في الحديث عن مشاكل في السينما الفلسطينية، وقبل أن يجرّنا الحديث إلى تشعبات في هذه المشاكل، نتعثر، بداية، في المفردة ذاتها، مرجّحين استبدال “أزمات” بـ “مشاكل”، فلا الحديث محدود بما هو طارئ، ولا هو مقتصر على مثال أو اثنين أو عشرة، وحسب، من هذه السينما.
من ذلك، الأصح هو الحديث عن أزمة لا مشكلة، في موضوع هذه الرسالة، أي العلاقة المعتلّة بين الفيلم وجمهوره. وهي أزمة لأن “المشاكل” طالت زمانياً واستقرت، ولأنها تعممت على الإنتاج السينمائي الفلسطيني دون استثناءات يمكن أن تخطر على بال أحدنا، فالعلاقة الناقصة بين الفيلم الفلسطيني ومُشاهده الفلسطيني، هي حالة مزمنة تراكمت في نقصانها حتى اعتادها أحدنا، وما عاد يُسأل عن منشئها أو عن حلّها. وليست المشكلة أساساً، هنا، لا في صنّاع الفيلم ولا في جمهوره.
بالعودة، مثلاً، إلى بدايات هذه السينما، نجد أن الأزمة ليست من بنيتها، ولا هي متجذرة فيها، إذ كانت العلاقة، في زمن الثورة في السبعينيات، على النقيض مما هي عليه اليوم، بين هذا الفيلم وذلك المشاهد، من دون الحاجة إلى صالة سينما. كانت العروض مستمرة في المخيمات والمراكز على أنواعها، وهذا موضوع آخر سنتركه جانباً في حديثنا هنا المتعلق بالسنوات التالية، منذ الثمانينيات، وتحديداً أكثر، منذ العام ألفين، حين كثرت الأفلام الفلسطينية، وكثرت، بموازاتها، رؤوس الأموال ومشاريعها (ما بعد أوسلو)، ومنها الثقافية.
هذه الفجوة بين الفيلم الفلسطيني (للدقة: بين إتاحته وعرضه) وبين جمهوره أو مشاهديه في البلاد، تتضح أكثر مع أفلام ممتازة لا تجد طريقها إلا بتعرّج وندرة، بعد انطلاقها من المهرجانات إلى صالات العالم. سيكون فيلم «حمى البحر المتوسط» لمها حاج، مثلاً، في مهرجان هنا وأمسية هناك، في فلسطين، سيشهد عروضاً خاصة في مؤسسات، وهذا ضروري، لكن العلاقة مع الجمهور تتخطى هذه العروض المتفرقة لتصير، وهذا ما يجب، علاقة يومية خارج سياقات المناسبات الثقافية والفنية. لا يقع اللوم في ذلك سوى على رؤوس أموال “وطنية” لا تجد في صالات السينما استثماراً مربحاً، فصنّاع الأفلام هنا في صفّ مشاهدي هذه الأفلام.
العلاقة بين الفيلم والجمهور الفلسطينيين متوترة، وتناوُلها لا يكون إلا بحذر، لحساسية الحالة الفلسطينية في تداخل الوطني بالفنّي، والسياسي بالاجتماعي، والراهن بالتاريخي. ولا يمكن تجاهل حقيقة أن الوسيط النقدي كما تقدمه الصحافة أو مؤسسات النشر، لا يملأ المساحة الواسعة بين الفيلم وجمهوره، فمن ناحية، لا تخصصات في النقد السينمائي الفلسطيني، ومن ناحية، لا مراجع نقدية في هذه السينما، إلا القليل، والمكتوب بالعربية منه متواضع في تناوله.
هذا الفراغ المتروك بين جانبي العملية السينمائية، الفيلم وجمهوره، مَوضعَ الجمهورَ في غير مكانه، فكان النقد عملية تشاركية وتفاعلية استباحتها الأذواق والانطباعات غير المهنيّة، وهذه، فلسطينياً، تكون مبنية على آراء محافظة ورجعية بل انتكاسية في كثير منها، تعيد تلقّي العمل إلى قيمته السياسية والأخلاقية كما يراها أصحابها.
هذا الفراغ ذاته، مَوضعَ الفيلمَ في غير مكانه الطبيعي، بين جمهوره، فتطبّع الفيلم الفلسطيني وصنّاعُه مع فكرة أن يكون الفلسطيني آخر المشاهدين، وأن يكون العرض الدولي قبل الإقليمي والإقليمي قبل المحلي، وليس الحديث هنا عن المهرجانات التي تستلزم عروضاً أولى، إنما عن العروض التجارية التي تسمح لكاتب هذه الأسطر أن يشاهد فيلماً فلسطينياً متاحاً في صالات فرنسية، قبل غيره في فلسطين والمخيمات خارجها، وهذا الأخير قد يضطر للانتظار سنوات إضافية حتى يُتاح الفيلم بطريقة ما إلكترونياً، ما يخرّب ظروف المشاهدة ومستوى التلقي.
الجمهور في فلسطين يستحق عروضاً غير موسمية لأفلام تحكي عنه، وصنّاع الأفلام يستحقون تلك العلاقة، المتينة، مع جمهورهم. لا أعرف متى سيُعرض «حمى البحر المتوسط» في فلسطين، مهما كانت المناسبة. لكنه، كغيره من الأفلام، يستحق الانطلاق من مهرجان كان السينمائي إلى صالات كل العالم، بما في ذلك البلد الذي مثّله في المهرجان.