صدر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات كتاب “العلاقة بين الهجرة الدولية والتنمية: من منظور البلدان المرسلة للمهاجرين” للكاتب هاشم نعمة فياض، الذي يقع في 351 صفحة.
لقد باتت العلاقة المعقدة بين الهجرة الدولية والتنمية تحظى بالمزيد من البحث على المستوى الأكاديمي وعلى مستوى الدول والمنظمات المهتمة بهذا الموضوع؛ لكن يلاحظ أن هذا الاهتمام لا يزال ضعيفًا ولا يرقى إلى أهمية الموضوع في العالم العربي، على الرغم من أن هذه المنطقة تشترك بقوة في هذا الصنف من الهجرة وتتأثر بنتائجه الكثيرة والمترابطة. ويُعتبَر هذا الكتاب مساهمة في سد بعض النقص في هذا الحقل.
يبحث الكتاب في اتجاهات الهجرة الدولية ببعديها الزماني والمكاني على المستويين العالمي والعربي، ومقررات الهجرة الدولية على مستويي البلدان المرسلة للمهاجرين والمستقبلة لهم. ويحلل إشكالية العلاقة بين الهجرة والتنمية، وتحويلات المهاجرين وعلاقتها بالتنمية. ويعالج تأثيرات الهجرة الدولية خصوصًا في جانبيها الاقتصادي والاجتماعي. ويتطرق إلى معالجات تتعلق خصوصًا بتنظيم الهجرة الدولية والاتفاقيات الدولية الخاصة بها واندماج المهاجرين.
اتجاهات الهجرة الدولية
تُعدّ الولايات المتحدة الأميركية بلد مهاجرين؛ فجميع المقيمين في البلاد تقريبًا هم مهاجرون أو ينحدرون من مهاجرين، كما يحتفل معظم الأميركيين بتراثهم في الهجرة. وفي البلاد، أربعون مليون مقيم ولدوا في الخارج في عام 2010، بنسبة 13 في المئة، منهم 11.2 مليونًا، أي أكثر من الربع مقيمون بصفة غير قانونية، ولديها أعلى نسبة من المهاجرين مقارنة بمعظم البلدان الأوروبية، وأكثر بثلاث مرات مما هو موجود في روسيا، لكن نسبتها أقل من كندا، ففيها أكثر من 20 في المئة من المقيمين ولدوا في الخارج. أما في أستراليا ونيوزيلندا، فربع المقيمين تقريبًا ولدوا خارج هذين البلدين، في حين يمثّل الأجانب أقل من 2 في المئة من المقيمين في اليابان وكوريا الجنوبية. ويعتقد معظم الأميركيين أن الهجرة القانونية جيدة، وأن وصول الأجانب الذين يرغبون في أن يصبحوا أميركيين يُعدّ أمرًا يصب في المصلحة الوطنية.
تصبح أنظمة الهجرة المتعلقة بأماكن تدفق الأشخاص أكثر تعقيدًا على نحوٍ متزايد؛ إذ تأخذ الهجرة الدولية طريقها في العديد من الاتجاهات: من الجنوب إلى الجنوب، وبين الشرق والغرب، ومن الجنوب إلى الشمال، والعكس. ومعظم الهجرة الدولية بين البلدان المجاورة في الأجزاء الفقيرة من العالم، جزئيًّا بسبب الحروب التي تقود إلى نزوح ضخم للأشخاص الذين يبحثون عن الحماية عبر الحدود الدولية. وفي السنوات الأخيرة، وباستثناء الهجرة جنوب – جنوب، هناك هجرة عمالة أساسية تأخذ طريقها من الشرق إلى الغرب في أوروبا. وعلى الرغم من ذلك، فإن تيار الهجرة جنوب – شمال يبقى أيضًا في تزايد؛ إذ بات الناس في البلدان الفقيرة يتوفرون على إمكانيات أفضل لملاحظة الرفاه وأنظمة الحياة في البلدان الغنية، وذلك من خلال وسائل الاتصال العالمية الحديثة (التلفزيون، والفيديو، والهاتف النقال، والإنترنت(.
وتسمح حركات الانتقال الكبرى للناس بتغيير مستمر في هوياتهم، وتعرِّضهم لمجموعة أكبر من الاحتمالات التي يمكن أن تؤثر في مخيالهم السياسي.
