم الدراميّ لتصوير التجربة فعلا. فمن تلك الآثار في فيلم “الهديّة” مثلا؛ أنّ الثلّاجة الجدیدة المعبّأة بالطعام الجیّد والتي استحضرت لتستبدل الثلّاجة المعطّلة (أو الخربانة) من الضفة الأخرى للبلاد، لن تعبر إلى البیت بسبب حجمها الفائق الذي لا يمرّ من بوابة التفتيش. وفي فیلم “العبور” لن یعبر الإخوة الثلاثة الحاجز “الإسرائیليّ” لزیارة جدھم في الجانب الآخر بسبب “ھویّتهم الخضراء” التي تمنعهم من دخول الأراضي المحتلة عام 1948. وفي فیلم “بنبونة” لن یعبر الأسير الفلسطینيّ/سائله المنوي من الجانب الآخر لزجاج السجن إلى زوجته لینجب طفلته/طفله معها. ربما في “الفيلم” كما شاهدناه -وبطريقة فانتازيّة ما- یعبر ھؤلاء، لكنھم في السردیّة الفلسطینیّة غالبا لا يعبرون.
إذا عاینّا الظروف التي یعبر فیها ھؤلاء نجدھا تعتمد على “محاسن الصدف”، أو على علاقات بیئیّة سویّة خالية من الفراغات (من النقاط التي يشتّ فيها الحلّ الدراميّ عن السرديّة الفلسطينيّة). فيختزل الفيلم الكارثة بخلل في أمور “تقنيّة”: قسوة الجنود، الحواجز، عزل السجون… إلخ. بينما هناك ثغرات في هذه التقنيّات؛ فمثلا طريق سيّارات المستوطنين الذي يتّسع لمرور الثلّاجة، بقايا ضمير إنسانيّ لدى الجنود الذي يسمح بمرور الإخوة، ثغرة في زجاج السجن التي يمرّر من خلالها السائل المنوي للسجين. وكأنّ بيئة الفيلم، وليس بيئة الفلسطينيّ، هي التي تطرح إمكانيّة العلاقة السويّة بين الفلسطينيّ والبيئة المحيطة، بالتالي إمكانيّة العبور. كذلك تلقي هذه الظروف والثغرات بالحبكة في أمل المستقبل الأفضل، في جیل قادم سوف “یعبر” ھذه الكارثة ويجد علاقة سويّة مع معطيات البيئة المنكوبة. هكذا نجد الابنة الصغيرة تجرّ الثلّاجة (رغم حجمها وثقلها) عبر المسلك الآخر (المفتوح والمخصّص لسیّارات الإسرائیلیّین فقط)، أو زوجة السجين تتمكّن من تخصيب نفسها قبل نفاد الوقت لتنجب الطفل، وهو الذي يعبر حالة الأسر. أما في العبور فيعبر الإخوة، ورغم أنّ جدّهم الذي كانوا قد خرجوا لرؤيته توفي قبل وصولهم، فإنّهم يعبرون إلى أراضيه وينتهي الفيلم بعبورهم. أي أنّ الفيلم يؤجّل الحلّ السرديّ إلى بيئة ما بعد الانسحاب أو بيئة استعاد فيها الحلّ، دون أن يشير إلى وقوع مثل ذلك الانسحاب. فيصبح الفيلم وسيطا يتيح التنقل الزمنيّ بين ما قبل الكارثة وما بعدها فيما هو ينفي وقوعها، باستمراريّته نحو الحلّ البصريّ-الدراميّ، وتجاهله انسحاب أو انعدام مثل هذا الحلّ في إطار السرديّة الفلسطينيّة. فالعبور الوحيد (الاستمراريّة الوحيدة) الذي تضمنه بيئة الكارثة/الاحتلال هو إلى السجن/الموت/الوراء، إلى لحظة كارثيّة أخرى، وبالتالي تصبح مثل هذه الأفلام أو التصويرات للتجربة “التي تجاوزت الكارثة” أقرب إلى الخيال من الواقع.
