صدر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، في سلسلة مذكرات وشهادات، كتاب لدلال البزري بعنوان “يساريون لبنانيون في زمنهم”. يتألف الكتاب من 368 صفحة، ويُعنى بيساريين شيوعيين في زمنهم، بدءًا من ستينيات القرن الماضي وسبعينياته: سيرةً وممارسة وفكرًا وخواتيم، بصفتهم ثوريين.
تذكر البزري أنهم كانوا شيوعيين لبنانيين ذات يوم. أكثرهم وُلد بين أوائل الخمسينيات ونهايتها. وشهدت بداية السبعينيات ذروة تألقهم. وتتساءل: كيف انتسبوا إلى الشيوعية؟ وما الذي دفعهم إليها؟ وما السياقات التي حكَمت مسارهم؟ وما الأحداث، والتأثيرات، والمُناخات، والقناعات؟ كيف استمر بعضهم، وثبتَ على التزامه؟ وكيف خرج عليه بعضهم الآخر؟ وكيف وصل بهم الأمر إلى الاختلاف على مواضيع أساسية وجوهرية، مثل سلاح “حزب الله”، والنظامَين السوري والإيراني؟ وهل يعتبرون أنفسهم أنهم ما زالوا يساريين؟ وبأي معنى؟
يحاول الكتاب الإجابة عن هذه التساؤلات، من خلال مقابلات حيّة أجرتها المؤلفة مع أكثر من خمسين شيوعيًا، ممَّن انتسبوا إلى منظمة العمل الشيوعي والحزب الشيوعي اللبناني، ومن خلال ما كتبوه، وما كتبه رفاقهم وخصومهم.
أولًا: ما الموضوع؟ ثانيًا: تبلور الموضوع
كانت الفكرة البحثية عند دلال البزري في الأصل عن اليسار العربي الذي انقسم حول الانتفاضة السورية، بين مؤيد لها أو مؤيد للنظام. فكان البحث جولة موسعة بين كتّاب هذا اليسار. وقبل أن تنشغل باليسار السوري أو العربي، انتبهت إلى أسبقية اليسار اللبناني على الانقسام حول الانتفاضة السورية، وإلى الجذور الحيّة لهذا الانقسام، العائد بدوره إلى الانقسام الوطني اللبناني حول وصاية النظام السوري، المرتبط برعاية هذا النظام لحزب الله، وإلى دور هذا الحزب في حماية ذاك النظام عسكريًا بدءًا من العام الثاني للانتفاضة، وهو موقف غذّى السجال المقصود في الدراسة.
وتذهب المؤلفة إلى أن اليسار اللبناني مثل الموزاييك، يشكّل مشهدًا عامًا، ليس بالضرورة متصدرًا المشاهد الأخرى، أو أكثر حيوية منها، لكنه موجود. يكفي أن تستدعيه ليحيا على جوانب أحزاب أو جمعيات أو شخصيات أو تكتلات؛ تاريخية أو مستحدثة، أو حاملة الاسم، كمن يحمل إرثًا، عزيزًا أو مُهانًا.
وترى أن هذا المشهد تصعب لَمْلمته، وربما لا يستحق اللملمة لكثرة الأحجار والألوان والأحجام في الموزاييك الذي يشكله، ولتواضع أثره في المجال الذي يستهدفه، لذلك اختارت أن تحصره في حزبين شيوعيين هما الحزب الشيوعي اللبناني، ومنظمة العمل الشيوعي.
وفي هذا الإطار، تقول “في البداية أخذتُ أجمع المقالات التي تتساجل مع غيرها حول سلاح حزب الله، وحول الدور السوري والممانعة، وحول الانتفاضة السورية، والمحاور التي تقابلها. وكان الاستنتاج الأولي الذي بلغته وقتها أن هناك أولويتين بين المختصِمين: الأولى، الذاهب إلى تأييد المحور الممانع كان يعطي في حيز نصه، أو ضمنه أو في خلفيته، أولوية شبه مطلقة للصراع مع الإمبريالية والصهيونية، في حين تنْصبُّ أولوية الثاني على محاربة الاستبداد. طبعًا، لا يخلو هذا التقسيم من تلاوين بانت في تفاصيل الموقف أيضًا. وغالبًا ما يكون ’المتلوّنون‘، أصحاب الغَمْغمة، هم المترددين في حساب ’موازين القوى‘: لم يقرروا بعد من يكون الأقوى من المعسكرين، قبل أن يستغنوا عن الغمغمات ويصبح كلامهم معلومًا واضحًا”.
