ارتبط تاريخ حركة المقاومة الفلسطينيّة في الوعي الفلسطينيّ الجمعيّ بواحد من أهم عناصرها وأكثرها انشباكًا مع الخطاب السياسيّ المبلوَر ومع الخطاب الشعبيّ الجمعيّ الهادِر الذي يتماهى في هذه الحالة مع الثقافة الوطنيّة. حملت أناشيد الثورة الفلسطينيّة مع انطلاقتها في منتصف الستينات، وما استضمرته من بلاغة الحريّة عبر حشد معجم الكفاح الفلسطينيّ الذي شكّل ركيزةً في تأجيج الجماهير، حملت معها مفاتيح اسرار هذا النضال: الجسد الثائر، السلاح، الصّمود، الحريّة والكرامة، الله، والموت في سبيل الأرض. شكّلت كلّ هذه المفردات عماد شعريّة الثّورة التي قدّمها كلّ من سعيد المزين ومحمّد حسيب القاضي وصلاح الدين الحسيني وغيرهم ممن قدّموا أشعارهم بصفتها الحارس الحقيقيّ للثّورة وضمان استقرارها في الوعي الجمعيّ الفلسطينيّ. هكذا، تمثّل أناشيد الثّورة بنسيجها المتداخل في ثيماتها وطرحها الديني المشبوك مع السياسيّ المشبوك مع النضاليّ المشبوك مع الجسديّ، “الجامع النصّي” المفتوح على تأويلات متناقضة حول مركز الثّقل الأهم: الجسد الفلسطينيّ ومآلاته والسّعي نحو الخلاص والحريّة بالتخلّص منه أو التغلّب عليه، بالموت. يصيرُ الجسد الفلسطينيّ تمثيلا للعبور والاجتياز لا مفرّ منه في قوننة الكفاح المسلّح، وبالتالي محورًا للتفكير في العقل الفلسطينيّ الجمعيّ والشعريّ مؤكّدًا فكرة نيتشة حول الجسد بصفته العقل العظيم الذي هو جوهر فهم الوعي وأداته.
النصّ الشعريّ الفلسطينيّ الثوريّ هو تجربةُ إبداعية تقوم على الشيء مقابل ضدّه، والشيء يحضن ضدّه والشيء من أجل ضدّه: الموت ضدّ/ ومن أجل الحياة، الغياب ضدّ/ ومن أجل الوجود، الألم ضدّ/ ومن أجل السعادة، الغضب ضدّ/ ومن أجل السكينة. شكّلت هذه الأغاني السّبيل إلى فَهم طبيعة الوجود الفلسطينيّ الذي ترنّح بين الايروسيّة والثاناتوسيّة، محرّكان ينفصلان ويتّصلان في جمل بلاغيّة يتأكّد حضورهما وغيابهما فيها في نفس الآن بين بلاغة المقموع وشعريّة الثائر.
يتشكّل هذان المحرّكان ويرتديان هيئات ميثولوجيّة متعدّدة كما لو أنّهما تؤكّدان أسطورة الخلق الفلسطينيّ من رحم المَوت والهزيمة. كلاهما، في قصيدة “أنا صامد” لسعيد المزين مثلا يحضران في هيئة مازوشيّة كما لو أن هذه الذات الجمعيّة تقبّلت الألم في أشكاله المألوفة (القتل والهدم والحطام) في الطّريق إلى تحقيق الرّغبة: الصمود فوق الأرض. تتوازى هذه العلاقة الحميميّة بين الألَم وحبّ الأرض في ترسيمها، مع علاقة الحبّ بين الحبيب وشريكه إلى حد إيذائه تحقيقًا للمتعة، لذّة لا تتحقق إلا بوجود الألم أو حالة الفقدان التي “يجب” أن تنوجد لتحقيق صورة الفلسطينيّ المستقبليّة المكتملة وهي صورة المستلب، المتألّم، الصّامد.