هذا الحلّ، البصريّ-الدراميّ، يقرأه الباحث السينمائي بوريس كطريقة لتجسيد الفكرة الفلسطينيّة على أرض الواقع السينمائيّ. والفكرة الفلسطينيّة عند بوريس هي تخطّي الفلسطينيين مرحلة الكارثة، بحسب تصوّر إدوارد سعيد. فيصفها بوريس بأنّها عودة متخيّلة (فانتازيا) لما هو في الواقع ممنوع/مكبوت بسبب “تقنيّات” الاحتلال، لكنّه موجود وممكن. لذلك يرى بوريس في الأفلام الفلسطينيّة هذه القدرة على الإحياء الخياليّ لما هو غير متجسّد على أرض الواقع. فالخيال فعلا فعل طموح بالضرورة، لكنّنا قد نتسائل هنا أيضا: هل نطمح بخيالنا الجمعي لكارثة ألطف أو واقع أقلّ قسوة أم نطمح لاسترداد التجربة السويّة انطلاقا من أنّ تجربتنا تعجّ بفراغات الكارثة؟
لا يتناول بوريس الفانتازيا بتوجّه نقديّ. فذاك الخيال تجاوز السرديّة الفلسطينيّة الواقعيّة بتصادمه معها، أو وقوعه في فراغها الناتج عن الكارثة. مثل تلك الحلول التي تقدّمها الأفلام الفلسطينيّة تشعر المشاهد بركاكة ما أو تهرّب، يجعله يتساءل: لماذا لم يحطّم الجنود الثلّاجة أمامنا كما يفعلون، كيف لم يلاحظوا حركات الإغراء التي قدمتها الزوجة للأسير، وكيف لم يشعر الفلسطينيّ بمثل هذا الخطر قادم إذا تصرّف هو كما وأنّ الكارثة غير موجودة؟ فتبقى مثل تلك الحلول الفانتازيّة تمثيلا لما هو مرغوب رغما عن انقطاع التجربة في نقاط ما. فنشعر بأنّ تلك التصويرات تتغاضى عن انسحاب محتوم، حلقة ناقصة في التجربة والخيال الجمعيّ الفلسطينيّ (القدرة على التصوّر). أي أننا نشعر بأنّ “الفيلم” كوسيط غير متاح لتصوير القصّة الفلسطينيّة، لكونه يتطلب حلّا دراميّا لا تستطيع السرديّة الفلسطينيّة تقديمه.
هنا قد نتسائل عما يترتب شكليّاً على العمل الفلسطينيّ والفيلم بالتحديد إذا ما عمل على تصوير مثل هذا الانسحاب وإعادة موضعة التراث، كالقدرة على استعمال السرد السينمائيّ، وبعث الخيال الجمعيّ الفلسطينيّ في الأطر الرمزيّة (في أطر العلاقات البيئيّة) والتي قطعت في الكارثة، أي إعادة إحياء التجربة السرديّة في سياق انسحاب التجربة التواصليّة.
لعلّ في فیلم “المختبر” (لاریسا صنصور وسورن لیند، 2019) محاولة جديرة بالاهتمام، لتجاوز ھذا التحدّي، إذ یصوّر التجربة الفلسطینیّة كما ھي فعلا؛ كارثة “بیئیّة” دمّرت المدينة والحياة. يدور الفیلم حول حوار بین امرأتین من جیلین مختلفين؛ الأول شهد العالم ما قبل الكارثة والذي يحتضر الآن، والثاني جاء في إثرھا محمّلا بذكريات الجيل السابق عمّا كان قبلھا، ومهمّة إعادة إنشاء المدینة (أو التجربة الفلسطینیّة) كما كانت قبل الكارثة. فقد انسحب جیل ما قبل الكارثة للحیاة تحت الأرض بعدما سمّمت ودمّرت كارثة بیئیّة (فیضان من مادة سوداء سامّة) المدینة والأرض، ودفعته للرحيل عنها إلى باطنها.
فیصوّر الفیلم انسحاب تواصل التجربة الفلسطینیّة مع التجربة الإنسانیّة عامّة والتي تشكِّل الأرض موقعها التلقائيّ، بجرّ التجربة الفلسطینیّة بأكملها عقب الكارثة إلى مساحة ھامشیّة (ملجأ تحت الأرض). ینسحب جیل الكارثة إلى هناك حیث يرقبون انجلاء الكارثة البیئیّة فيما هم ینبِّتون تحت الأرض بساتین من الحیاة “الطبیعیّة” (أشجار الزيتون وغیرھا والأجيال البشریّة القادمة) على النحو الذي كانت عليه قبل الكارثة. أي أنّ التجربة الفلسطینیّة تتحوّل إلى مساحة مختبریّة لبناء المستقبل خارج وعاء البیئة الطبیعیّة له (في مساحة مؤقتة تحت الأرض، على خلاف سطحها مثلا الذي يشكّل المساحة الطبیعیّة التي تنشأ عليها التجربة الإنسانيّة عادة). اسم الفيلم بالانجليزيّة “In vitro” يشير إلى العملیّات الحیویّة التي يتم اختبارھا خارج جسم الكائن الحيّ.