وفي حين تم اكتشاف الهجرة الداخلية على نطاق واسع من خلال الدراسات الديموغرافية والأدب المتعلق بالتحضر، ظلت الأعمال المتعلقة بالهجرة الداخلية والهجرة العابرة للحدود منفصلة إلى حد كبير، مع توافر القليل من الدراسات الحديثة التي بدأت بلفت الانتباه إلى أوجه الشبه واكتشاف العلاقات بين حركات السكان الداخلية والعابرة للحدود؛ وهي علاقات تأخذ في حالات غير قليلة الطابع المرحلي الممهد للهجرة الدولية، خصوصًا في البلدان النامية، وأثر ذلك في التنمية الاجتماعية – الاقتصادية.
وقد تناول المؤلف، في الفصل الأول من كتاب العلاقة بين الهجرة الدولية والتنمية، المنطقة العربية والهجرة إلى أوروبا وإلى بلدان الخليج العربي، وتحدث عن الهجرة الماهرة والهجرة غير النظامية، وكذلك عن الهجرة الطلابية، ومخاوف أوروبا من الهجرة.
العلاقة بين الهجرة والتنمية
تراهن التنمية على التغيير الإيجابي والهيكلي القادر على الاستمرار والديمومة، وهي بذلك ليست قالبًا جامدًا أو آلية ثابتة، بل هي متغيرة بتغير معطياتها وظروفها والعوامل المساهمة فيها والنتائج المرجوة منها. إذًا، يعدُّ مفهوم التنمية مفهومًا متحركًا، تبعًا لتغير الظروف الاجتماعية – الاقتصادية وتغير الزمان والمكان.
ويؤدي المهاجرون دورًا متزايدًا في تعبئة الموارد البشرية والاجتماعية والمالية، لتعزيز التنمية في بلدانهم الأصلية. وعززت هذه البلدان علاقاتها برعاياها في الخارج بطرائق، من بينها تعزيز مشاركتهم السياسية، وتشجيع إسهامهم في التجارة والاستثمار، وتوفير المساعدة القانونية والتدريب. وتوفِّر الجهات المانحة على المستوى الثنائي التمويل والدعم التقني لمشاريع التنمية المشتركة التي يشارك فيها المهاجرون. ويجري الشروع حاليًّا في تبني استراتيجيات مبتكرة، لتسخير قدرات المهاجرين في مجال مباشرة الأعمال الحرة، في حين ازداد الوعي بالعقبات التي تواجه المهاجرين من أصحاب الأعمال الحرة عند العودة إلى بلدهم الأصلي.
من خلال التحليل الاقتصادي للهجرة وسياستها، تبرز ثلاث حقائق: الأولى؛ تترافق الهجرة الأكبر في المعتاد مع الاقتصاد الأكبر؛ لذلك ثمة نزعة، إلى جانب الهجرة بالنسبة إلى الأفراد والحكومات، إلى السعي لتعظيم النمو الاقتصادي. الثانية؛ يكون المهاجرون الذين يتوفرون على دخول أعلى وفرص أكثر في بلدان المقصد هم الرابحين الأساسيين من الهجرة الاقتصادية، ويزيد وجودهم من الحجم الصافي للاقتصاد، علمًا أن التأثيرات الاقتصادية الرئيسة للمهاجرين تتوزع لتؤثر في الأجور والأرباح. الثالثة؛ تعني الهجرةُ المنظمة في البلدان المضيفة للمهاجرين، مثل الولايات المتحدة، إنفاقَ جزء من أموال الضرائب من أجل السيطرة على الهجرة لجعلها تحت المستوى الذي ستصل إليه مع قليل من الضوابط أو من دونها.
لقد باتت الهجرة الدولية للعمالة مكونًا مهمًّا من مكونات العولمة والتنمية الاقتصادية في كثير من البلدان الأقل تطورًا، لكن لماذا تبدو الهجرة معززة للتنمية الاقتصادية في بعض الحالات ولا تفعل ذلك في حالات أخرى؟ وتذهب الدراسات الاقتصادية الحديثة إلى أن هناك ترابطًا محكمًا بين الهجرة والتنمية؛ فالتنمية تشكل الهجرة والهجرة في المقابل تؤثر في التنمية.
تأثيرات الهجرة الدولية
لا تؤثر الهجرة الدولية في حياة المهاجرين فحسب، بل تؤثر أيضًا في حياة السكان غير المهاجرين. فعندما يقرر الأشخاص عبور الحدود الدولية والإقامة في بلدان أخرى، فإن حياتهم الشخصية وحياة عائلاتهم التي تبقى في بلد الأصل ستتغير بعمق، ليس فقط اقتصاديًّا، لكن أيضًا اجتماعيًّا وثقافيًّا. وينطبق هذا أيضًا على الأشخاص الذين يعيشون معهم ويتواصلون معهم في أماكن ومناطق الإقامة.