وتضيف: “وبما أنني مهتمة بعمق التكوين الفكري لأصحاب النصوص، وبما أنهم كانوا في غالبيتهم، كما سنرى، شبابًا وراشدين ومنخرطين بقوة في ذاك العصر، فقد ارتأيت تتبُّع المواقف من أولها. كيف يتكوّن الموقف السياسي؟ أو بالأحرى كيف تكوّنت المواقف السياسية في ذاك العصر؟ وكيف تطورت؟ وما سياقاتها؟ وما القوى الحيوية التي صاغتها أو تغيرت أو انشقت عنها أو نقدتها؟ وكيف بلغت الآن ما بلغته، سواء بالضد مع هذه التجربة أو معها؟ … ثم وضعتُ ملاحظات متعلقة بلائحة اليساريين المعنيين بالتجربة تتعلق بالأجيال وشرائح الأعمار، والطائفة والمنطقة. ومعسكرهم السياسي الراهن، كونهم ضد الاستبداد وضد الممانعة أو مؤيدين لها. وكذلك المهنة، حيث جُل العينة كان من الكتّاب والجامعيين والصحفيين”.
وتحدثت البزري عن “حدود الموضوعية والمسافة المثالية”، في كتابة عملها، لتشرح كيف كتبت هذه الدراسة. فهي توضح الإطار العام، وتقول: “هذه الدراسة هي من النوع ’التجريبي‘ إذًا، لا هي تاريخ، الأفكار خصوصًا، ولا سوسيولوجيا، ولا علم نفس، ولا أنثروبولوجيا، إنما الجميع مصهور في بوتقة الواقع وموارده اللذين وحدهما يحددان المجال”.
عشية حزيران/ يونيو 1967
تفصح المؤلفة عن أسس اختياراتها، بقولها: “لماذا لم أختر النكبة الفلسطينية 1948 التي تشكل ذيولها واحدًا من محركات الحدث، أو الوحدة السورية – المصرية (شباط/ فبراير 1958) التي ألهبت التطلعات القومية المتوقدة، صاحبة الثقل في تحديد أوجه عديدة من الحدث، أو الحرب الأهلية اللبنانية الصغرى التي تلتها (تموز/ يوليو 1958)، وقد حركتها أسبابٌ، طائفية – قومية، سوف تعود ملامحها لتتأكد مرة أخرى، خلال الانفصال السوري – المصري (أيلول/ سبتمبر 1961) الذي أخرج أفرادًا من البعث إلى اتجاهات أخرى، أو خلال الحدث الجلل، أي الحرب الأهلية اللبنانية الكبرى (1975–1990)؟”.
ثم تحدثتْ مع هذه النخب الطليعية وأصحاب التجارب عن زمن جمال عبد الناصر والناصرية والحرب الباردة، وحاورتْ الأحداث التي جرت، وعن “المثقف اليساري”، تقول: “الفقر ’النظري‘، أو الوعي بهذا الفقر، عشية حرب حزيران/ يونيو، يعطي دفعًا للقراءة والكتابة، وقيمة خاصة لمن يتعامل معهما. الأحزاب القائمة كلها تعاني إما فقرًا نظريًا وإما جمودًا نظريًا”. وأجرت مقابلاتها مع أشخاص برزوا في الإعلام وأصبح لهم حيثية على الشاشات، ولكنها كانت تحاكي فيهم القناعات والمبادئ والانتماءات لتدرك حجم التأثير الثقافي الواقعي لهذه الشريحة المثقفة؛ “على الرغم من خروج بعضهم إلى الشاشة، مقدمًا للبرامج، أو مجيبًا عن أسئلتها بصفته فاهمًا للأمور، فإن شأن المثقف لم يرتفع، ولا الثقافة معه، وبقيت الحسرة لدى الأكثر تجهّمًا: ماذا يفعل المثقف بالضبط؟ ما دوره؟ هل كان عصره فعلًا ’ذهبيًا‘، أيام المثقف التقليدي، الثوري، المرغوب، المتألق؟ بل هل يمكن الاسترسال في الحسرة إلى الأبد، في انتظار انقشاع لن يأتي؟ وما العمل من أجل أن يكون الفعل الثقافي، خصوصًا الكتابي منه، ممارسة محبوبة لنفسها؟ من أجل أن يقرأ المثقف، أن يكتب، أن يسأل الميدان، الإنسان، مادتَيه الحيويتَين، من دون أن يلهث خلف ’الأكثر مشاهدة‘، من دون أن يضطر إلى الكتابة الترفيهية، عن الجنس أو الدين أو الرعب؟”.
