تتواصل الاعتقالات ويتحول فرع فلسطين إلى محشر لا يفضي إلى خارج جهنم.
ضاقت المهاجع والزنازين، فبدؤوا ببناء أماكن اعتقال إضافية في الباحة القريبة من غرف التحقيق، وأعادوا توزيع وتكديس المعتقلين وفق اعتبارات جديدة أمْلتها حسابات التحقيق وتزايد أعداد الرفيقات المعتقلات.
نقلونا من المزدوجة الأولى إلى المزدوجة الثانية على الطرف المقابِل من كوريدور قبو المبنى، وأفرغوا أحد المهاجع من رفاق حملة 1986، وبعض رفاق المنفردات، وضمُّوهم إلينا، ثم نقلوا الرفيقات الموجودات في الزنازين وغرف التحقيق إلى مكاننا في المزدوجة الأولى.
أضافت الإدارة إلينا سجينين لبنانيين، أحدهما اسمه عليّ، شاب عشرينيّ ذو بنية جسدية تبدو متينة، والآخر إدريس، رجل أربعينيّ أشقر بعينين ماكرتين وأنف صقريّ، وقد حضر “أبو حسن” مدير انضباط الفرع، ليبلغنا أن المدعو إدريس هو مسؤول المزدوجة وصِلة الوصل مع الإدارة.
كان إدريس معتدّاً بنفسه وهو يملي علينا نظام الحياة في المزدوجة وضرورة الالتزام بكامل التفاصيل والأوامر.
شاهد إدريس كيف نخرج إلى التحقيق، وكيف نعود منه بكامل ما للدماء من مهابة. بضعة أيام على هذا المنوال كانت كافية ليتنازل إدريس عن بعض الاعتداد، ثم شاهد كيف انتخبنا لجنة لإدارة أمورنا، وقد أبلغته اللجنة أنه موجود بيننا بكامل احترامه كواحد منّا، وأن دوره مقتصر على العلاقة مع ما هو خارج المزودجة وليس داخلها.
حاول أن يبدي مرونة وتفهّماً من جهة، ولكنه من جهة أخرى أبدى مخاوفه مما يمكن أن يتعرَّض له في حال حدوث أي مخالفات للقوانين، فهو أولاً وآخيراً مسؤول المزدوجة أمام الإدارة، وأي مخالفة مهما صغرت لا بدَّ أن تقع مسؤوليتها عليه شخصياً.
يوماً وراء يوم كان يتضح لنا أن إدريس قابض مهمته بجدّ، ولهذا بدأت تسميته بـ “إبليس” تحلّ تدريجياً محل “إدريس”.
لم يكن هناك ما نخشى عليه سوى سِرّية تواصلنا مع الرفاق الموجودين في المنفردات الواقعة خلف مزدوجتنا. ذلك هو الشيء الوحيد الذي يجب أن لا يعلم به السيد إبليس.
استطعنا أن نعرف بالضبط من هم الرفاق الموجودين خلفنا، وحدَّدنا عبر “المورس” موقع زنزانة رفيقنا أبو النور. كان عليّ يومياً أن أتبادل مع أبو النور بعض تفاصيل التحقيق التي ينبغي أن أوصلها له أو يوصلها لي، ولا سيما تلك التي تخص المكتب السياسي.
لم أعرف أحداً يستطيع دّقَّ “المورس” على الجدار بسرعةِ وإتقانِ أبو النور. أخوه أبو وجيه كان سريعاً مثله ولكنه في قناعتي كان يرتبك في ترتيب حروف المقطع الأخير “ضظغ”.
تبدو قصة المورس للوهلة الأولى شديدة التعقيد، ولكنها مع المران تصبح يسيرة إلى حد يمكن للمرء أن يكتبها أو ينقرها على الجدار كما لو أنه يتحدّث ببطء.