وتظهر الهجرة نفسها في كل ركن من أركان العالم، وتتحول مجتمعات بأكملها نتيجة استمرار تيار حركة الأشخاص سواء المغادرين بلدانهم و/ أو الداخلين إلى بلدان أخرى. وينطبق هذا مثلًا على البلدان العربية التي تشترك بقوة في الهجرة الدولية، سواء المرسِلة منها للمهاجرين أو المستقبِلة لهم.
على عكس التأثيرات السلبية، أُعطِيَت التأثيرات الإيجابية للهجرة الدولية اهتمامًا أقل. وتقول خلاصة البحث الأكاديمي، بصورة متزايدة، إن التأثيرات السلبية لا يمكن إنكارها؛ فهي في حاجة إلى التوازن مع التأثيرات الإيجابية التي تشمل دخل التحويلات، والمضاعفات الاقتصادية التي يبدو أنها تزيد من إنتاجية الزراعة، وتقلل الفقر وتحدث محفزات للاستثمار في التعليم والصحة، والتي تعتبرها بعض الدراسات في النهاية تصب في تعزيز الإنتاجية.
تتضمن مزايا الهجرة الرئيسة، التي تعود بالنفع على بلدان الهجرة المغادِرة، التأثير الإيجابي للتحويلات المالية في التخفيف من حدة الفقر، وفي زيادة احتياطي العملات الأجنبية، وتحسين ميزان المدفوعات، وكذلك انتقال المعرفة والمهارات عند عودة المهاجرين إلى أوطانهم، سواء كان ذلك بصفة مؤقتة أو دائمة وعلى أساس افتراضي أو مادي. كما تخفف الهجرة أيضًا، من ظاهرة البطالة، وتزيد من مستويات المشاريع المحلية عبر خلق فرص جديدة أمام القطاع الخاص.
إضافة إلى ذلك، غالبًا ما يُسهم المهاجرون في عمليات التحديث والديمقراطية واحترام حقوق الإنسان، سواء كانوا في الخارج أو عند عودتهم إلى أوطانهم. كما يمكن أن تؤدي الهجرة أيضًا إلى تمكين المرأة، والمجموعات الأخرى، من حقوقها والتي تعاني وضعًا اجتماعيًّا أضعف في بلد الأصل، بشرط أن تتوافر الإجراءات الوقائية الكافية لمنع استغلال هذه المجموعات )كالعمال والعاملات في قطاعات تفتقد مواثيق عمل ناظمة لها كالعمالة المنزلية والزراعية)، علمًا أن العمل في هذه القطاعات بات شائعًا في عدد من البلدان العربية، وخصوصًا الخليجية منها.
ويمكن أن تعود الهجرة المؤقتة والموسمية بالنفع على المهاجرين أنفسهم، كتوافر الفرصة لتحقيق التنمية الذاتية والمهنية (مثل اكتساب المهارات والمعرفة، والاتصال، واكتشاف ثقافات جديدة)، وتمكنهم من المساهمة بصفة ملموسة في تنمية أوطانهم عبر التحويلات المالية والمهارات ونقل المعرفة. وكذلك تساعد الهجرة المؤقتة في خفض التكلفة الاجتماعية الناتجة من الهجرة الطويلة الأمد، مثل التباعد بين أفراد العائلة لوقت طويل.
أما بالنسبة إلى البلدان العربية النفطية، فتعرضت الهجرة لتطورات ضخمة ومتلاحقة في فترة زمنية قصيرة؛ فقد تنامى عدد المهاجرين إلى هذه البلدان بمعدل سريع جدًّا خلال السبعينيات؛ ما أنتج كثيرًا من الآثار الاجتماعية – الاقتصادية البعيدة المدى في كل من بلدان الأصل والاستقبال. وحين بدأت بلدان الاستقبال في نهاية السبعينيات التحوّط من بعض الآثار السلبية للهجرة الواسعة النطاق، لم تتنبّه البلدان المصدِرة للعمالة إلى مثل هذه الآثار بالدرجة اللازمة، وتنامى فيها الاعتماد على الهجرة للعمل بالخارج بصفته حلًا لمشاكلها الاقتصادية الداخلية المزمنة، والتي ثبت أن الهجرة لا تقدم لها حلولًا جذرية تُسهم في انطلاق تنمية مستدامة في هذه البلدان.