ثم تناولتْ “الشيعة في قلب اليسار”، وعرضت شهادات حول نشأة الأحزاب والقوى التقدمية اليسارية، وما سمته “وفرة يسارية”؛ الحزب الشيوعي اللبناني، وحركة القوميين العرب، ولبنان الاشتراكي، والمجموعات المسيحية التقدمية.
وناقشت أيضًا عباس بيضون وحازم صاغية وأحمد الديراني ووضاح شرارة وفواز طرابلسي ووديع حمدان، وغيرهم في الحركة الحزبية ما بعد هزيمة 1967، وكيف كان وضع المثقفين في منظمة العمل الشيوعي والحزب الشيوعي اللبناني. ولفتت البزري إلى دور ياسين الحافظ في لبنان، ونشأة حزب العمال الثوري العربي الذي لم يكن له جماهير بقدر ما كان هناك حركة ثقافية التفت حول شخص الحافظ نفسه، “وياسين الحافظ هو من بين الذين بكّروا في اعتماد الماركسية غير المسفْيتة، المقرونة بعروبة ذات جذور بعثية قديمة، تتوجهما ’تاريخانية‘ هي ثمرة قراءاته أعمال المفكر المغربي عبد الله العروي، ومراسلته طويلًا. الأحزاب الأخرى سوف تذهب عكس ما ذهبت إليه الوجهة المصرية بعد هزيمة حزيران/ يونيو 1967: سوف تتمرْكس، إلى هذه الدرجة أو تلك، من دون أن تفقد شخصيتها الأصلية. الحزب التقدمي الاشتراكي، الذي كان منذ عام 1965، يدعو إلى التعبئة من أجل فلسطين ومساندة منظمة التحرير الفلسطينية”.
وقد روت عن بعض المثقفين تجارب انتقالهم من تنظيم إلى آخر، كانتقال جوزيف سماحة ووليد نويهض وحازم صاغية من الحزب السوري القومي إلى منظمة العمل الشيوعي، وانتقال جهاد الزين من منظمة العمل إلى الحزب التقدمي الاشتراكي وغيرها من الخيارات التي توضح أهمية المثقف الثوري في تلك المرحلة. وأوردت أيضًا شهادات عن مرحلة الكتيبة الطلابية في حركة فتح لكل من سعود المولى وطلال عتريسي وطلال طعمة.
وأفردت المؤلفة فصلًا كاملًا لشهادات عن الفلسطينيين وقوتهم في لبنان، ودور الحركة الوطنية في رفع مستوى المواجهة.
الطائفية والحرب الأهلية
وجدت البزري – كما استقت من شهادات أحمد بيضون – وغيره أن “الطبقات اللبنانية مربوطة بطوائفها، والسوسيولوجيا، مهما تكن درجات الماركسية المعتمدة لديها، لا تستطيع إشاحة النظر عن الترابط بين الطائفة والطبقة”. ولذلك كانت تتساءل عن الحرب اللبنانية وسبب قيامها وحتميتها، وتتنقل بين آراء سمير فرنجية وسامي ذبيان وعباس بيضون وغيرهم، ما بين قياديي أحزاب وكتاب، وحركيين شباب يوم اندلاع الحرب، مثل محمد بلوط وزياد صعب وبلال خبيز وغيرهم.
ثم ناقشت في فصل كامل “الثورة الإسلامية في إيران”، وكيف انتقل كثير من الشيعة إلى الاتحاق بالكتيبة الطلابية لفتح، ومن ثم اهتمامهم بما يقوله الإمام موسى الصدر عشية الثورة الإيرانية. فلقد ترك هؤلاء تنظيماتهم اليسارية والاشتراكية والتحقوا بالكتيبة الطلابية، وكان ياسر عرفات قد ذهب إلى إيران وزار الخميني؛ ما دعَّم موقفهم. وبالنتيجة أصبح تأسيس حركة أمل وحزب الله في ما بعد مبررًا في بيئة “جنوبية” أرادت أن يكون لها دور خاص في المواجهة. فكيف إذا طرحت الصراع العربي – الإسرائيلي من ساحة الجنوب؟ وقد أخذت شهادات طلال عتريسي وسعود المولى ووليد نويهض وغيرهم في هذا السياق.