لنقرأ المقطع التالي من نفس القصيدة حيث يقول المزين:
أنا صامد صامد أنا صامد
فوق أرض بلادي أنا صامد
وان سرقوا زادي أنا صامد
وان قتلوا ولادي أنا صامد
وان هدموا بيتي يا بيتي
في ظل حطامك أنا صامد
أنا صامد صامد أنا صامد
الأنا، هي التأكيد المتواصل الذي يشير في ماهيّته إلى الأنا الأعلى بكلّ ما تحمله من توتّرات وصراعات الرغبة الفرديّة البحتة في الصّمود والنجاة والتوق إلى الحياة، التي تتحوّل هي نفسها إلى آلية التصاق بالأمر الجمعيّ لا مفرّ منها. هذا التوازي المتوازن لفكرتَي الحياة والموت في معجَم “محايد”، وأقول محايدا مقارنةً مع قصائد أخرى يخفتُ فيها الحياد ويضيعُ أمام بطش اللغة وضجيجها ومفرداتها الهادرة، وهو التوازن الذي يلبسُ هيئة الأمل والوعد بالنّصر كما هو الحال في قصيدة محمد كمال بدر (الله معنا والعزيمة من حديد)، حيث تنغمس “الأنا” في صَوت الأنا الأعلى الواعد بالبشرى، وحيث يتعزز الجانب الآخر من النّضال في بديل المفردات المتحوّلة من خطاب الدّم والموت والرغبة الثاناتوسيّة إلى مفردات الحريّة والنور والبشرى والنصر:
قسما بشمس الحق في أبهى ضحاها
سيعود لفلسطين بالنصر فتاها
قسما بنور الله في كل القلوب
وبقوة الأحرار من كل الشعوب
سيسير في الزحف الكبير شبابنا
وغدا طريق الدار بالبشرى يؤوب
قسما بحر يسمع اليوم نداها
سيعود لفلسطين بالنصر فتاها
تمتلك هذه اللغة قدرةً على التحييد أو الخفوت أو الموازنة لدى شعراء الثورة الفلسطينيّة، وهي نفسها اللغة القادرة على ضخّ الخطاب البلاغيّ بمفردات عنيفة ضاجّة في خطابها متوحّدة في غريزتها الثاناتوسيّة التي تفتك بالإيروس في ارتجال صاخب. لغة تبطشُ بالأنا (الجمعيّ) وتحوّل الثّورة من طريق التغيير إلى غاية الموت، غاية الغايات:
أنا الثورة أنا الثورة
أنا الإصرار أنا المدفع
أنا الألغـــــام إدفني
وفوقي أحرث وإزرع
(أنا الثورة، صلاح الدين الحسيني)
هذه المراوحة أو المتاخمة بين الغريزتين، تشكّل رؤية انشطاريّة لمفهوم الجسد الفلسطيني، الجسد ما بعد الحداثيّ صاحب التحوّلات الكبرى في المراحل الحرجة الكبرى لتاريخ النضال الفلسطينيّ. يتحوّل الجسد الفلسطينيّ إلى حيّز لممارسة ثقافة إيمانيّة تنشؤيه ستكتبُ المستقبل فيما بعد: التربية على الفتك بالجسد بوصفه الأقل قيمةً أو بوصفه التابع والعرضَ إذا ما قورن بقوّة الرّوح وحضورها. يقدّم هذا التفكير الثنائيّ التراتبيّ الدّينيّ الرّوح على الجسد، وبالتالي فإنّ التنازل عن الأخير يهوي أرضًا يقف في مقابل التّحليق عاليًا في السماء. لشرعنة هذا التنازل جمعيًا، لا بدّ وأن يوغل التخييل عميقًا في خلق المجاز المفرط في انفعاليّته وربّما زيفه، أو خلق بديل وإنتاج خيال موازٍ للواقع قادر على تغييره على مستوى الرؤية. هكذا يستعير القاضي مثلا المعجم الدّيني، أو ربّما إفساد الفكرة الروحانيّة بخلطها في حواس الجسد ومركّباته، حيث يمتزج الوضوء بالدّم، والرصاص بالأذان والمسبحة، والبارود بالصلاة، كلّ ذلك تحت شريعة التكبير في عمليّة تواطؤ الشاعر مع مجازه ومع حالة الخلط القصوى بين الديني والدنيوي، بين السمائيّ والأرضيّ، بين الخالد الأبديّ والفاسد الفاني:
أذن يا رصاص الثورة
فوق القيامة فوق الصخرة
ولسابع سما أذن
الله أكبر .. الله أكبر
حي على الثورة .. حي على الثورة
راح أتوضى بدمي
وعلى خشبة بارودتي أصلي
وحبات الرصاص مسبحتي
والثورة هي المحراب
(أذّن يا رصاص الثورة، محمد حسيب القاضي)
