جديد: “العدالة الانتقالية والانتقال الديمقراطي في البلدان العربية” في مجلدين

رمان الثقافية

مجلة ثقافية فلسطينية

صدر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات من "سلسلة دراسات التحول الديمقراطي" كتاب "العدالة الانتقالية والانتقال الديمقراطي في البلدان العربية، المجلد الثاني: التجربة التونسية" لأمين بمشاركة مجموعة مؤلفين، وهو من تحرير مهدي مبروك. يقع الكتاب في 680 صفحة ويشتمل على إرجاعات ببليوغرافية وفهرس عام.

...للكاتب/ة

اشتراكك بنشرتنا البريدية سيحمل جديدنا إليك كل أسبوع

الأكثر قراءة

الصحافة الثقافية وما نناضل من أجله
أين نحن في السير قدما...
عشرة أفلام عظيمة عن المافيا (ترجمة)
10 أفلام تشويق إيروتيكية رائعة (ترجمة)

من أجل صحافة ثقافية فلسطينية متخصصة ومستقلة

19/08/2022

تصوير: اسماء الغول

رمان الثقافية

مجلة ثقافية فلسطينية

رمان الثقافية

المجلد الأول
 

صدر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات من “سلسلة دراسات التحول الديمقراطي” كتاب “العدالة الانتقالية والانتقال الديمقراطي في البلدان العربية، المجلد الأول: حالات عربية ودولية”، لأحمد إدعلي وآخرين، وهو من تحرير عبد الفتاح ماضي وعبده موسى. يتألف الكتاب من 376 صفحة، ويشتمل على إرجاعات ببليوغرافية وفهرس عام.

لم تشهد دولنا العربية أي تجربة مكتملة وناجحة للعدالة الانتقالية، وكان هذا طبيعيًا في ظل شيوع التسلُّطية وتعثُّر حركات الإصلاح في كثير منها. واستمرت هذه الحال في أعقاب ثورات عام 2011، مع ظهور بعض المحاولات الجزئية، ما فتح أبواب الأجندة البحثية على عدد من الأسئلة التي تتناولها فصول هذا الكتاب، منها: كيف يمكن التعامل مع مطالب ضحايا انتهاكات الأنظمة القديمة بتحقيق العدالة وكشف الحقيقة واستعادة الذاكرة وجبر الأضرار؟ وما المصالحة؟ وهل يمكن تحقيق هذه الأهداف تزامنًا؟ وكيف يمكن التوفيق بين محاسبة منتهكي حقوق الإنسان في الأنظمة القديمة واستقرار النظام الديمقراطي الوليد؟ وما العمل مع من كانوا جزءًا من مؤسسات القمع في الأنظمة السابقة؟ وما ضمانات عدم تكرار تلك الانتهاكات؟ وما طبيعة الإجراءات التي اتُّخذت في التجارب العربية المحدودة؟ ولِمَ أخفقت؟ وهل يمكن العدالة الانتقالية أن تكون مدخلًا لانتقال ديمقراطي وتحقيق مصالحات سياسية واجتماعية شاملة في بعض الدول العربية؟

لماذا ينبغي مفهمة العدالة الانتقالية في البلدان العربية نظريًا وتجريبيًا؟

أصبح واضحًا أن العدالة الانتقالية، من الناحية النظرية ووفقًا لتطبيقها في سياقات محددة، لم تُطبّق دائمًا بصرامة؛ لذلك يجب المواظبة على التحقق من فاعليتها، وكذلك تطبيقها ضمن حالات معينة، ولا سيما آلياتها. فالدول، عندما تضع آليات العدالة الانتقالية، تراعي في تصميمها مجموعة مزايا مرتبطة بحقوق الإنسان والديمقراطية. وهذا أمر بالغ الأهمية، لا سيما أنّ كثيرًا من المجتمعات التي تحدث فيها انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان تعاني انقسامات قائمة على قضايا الهوية.

وعلى الرغم من أن العدالة الانتقالية لن تتمكن على الأرجح من أداء دور مباشر في إنهاء النزاعات، فإنها تتمكن أحيانًا من أداء دور في تمهيد الطريق للتعامل مع المشكلات في المستقبل. ولكي يحدث ذلك، يجب التشديد على الصلة الوثيقة بين النظرية والعمل الميداني.

يجب تقييم الاختلافات بشأن العدالة الانتقالية، من حيث طبيعتها وتوقيت استخدامها وكيفيته، في ضوء حقيقة أنها تعمل دائمًا في سياق ومناخ سياسي معيّنَين. وفي الأحوال كلها، يتعين فهم هذه الظروف تمامًا، وأن تكون قابلة للتطبيق الكامل، لتحديد مدى إمكانية تطبيق هذا النموذج في سياق آخر. ومن ثمّ، فإن حقيقة أن العدالة الانتقالية هي مسألة سياسية، تأتي من أن القضايا التي تتعامل معها، ومع من تتعامل، والأهداف التي تصبو إليها، والأثر الذي تتركه، تحدث جميعًا في الساحة السياسية. ويجب إدراك أن لذلك آثارًا سياسية عميقة.

