صدر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، ضمن سلسلة “ذاكرة فلسطين”، كتاب أحمد حسين اليماني، بعنوان “مذكرات أبو ماهر اليماني: تجربتي مع الأيام”، في 536 صفحة. يدوّن أحمد اليماني (أبو ماهر) تفاصيل تجربته الثرية في مذكراته، ابتداءً من طفولته، شاهدًا على إعدام الشهداء الثلاثة؛ عطا الزير ومحمد جمجوم وفؤاد حجازي، وطالبًا في مدارس صفد وعكا والقدس، ومؤرخًا لمراحل تأسيس الحركة العمالية الفلسطينية وأحداث حرب 1947-1949، ورحلته في الشتات، وتجربته في ميدان العمل التنظيمي الجماهيري والمهني وأطر سياسية وشعبية عدة.
تجربتي مع الأيام: تجربة شمولية
اختار أبو ماهر عنوانًا يوحي بالشمول، وهو تجربتي مع الأيام. ومن المعروف أنّه خاض غمار تجربة ثريّة وطويلة، بدأت منذ ما قبل النكبة، حيث نشط في جمعية العمال العربية الفلسطينية، وفي اللجان التي عملت على تنظيم أوضاع الجليل الفلسطيني قبل احتلاله. وبعد النكبة، عاود الانخراط من جديد في النشاط النقابي في نابلس، ثم في العمل السرّي فالعلني في صفوف حركة القوميين العرب، ثم في تأسيس تشكيلات داخلها؛ مثل أبطال العودة وشباب الثأر اللتين أصبحتا من مكوّنات الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين. وأصبح لاحقًا ممثلًا للجبهة الشعبية في اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية، وبقي في هذا الموقع أعوامًا طوالًا شهدت الكثير من المد والجزر في العلاقة بين الجبهة والمنظمة. وتُعتبر مذكراته هذه إضاءة على تجربة الحركة العمالية الفلسطينية في فلسطين وخارجها، بعد النكبة، ستفيد الدراسات التاريخية في هذا المجال.
ومن يعرف عن هذه المسيرة الطويلة يتوقع من أبو ماهر أن يدّون تفاصيل التجربة الثرية، وفيها الكثير مما يمكن قوله حول وقائع كثيرة وحسّاسة، تنطوي على أهمية خاصة في مسار حركة القوميين العرب، والجبهة الشعبية لتحرير فلسطين.
ولعل كثيرين ممن توقعوا مفاجآت وحالات من الكشف عما يحدث عادة في مذكرات السياسيين، قد شعروا بشيء من الخيبة، وأن ما بين أيديهم مما هو منشور لا يلبي الرغبة في الكشف أو الاكتشاف، أو الوقوع على بعض أسرار المرحلة، فلا شيء، ولا حتى كلمة عن أحداثٍ عاصفة كان الرجل في وسطها، من قبيل النقاشات الحامية في الحركة بين اليمين واليسار، وانفراط عقد مكونات الجبهة الشعبية، بخروج جبهة التحرير الفلسطينية منها بزعامة أحمد جبريل، ووقائع المؤتمر الذي أفضى إلى خروج نايف حواتمة، وتشكيل الجبهة الديمقراطية. كذلك يغيب الحديث عن أحداث أيلول/ سبتمبر 1970 في الأردن، فلا ذكر لتلك الوقائع التي شكّلت مقدمات الصدام ومجرياته والنتائج التي تمخضت عنه. وتنسحب سمة الغياب على ما حدث في لبنان ما قبل اتفاق القاهرة وحتى الحرب الأهلية ودور الفلسطينيين فيها، ولا ذكر لجبهة الإنقاذ الوطني الفلسطيني. وعلى صعيد العلاقات الداخلية في الجبهة، يغيب أي كلام عن الخلافات بشأن العمل الخارجي بقيادة وديع حداد، وغير ذلك من الموضوعات التي كان من المهم معرفة موقف أبو ماهر منها، أو على الأقل الاطلاع على وقائعها منه تحديدًا، وهو المناضل المشهود له بالنزاهة والاستقامة. ويبدو أنّ الرجل قد تعمّد الابتعاد عما هو إشكالي، أو جميع ما يمكن له أن ينكأ جراحًا اندملت بطريقة ما. وسوف يوجد من يقول إن من توقّع قيام أبو ماهر بالإشارة إلى موضوعات إشكالية داخل الحركة أو الجبهة، لا يعرف الرجل جيدًا، فهو ربما ينظر إلى تلك الموضوعات بوصفها أسرارًا يظل مؤتمنًا عليها حتى إن تحدّث الآخرون حولها، أو نشر الكثيرون عن وقائعها ومجرياتها.
أيًا كانت دوافع أبو ماهر لكتابة ما كتب، أو الامتناع عما امتنع عن ذكره، فقد أفاض في الحديث عن المراحل الأولى من حياته، الطفولة والدراسة، ثم العمل في جمعية العمال العربية الفلسطينية، والنشاط في اللجان الشعبية في الجليل، حيث نقع على تجربة غنية يحكي تفاصيلها بلغة سلسة ومشوقة. وكذا الحال في مجال التجربة المديدة في ميدان التربية والتعليم، والتي نفذ منها إلى بدايات النشاط السري في حركة القوميين العرب، ونشاطه في التنظيم النقابي، وفي تنظيم شؤون الفلسطينيين في المخيمات.