بعد ذلك، توضح المؤلفة بقراءة سياسية موثقة بشهادات حاضرين لحظة الاجتياح الإسرائيلي للبنان في 1982، وقد دخلت في تفاصيل الكلام الشعبي حينما اضطر الفلسطينيون إلى ترك مواقعهم، وثكناتهم، وكيف تم ترحيلهم خارج لبنان، ثم دور النظام السوري في تعطيل منظومة الدفاع الجوي، التي كان في إمكانها التصدي لطيران العدو، إضافةً إلى منع المقاتلين والمدربين من دخول لبنان عبر حدودها. ثم تحدثت عن حل الحركة الوطنية ومؤسساتها، وأوردت آراء كل من جورج حاوي ومحسن إبراهيم ووليد جنبلاط.
وتطرقت بعد ذلك إلى نشأة جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية “جمول”، وتباين الآراء حول بيانها التأسيسي، بين الحزب الشيوعي ومنظمة العمل.
وتناولت أيضًا حملة الاغتيالات التي حصلت واستهدفت المفكرين والكتاب من حسين مروة إلى مهدي عامل وغيرهما، وأوضحت بالشهادات آراء المعاصرين لتلك الحوادث، واتهامهم “الظلاميين” بتنفيذ هذه الاغتيالات. هذا إضافةً إلى انهيار الاتحاد السوفياتي وتداعيات ذلك على حركة اليسار اللبناني والعربي كله. ولم تنسَ البزري في تحليلها وربطها الأحداث أن تورد ما جرى في الصين بعد ماو تسي تونغ والحرب الصينية – الفيتنامية، وأثر ذلك في الذهنية النضالية اليسارية.
وعن المؤتمر السادس للحزب الشيوعي (1992)، تذكر البزري شهادات نديم عبد الصمد والبطل وكريم مروة وزياد صعب وغسان الرفاعي ويوسف مرتضى وحسام عيتاني، وتباين آرائهم حول التحول الديمقراطي الواجب داخل الحزب، وكيفية التعامل مع الواقع اللبناني الجديد في ظل الوجود السوري. وأوردت المؤلفة أيضًا رأيًا لفارس اشتي يقارن فيه بين المؤتمرَين الثاني والسادس؛ بين خيار الكفاح المسلح والديمقراطية، حيث يعتبر اشتي أن في الخيار الثاني تخلّيًا عن المنطلقات النظرية التي قام عليها الحزب.
وفي الفصل الحادي عشر، تعرض البزري آراء بعض الكتاب في ما جرى على صعيد الصراع العربي – الإسرائيلي؛ إذ تباينت المواقف من أوسلو، مثل ما جرى بين حازم صاغية وفيصل جلول، وأوردت أيضًا ما جرى بعد اتفاق الطائف من تدجين للقوى السياسية، وقمع لكل المعارضين للوجود السوري، خاصةً أن النظام السوري أصبح مرتاحًا إقليميًا بعد هزيمة غريمه البعثي في العراق، فالسوري ساند التحالف الدولي ضد العراق، وصار مرضيًا عنه أميركيًا، وبالنتيجة يفعل ما يريد في لبنان.
في الفصل الثاني عشر “الرحيل والترحيل وما بعدهما”، تعاين البزري لحظة الانسحاب الإسرائيلي من جنوب لبنان، وموت حافظ الأسد وتطور الحركة المعارضة للوجود السوري، والمواقف المسيحية المعتدلة التي بدأت تعارض الوجود السوري، وما تلا ذلك من اجتماع شخصيات يسارية وشيوعية للبحث في توحيد المواقف. لكن الانفصال كان سيد الموقف؛ فسمير قصير في كتابيه: “عسكر على مين؟ لبنان الجمهورية المفقودة”، و”ديموقراطية سوريا واستقلال لبنان: البحث عن ربيع دمشق”، يناقض تمامًا مواقف رفيقه السابق جوزيف سماحة، الذي صب في الطرف الآخر الممانع المؤيد لحزب الله وسورية. وأشارت إلى نشأة بعض التنظيمات اليسارية كـ “اليسار الديمقراطي”، ونادي اليسار وغيرها، إثر فشل الجهود في توحيد القوى اليسارية.
كما أن جوزيف سماحة وإبراهيم الأمين، مثلًا، أسسا جريدة “الأخبار”، ليكتبا ويدعما موقفهما الممانع بكل ارتياح، من دون صد من أحد.