هو مورس خاص مستوحى من أجهزة المورس التي كانت ترسل البرقيات بين المحافظات أو بين الوحدات العسكرية من خلال شيفرات ورموز صوتية ذات أبعاد أو أطوال متباينة يرمز كل منها إلى حرف أبجدي. أما المورس الذي استخدمناه فكان مبنياً على نسق المقاطع الثمانية لأبجديتنا العربية (أبجد هوز حطي كلمن سعفص قرشت ثخذ ضظغ).
في الواقع كثيرون لم يكونوا يعرفون من هذا النسق سوى المقاطع الأربعة وربما الستة الأولى، وكان لا بد لهم من حفظ المقطعين الأخيرين ” ثخذ ضظغ” لكي يتمكنوا من التعامل مع المورس.
كنت أحاول تبسيط الأمر لبعض الرفاق الذين يرغبون في التعلّم، وكان المثال التطبيقي، الذي يقتضي أن يحفظ المرء المقاطع الثمانية، لكي يستطيع دقّه هو (شرق ثم غرب).
التواصل بهذه الطريقة يفترض بالطبع أن الطرفين يعرفان مسبقاً أن النقرة أو النقرات الأولى، ثم التوقف لبرهة، هي إشارة إلى رقم المقطع، والنقرة أو النقرات التالية تشير إلى رقم الحرف. لكي نكتب (غرب) ينبغي أن ننقر 8 نقرات لنحدّد أن الحرف الذي نريده موجود في المقطع 8 الذي هو “ضظغ”، ثم وقفة قصيرة ننقر بعدها 3 نقرات إشارة إلى الحرف الثالث، أي الغين. حرف الراء بعدها يقتضي 6 نقرات أي مقطع “قرشت” ثم نقرتين أي الراء. حرف الباء بعدها يقتضي نقرة واحدة إشارة إلى المقطع الأول “أبجد”، ثم نقرتين إشارة إلى الحرف الثاني من مقطع “أبجد”، وهلمّ جرّا.
في البداية يبدو الموضوع مربِكاً، ولكن الحاجة والتركيز والتكرارية تجعل الأمور كجريان الماء.
ذات يوم دقَّ لي أبو النور يسألني إن كان هناك ما هو جديد، وحين انتهينا من حديثنا كتب لي:
– مضى على اعتقالك شهور. ألم تكتب خلالها شعراً؟
– بلى كتبت.
– أسمعني واحدة.
كتبت له قصيدة عنوانها “حكاية”، فردَّ عليّ بأنها قصيدة جميلة. شكرته على لطف مجاملته، فقال إنه لم يجامل، والدليل أنه حفظها، وسيدقّها لي مجدداً لأتأكد.
الغريب أن أبو النور دقّ لي القصيدة كاملة بدون أي خلل سوى إضافة حرف عطف في إحدى الشطرات.
أخبرت الرفاق بما حدث، وطلبت منهم أن يكونوا شهوداً في حال كذَّبني أحدهم أو كذّب أبو النور مستقبلاً.
في أوقات الاتصال كان الرفاق يراقبون إدريس، ويعطوني إشارة في حال تحرّكه من مكانه. ورغم ذلك استطاع إدريس أن يغافل الجميع ويفاجئني وأنا أضع أذني على الجدار.
حدجني بنظرة متعددة التأويلات، ثم هزّ رأسه بتأويلات متعددة أيضاً، وعاد إلى مكانه خلف باب المزدوجة.
لاحقاً قال لي مدير انضباط الفرع أنه يعرف بأننا نحاول أن نتهامس مع المنفردات التي وراءنا، ولكنكم عبثاً تحاولون، فللحيطان آذان في كل مكان ما عدا هنا.
حين ضبطني إدريس وأذني على الجدار، لم يسمع أي صوت، وعلى الأرجح ظنَّ أني كنت أهمس.
مع ذلك كان ينبغي وضع حد لهذا الإبليس. ليس معقولاً أن يبقى بيننا كاللغم.