فكارثة المادّة السوداء السامّة ھذه غلّفت “الأرض”، وخلّفت وراءھا الخراب على السطح والدمار الشامل للبیئة بحيث لم تعد قادرة على استيعاب “الأشكال الحیّة” فرحلوا عنها. وانسحاب الأرض كبيئة، تحت غلاف من المادّة السوداء، من “حياة” المجتمع البشريّ خلّف وراءه جسما كرویّا أسودا كبیرا يحاكي “كوكب الأرض”، يرقد في إحدى مساحات الملجأ الذي يقطنه البشر الراحلون تحت الأرض، أي أنّهم يحملون معهم صورة الأرض التي أصابتها الكارثة أو صورة الكارثة بذاتها. فیظھر هذا الجسم في الفیلم عقب الكارثة وفي كلّ مرّة یترتّب على امرأة الجیل الثاني اليافعة مواجھة الجيل الأول المتمثّل بالعجوز وماضیھا وذكریاتھا، ويصاحب بداية كلّ حوار عن محاولات إحياء المدینةالتجربة على صورة الماضي كما شهدته العجوز.
ھذا الجسم الأسود غیر المفھوم أو غير القابل للإدراك الذي قد یمثّل انقطاع التجربة الإنسانیّة على الأرض، أو انسحاب القدرة على تصوّر العلاقة مع الأرض، يبقى ملازما للمجتمع الذي عاش الكارثة، ولا یمكن أن یصوّر إلاّ باستعارة فیزیائیّة عن الجسم أو الفراغ الذي يتوقّف فيه الزمن ويُمتصّ فيه كلّ شيء أي الثقب الأسود. فنشاھد الصبيّة تقترب منه في بداية الفيلم عندما تستدعى إلى العجوز التي تحتضر. فھي وریثة العجوز التي ورثت عنها ذكریاتھا (تجربتها) لكنّھا أیضا ورثت الفقدان الذي واجهته العجوز-ورثت الانقطاع عن تجربة ماضية لم تعشها أي ورثت فراغا يُمتصّ فيه الزمن بذاته- وهذين يشكّلان معا التجربة الفلسطينيّة “الإشكاليّة” للجيل اليافع؛ فهو الذي يفترض به العودة وإعادة بناء المدینة. لذلك تتحدث المرأتان عن مستقبل الحیاة والعودة إلى سطح الأرض وتنتقلان في الحوار بین مفاهیم مثل النوستالجیا، المنفى والفقدان. وھناك یحدث تقييم للانسحاب الذي قام به الجيل الأول للكارثة أي محاولة من الصبيّة اليافعة لإدراك الماضي الذي عليها إعادة إنتاجه.
وكلّما صادف الحدیث تصادما في “وجهات النظر” بين الجيلين، كما في مسألة الانسحاب التام عن الأرض وإقحام ذكريات مصنّعة على أجیال أُنتجت في المختبرات، نشاھد المرأة اليافعة تقترب من الكرة السوداء وتنظر فیھا لتشاھد، ونشاھد معھا ذكریاتھا، أي التجربة التي أقحمت في رأسها، ما يسميه نيتشه التحديق في الھاویة اللانھائیّة، فمن يحدّق فيها طويلا يقع فيها في النهاية. الیافعة لم تعش یوما فوق الأرض ولم تشھد المدینة كما كانت علیه، لكنھا تحمل في ذھنھا صورا مزروعة فیھا، حیث حقنت في ذھنھا تجربة المرأة العجوز في مدینتھا وتجربة ھروبھا من الكارثة (انسحابها إلى الملجأ/المختبر). وھذا يحاكي مسألة إقحام إرث النكبة الفلسطینیّة التي ورثتھا أجیال لم تختبر فلسطين قبل النكبة، بل لم تعش كأجيال “فلسطينيّة” سوى في إثر النكبة.
يستحضر الفیلم هذا الإقحام في سیاق “التخلّق” أو علم ما فوق الجینات (Epigenetics) والذي يدرس التغیّرات الوراثیّة التي تطرأ على الأجنّة من البيئة والسلوكیّات التي يتأثّر منها الوالدين مثلا ولیس من جينات ورثاها. فالمرأة الیافعة هي مستقبل التجربة الفلسطينيّة، والتي تعاني “طفرة جینیّة” أي تغیّرا في موقعھا في التجربة الفلسطينيّة الجمعیّة بسبب تراوما الكارثة التي واجهت “أمّها” (العجوز)، في إشارة إلى الذكريات المشروخة بالفقدان. فكأنّ الجيل الجديد يتساءل على لسانها عن جدوى حمل هذا الفقدان في عمليّة الإحياء الذي يصير”فشلا في التصوّر، عندما يصبح مجردا” (المختبر). ھكذا یتناول الفیلم دور التراوما الموروثة (أو الانقطاع الموروث) في “بناء المستقبل على صورة الماضي” (أنثوني داوني).