وتعرض البزري أيضًا التباين في الرأي حول المكان السياسي للحزب الشيوعي، هل مع 14 آذار أم مع 8 آذار؟ وخاصةً بعد سلسلة الاغتيالات التي حصلت، ومن ضمنها اغتيال الأمين العام السابق للحزب جورج حاوي، وتعرض الاختلافات التي حصلت والانشقاقات، وما يسمى حركة الإنقاذ. وهذا كله من خلال شهادات الأعضاء الفاعلين في الحزب الشيوعي أو المفصولين أو المؤسسين لحركة الإنقاذ، كمحمد علي مقلد وغيره.
وتستكمل في وصفها للتفاعل مع حرب تموز في عام 2006 من جهة المثقفين اليساريين على اختلاف مشاربهم وانتماءاتهم، ونذكر على سبيل المثال آراء منى فياض، المنتقدة لحزب الله وسلوكاته. وكذلك هجمة أيار 2008 التي نفذها حزب الله على بيروت بعد قرار وزارة الاتصالات بقطع شبكته الخاصة، كذلك إن التنبيه من هيمنة الحزب ودوره في المرحلة اللاحقة الذي يشي بالهيمنة، هو الذي حذرت منه أقلام بعض اليساريين.
وفي الفصل الخامس عشر والأخير، تطرح البزري سؤالها المهم: أين هم اليساريون عشية الثورة السورية وفي أثنائها؟ وقد أوردت شهادات لكمال حمدان عن تململ كاد يحدث خضةً كبيرة داخل الحزب الشيوعي، إثر مشاركته إلى جانب حزب الله في الحرب السورية، بحجة قتال التكفيريين. في هذه الأثناء، أو بُعيدها، كان كريم مروة، القيادي في الحزب الشيوعي اللبناني، يصدر مشاريع لتجديد اليسار اللبناني، و”البحث عن مستقبل جديد وواقعي لليسار في عالمنا العربي”، بغية “خروج اليسار من أزمته الراهنة”، فيطرح “السؤال الكبير” عن “الأسباب التي قادت جميع هذه الثورات إلى الفشل”. أما شروط هذا التجديد، واستنادًا إلى نصوص ماركس وإنغلز وبليخانوف وروزا لوكسمبورغ وغرامشي، فهي أن “يبادر أهل اليسار إلى قراءة موضوعية لتاريخ اليسار القديم”، وأن “يقرأ أهل اليسار بدقة سمات العالم المعاصر بكل مكوناته”.
ومن جهة أخرى، تشير المؤلفة إلى أن محمد علي مقلد في كتابه “الشيعية السياسية”، الصادر في العام الثاني للثورة السورية، يتناول الموضوع من زوايا يرى أنها الأخطر. وهو يرى أنّ الشيعية السياسية “كمثيلاتها، المارونية والسنّية، تستند إلى قوة ذات تركيبة طائفية، بل مذهبية، لكنها ليست مشروعًا طائفيًا، بل مشروع سياسي حزبي فئوي يقوم على المحاصصة، ولا يستطيع، شأنه في ذلك شأن سواه، أن يرجح حصته في السلطة والثروة الوطنية إلا إذا استقوى بقوة خارجية”. ويتوقف مقلد عند محطة الوصاية السورية: ويرى أنه في ظلها نمت الشيعية السياسية، حيث منحها النظام السوري “رعاية خاصة”، فأدت “دورًا مزدوجًا: استكمال الدفاع عن مصالح النظام السوري من داخل السلطة […] والإمعان في تخريب بنية الدولة تحت ستار الدفاع عن المصالح الشيعية، وكانت الأولوية فيها إبداء الطاعة والولاء للنظام السوري”.
وتسلط المؤلفة الضوء على مبادرات كمجموعة “كلمن” ومجلة “بدايات” التي يقودها فواز طرابلسي، وغيرها، ممن يطرح منظارًا عربيًا شاملًا ديمقراطيًا، ويقرأ الواقع استنادًا إلى هذه الثورات.
وتذكر أيضًا مواقف لحازم صاغية وخالد صاغية ووسام سعادة وغيرهم من مثقفي اليسار، كلها تناولت مجريات الثورة السورية، وهجت السلاح وناصرت الديمقراطية.
وفي الخاتمة تورد المؤلفة هذه الجدليات والتباينات والانتقالات التي رافقت حركة اليسار، وصنعت المواقف المراوحة بين الأسلمة والعلمنة، والعروبة والوطنية والماركسية، وكل هذه الشعارات التي كونت البنية الثقافية لأي خطاب سياسي ممكن أن يصدر به أي مثقفٍ انضوى إلى هذا الحراك اليساري الفاعل.