في دهاء شعريّ، تعادُ صياغة العلاقة بين عنف المخيّلة وعنف الواقع بالذهاب إلى أقصى درجاته في تفكيك الجسد الفلسطينيّ بهدف تثويره وتقديمه قربانًا في عمليّة تحوّل تنتهي إلى تأليهه لإغلاق هذه الدائرة لتأكيد الثورة ولتثبيت حضورها وتواجدها ميدانيًا. بمعنى أدقّ، ومن زاوية نيتشويّة للفكرة، تتحوّل الثّورة بفعل المفردات إلى حالة غريزيّة لا بدّ منها، وهي غريزة ثاناتوسيّة كما ذُكر سابقًا، تتلبّس الجسد الفلسطينيّ الخاضع وتسيطر عليها بصفتها الآخر صاحب السّلطة، وهي تلك الغريزة التي تحضن الموت بصفته طريق الحياة بل ضرورة جوهريّة في الوصول إلى الحياة، ومن بعدها إلى الخلود. هي بشكل أو آخر ثقافة تراجيديا لها خصوصيّاتها ولا يمكن أن نتغاضى عن المظهر الجسديّ للفلسطينيّ والذي يتشكّل نصًا وواقعًا من خلال تجسيد الثقافة الأفلاطونيّة والتربية التي ينهل منها هذا الجسد، حيث موقعه الثانويّ، المهمّش، المهمل والمنكوب والمزدرى، في مقابل الرّوح وموقعها. تلكَ هي فلسفة الموت التي تقوم عليها الديانات والمعتقدات، على حدّ رؤية نيتشة. الديانات التي تشيد ثنائية الجسد-الرّوح وتحط من قدر الأول وتعاقبه بزجّه في التعذيب والتخلّي عنه طمعًا فيما هو أكبر وأنقى، في الوقت الذي يعبّر فيه مظهر الجسد وموقعه في الواقع عن الثقافة التي ترعاه.
اذا كانت المسيحيّة في نظر نيتشة ديانة الانفعالات والمشاعر وتكريس فكرة الخطيئة والتكفير، فإنّ حضور الله في أناشيد الثّورة لا يقلّ تكريسًا لفكرة الشعور بالذّنب لدى الفلسطينيّ. هذا التكثيف المتواصل لحضور الله، وتثبيت القَسم في الأناشيد على نحو متكرر يفتحُ مشهد الكفاح الفلسطينيّ تاريخيّا وزمنيًا ومكانيًا على صلته مع الله بوصفه المحرّك السماويّ لعاطفة الجماهير، ويصبح مفهوم الفدائيّة واجبًا دينيًا قوميًا يطهّر فكرة الموت ويعبر به من محطة عفونة الجسد إلى طهارته. هكذا، وفي تركيز على هدف التنازل عما يسمّيه نيتشة العقل العظيم للإنسان -جسده- يعزّز المجاز الشعريّ المكثّف في أناشيد الثورة الشعور بالخطيئة في حال لو عشق الفلسطينيّ جسده وتراجع. لا مجال للتراجع، ففي الفرد تتجلّى صورة الجميع، والخلاص سيكتبه الجسد الفلسطيني: الفداء من أجل الخلاص، أو موت الجسد الآلة (بتعبير ديكارت) أو تعطيلها، حفاظًا على الجوهر. تلك الفكرة التي تعيدنا إلى الفكر المسيحيّ والموت على الصّليب، إلاّ أن الآلة الفلسطينيّة هنا، تعمل عبر اللوغوس الجمعي بصفتها دالا اجتماعيًا ومكوّنًا ثقافيًا تجريبيًا يقوم على فكرة التنويع في طرق الفداء، الإبداع في أشكال الموت، الانتقال من الموت العاديّ إلى الموت المبهر والصاخب، ذلك الذي يوغل في طقوس هدم الجسد وخلخلته للارتقاء إلى القداسة، الكمال المأمول.
ولعلّ أكثر ما يؤكّد ذلك، هو حضور صيغة الأمر في الفعل والقول ” خلي المدفع… نارة تولع”، “يا فدائي خلي رصاصك صايب، احمي الثورة بدمك احمي.. يا خويا، واكسر ناب الحل السلمي.. هادي الثورة للملايين…” إلخ، صيغة الأمر المتكررة على طول النصّ القرآنيّ، الصيغة التي تحثّ وتلحّ وتغضب وتحنّ وتستعطف.
كتبت أناشيد الثّورة مجاز الكفاح الفلسطينيّ المسلّح، وأرست دعائم للمعجم النضاليّ وكيف يجب أن يتمثّل ويتضّح في تلك الحقبة من التاريخ الفلسطينيّ، لكنّها لم تترك مجالا لخطاب مستقبليّ بديل لهذا الجسد الفلسطينيّ المفديّ ومصيره، ذلك لأنّ النضال الفلسطينيّ ظلّ مفتوحًا على سؤال الموت وفي حالة صراعٍ يوميّ على ضفّتين لا يقين لهما: الأمل في الجسد والأمل في موته.