أبو ماهر ابن المخيم بامتياز، كان مهجوسًا على الدوام بتحويل المخيم إلى كتلة من الحيوية والنشاط، والتعليم والتنظيم والثورة، لذا ظلّ يعمل حتى أيامه الأخيرة؛ ينشط وينصح ويوّجه. ويمكن القول إنّ أبو ماهر قد كتب مختارات من تجربته الطويلة، وليس تجربته كلّها، وربما وجد أن هذا هو ما يجدر الحديث عنه. وبدورنا هنا اخترنا من المختارات التي ساقها أبو ماهر في خمسة أجزاء.
تقديم بقلم جورج حبش
أما هذا الجزء فقد اشتمل على تقديم بقلم جورج حبش، ومما جاء في شهادته عن رفيقه في النضال: “ومن دون أيّ مجازفة أو مبالغة، يمكن القول إن سلوك الرجل كان أنموذجًا يُحتذى؛ فقد اشتُهر أبو ماهر بنظافة اليد واللسان، وبقدر كبير من النزاهة الأخلاقية، الأمر الذي جعله يستحق لقب ضمير الثورة، فقد عرفه الجميع، إنسانًا متواضعًا إلى أبعد الحدود؛ في مأكله وملبسه ومعيشته، وحسّاسًا إلى أبعد الحدود تجاه رعاية عوائل الشهداء والأسرى، وتجاه واجب الاهتمام بهم وتكريمهم، وتقديم جميع احتياجاتهم في حدود الإمكان. أما الشهداء والأسرى والمعتقلون، فلم ينسَ يومًا التذكير بواجب الوفاء للأهداف التي من أجلها قضى الأوائل نحبهم، ومن أجلها يعاني القابعون في الزنازين، وخلف القضبان، أشد أنواع المعاناة الإنسانية. آمن أبو ماهر بأنّ الشعب الفلسطيني سيبقى عصيًا على محاولات كسره كلها، وأنّ الأجيال المتلاحقة ستتابع النضال لاستعادة الحقوق الوطنية الثابتة مهما طال الزمن. وإيمانًا منه بهذه الحقيقة، ساهم أبو ماهر برعاية الطموحات السياسية والفكرية والثقافية والنضالية للأجيال الجديدة، وساهم في دعم الخطوات التي استهدفت دفع الجيل الجديد الذي تربى في أحضان الثورة إلى تحمل المسؤولية على امتداد أكثر من خمسة عقود من الزمن”.
محطات نضالية في تاريخ أبو ماهر اليماني
تتوزع هذه المذكرات على خمسة فصول، كل فصل منها يشرح محطةً نضالية في تاريخه. تناول الفصل الأول “في فلسطين”، محطات في تكوين شخصية أبو ماهر النضالية، وكذلك تسارع الأحداث في فلسطين، وبدايات الاحتلال الإسرائيلي والوفود العربية التي زارت فلسطين وبداية النضال الوطني وعقد المؤتمرات وتشكيل كتائب عسكرية، وصولًا إلى الطرد والإبعاد إلى لبنان. أما الفصل الثاني “في دنيا الشتات خارج فلسطين”، فقد تحدّث عن تنقلاته بين المدن التي حل فيها من النبطية إلى طرابلس إلى بيروت، ثم عودته إلى نابلس وخروجه مجددًا، وحصوله على جواز سفر أردني، حتى مرحلة مخيم عين الحلوة والمدرسة، ثم طرده من الأونروا، ثم مرحلة التعليم بين بيروت وبعلبك، وكذلك عن لقائه مع الحاج أمين الحسيني.
أما الفصل الثالث “في ميدان العمل التنظيمي الجماهيري والمهني”، فقد تناول بداية تنظيم الشباب العربي الفلسطيني في لبنان، وتشكيل اللجان الشعبية في المخيمات ورابطة المرأة، والحركة الكشفية والأندية الثقافية. في حين يتطرق الفصل الرابع “في إطار حركة القوميين العرب” إلى انخراطه في حركة القوميين العرب وتأسيس شعبة لها في لبنان، ولقائه بجورج حبش، وبجمال عبد الناصر، وتأسيس مجلة الثأر، وتأسيس منظمة شباب الثأر ومنظمة شباب العودة، وغير ذلك مثل كتائب الفداء العربي. أما الفصل الخامس، وهو الأخير، “تجربتي في إطار منظمة التحرير الفلسطينية”، فقد تناول مراحل تأسيس منظمة التحرير الفلسطينية، ومؤتمر القمة العربي الأول، وتحدّث عن لقائه بالشاذلي بن جديد، ومشاركاته في دورات المجلس الوطني الفلسطيني، وكذلك مهماته ضمن اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير، ولقاءاته بأحمد الشقيري وياسر عرفات، وانطلاقة حركة فتح.