فالماضي يمتلئ بالفراغات و بالتالي يُنتَج الحاضر والمستقبل تباعا على نفس النحو. وإذا كان تصوير التجربة هو محاولة لإحيائها في الحاضر وإحياء تناقلها، أي استعادة القدرة على السرد بواسطة الفيلم مثلا، فإنّ الفراغات الموروثة تحوّر استمراريّة السرد، وعليه يأتي جسد فيلم المختبر كأداة للسرد، فالكادر أو frame مشطور إلى قسمین، بینھما فراغ أسود یحیل منذ بداية الفيلم إلى ذلك الشرخ في السرد. وكلّما اقترب الحوار (تبادل السرديّة الفلسطينيّة بين الجيلين) من المناطق التي تشوّھت فيها التجربة إثر تناقل الانقطاع (كالمنفى والماضي والفقدان) تحدّق الفتاة في الجسم الأسود/الفراغ -أي يحدّق المستقبل في فراغ الماضي- والفراغ بدوره يحدّق فيها أيضا (باستلاف من نيتشه). فعند تلك النقاط یُظھر كادر الفیلم المشطور صورتين للذكريات (الماضي والكارثة) من منظورین: الأمام والخلف، فإذا شاهدنا في الكادر ذكرى هروب الفتاة من البيت عند حضور الكارثة وهي طفلة، نشاهد هروبها من داخل الغرفة وخارجها في آن واحد (يفصل بينهما الفراغ الأسود)، ونشاهدها في الحقول بعد الهروب تقترب منّا وتبتعد عنّا في آن واحد. أي نشاهدها من نقطتي انطلاق لمراقبة التجربة: من الماضي إلى الكارثة، أي ما قبلها، ومن الحاضر إليها، أي ما بعدها. فالكادر (الفيلم) المشطور هو أيضا أحد ضحايا الكارثة.
یبحث الفیلم في النقاط التي یفشل فیها كوسیط للسرد، وبالتالي إن كانت الطفلة المزروعة في الماضي ھي المستقبل الذي نأمل منه تسویة العلاقات مع البیئة واستئناف التجربة، إن كانت ھي الحلّ الدراميّ الذي تقدّمه لنا “القصة الفلسطینیّة” كفانتازیا فقط، فإنّ “المختبر” یسحبها من ذلك التصوّر المختلّ، فیظهر لنا في النهایة أنّ كلّ ما حدث في الماضي حدث مع العجوز وحدھا: ھروبھا في الكارثة، لجوؤھا إلى الحقول… إلخ. الفیلم یسحب إقحام المستقبل في الماضي ویعید ترتیب منطق التسلسل الزمنيّ نفسه الذي تبعثر في الكارثة. من ثم یُظھر الطفلة فقط عقب الكارثة، في الحقل الذي كانت قد لجأت إلیه العجوز لوحدھا بداية، تلعب معها وتحاول التقاط ولقف الحجارة في لعبة الصقلة. العلاقة السویّة ھنا ھي بین الطفلة وأمّھا، وبهذا يقترح الفيلم أنّ تصویر القصة الفلسطینیّة في الفیلم ممكن، بتصویر علاقة سویّة مع المستقبل. وهي علاقة لا يمكن تصويرها بمعزل عن “مواجهة” ذلك الانسحاب في الحاضر.
المستقبل لیس حلاّ للماضي، بل ھو ولید اللحظة بما تحمل من انطباعات وفراغات، فمواجهة الفتاة اليافعة للانسحاب يجعلها تدرك أنّ “هون تحت الأرض التحوّلات حادّة، كبسة واحدة بتحوّل النهار لَليل”، وبالتالي تدرك فقدانها الذي يختلف عن فقدان العجوز، فهي لم تشهد أبدا شروق الشمس ولا غروبها، فقط عاشت النسخة “المصنّعة” تحت الأرض (في مساحة الانسحاب). هي في النهاية تتحدث عن “الضوء الطبيعي” وفقدانها له، أي أنّها تدرك أنّ تلك “الحلول” مثل “كبسات الإضاءة” هي فانتازيا وجود بيئة أو تجربة طبيعيّة تحت الأرض، وبالتالي تغادر دون التحديق في الجسم الأسود مجددا، أي أنّها تدرك أنّ وجهتها هي نحو “الفقدان” في الحاضر وليس في الماضي. ولربّما أنّ على القصّة الفلسطينيّة أيضا أن “تفقد” توجّهها نحو الماضي والفقدان فيه وأن تواجه فقدان الحاضر كـ “أشياء” توجّهها نحو المستقبل. فكما تكتب المنظّرة سارة أحمد “نعرف وجهتنا عندما نواجه أشياء معيّنة تساعدنا أن نجد طريقنا. وهي تلك الأشياء التي نميّزها وندركها عند مصادفتها، وبالتالي حين نواجهها، ندرك أين وجهتنا” (سارة أحمد). فربما علينا أن نفقد الثلّاجة، والطفل، والعبور في الفيلم أولا حتى تتشكّلا من هناك وجهتنا وخيالنا نحو استعادتها.
مراجع