وهي لا تُفهم غالبًا على نحوٍ كافٍ، ولهذا السبب فهي قابلة للتلاعب، وقد جرى التلاعب بها في بعض الحالات. وفي الواقع، فإن القرارات التي تتخذها الدول بشأن هذه القضايا هي قرارات سياسية بامتياز. ومن هنا جاء استخدام العدالة الانتقالية لأغراض سياسية، وبسبب هذا التلاعب لحقت بسمعتها بعض الأضرار الجسيمة. لكن مما لا شك فيه أن العدالة الانتقالية خضعت لتحليل نقدي صارم جدًا في الآونة الأخيرة. وقد أثار ذلك شكوكًا بشأن فاعلية مفهوم العدالة الانتقالية والآليات المحددة الخاصة بها، والكفيلة بمعالجة شاملة للفظائع الواسعة المرتكبة في مجال حقوق الإنسان.

وفي الوقت الحاضر، وجزئيًا بسبب الانتقادات التي انتشرت في دراسات العدالة الانتقالية، صار لزامًا على المجتمعات التي تتطلَّع إلى تنفيذ العدالة الانتقالية طرح أسئلة إضافية، من بينها: ما الحقيقة؟ وما المصالحة؟ وكيف ترتبط أهداف الحقيقة والمصالحة والأهداف الأخرى في ما بينها؟ وهل يمكن تحقيق هذه الأهداف متزامنةً؟ وهل يمكن تحقيق هذه الأهداف في أعقاب انتهاكات واسعة النطاق لحقوق الإنسان؟ وإلى أي درجة؟ كما تُثار أسئلة أخرى مثل: متى يجب تطبيق العدالة الانتقالية؟ وهل يمكن تطبيقها حتى قبل الانتقال؟ وهل فاعليتها مشروطة بتنفيذها من جانب الدولة؟ إن الإجابات عن هذه الأسئلة قد تفضي إلى اعتماد نهجٍ أفضل في تحقيق العدالة الانتقالية، إضافة إلى جعلها أكثر قابلية للتطبيق العملي على عدد أكبر من الحالات.

المصالحة والحقيقة في جنوب أفريقيا: بحث في منجزات العدالة الانتقالية ومآزقها

أمست جنوب أفريقيا نموذجًا لبلدٍ استطاع إنجاح مسلسل الانتقال الديمقراطي، على الرغم من المخاطر التي كانت تتربّص به. ومثّل نجاح الفاعلين في تيسير الانتقال الديمقراطي في بلد جماعاتي مكلوم ومتعدد الأعراق إنجازًا تاريخيًا مُلهِمًا. فلا غرو إذا تواتر الحديث عن “المعجزة” الجنوب أفريقية. بيد أن نزوع بعضهم إلى أسطرة إنجاز هذا البلد يجب ألا يحجب الهوّة بين التطلّعات المعيارية للفاعلين والواقع، وكيفية توسّل مهندسي العدالة الانتقالية ببراغماتية رجّحت كفة الصفح على مقتضى العدالة، توخّيًا لتثبيت التوافق السياسي. وعلى الرغم من ذلك، فإن هذا التمرين الديمقراطي، الذي جرى في بيئة تحفل بالمخاطر، يساعد في استخلاص بعض الدروس المفيدة لمسلسلات العدالة الانتقالية وتجارب التحول في العالم العربي، وعمومًا للبلدان التي تكون في سياقات الخروج من الدكتاتورية أو ما بعد الحرب الأهلية.

أظهرت تجربة جنوب أفريقيا دور الفاعلين الحاسم، وقدرتهم على تدبير الوضعيات الحرجة. فانتشال البلد من أتون الحرب الأهلية إلى شط السلم المدني، لم يكن ليتحقق لولا انخراطهم في منطق التفاوض وسعيهم للتوافق بشأن النواظم الميسرة عبور الفترات الحرجة. وإضافة إلى دور التوافق الأكسيولوجي للنخب في تذليل الخلافات، اضطلعت القواعد والمبادئ الدستورية بأدوار توجيهية مهمة؛ إذ تشكّلت الديمقراطية الجنوب أفريقية من مبادئ دستورية كانت بمنزلة وصايا يسّرت التئام الأطراف المتنازعة بشأن مائدة المفاوضات. وأضفت هذه النواظم بعدًا عقلانيًا على أداء الفاعلين؛ إذ لم يكن في الإمكان تفكيك التركة الثقيلة لنظام الفصل العنصري والتعامل معها بمنطق القطيعة الجذرية والكنس الشامل، إلا من خلال التغيير المتدرّج.

ويبدو أن لجنة الحقيقة والمصالحة تعاملت مع مشروع العدالة الانتقالية بمنطق الأولويات وتأمين الانتقال السياسي. ولا غرابة إذا اعتبر بعضهم أن ديمقراطية جنوب أفريقيا “كانت ديمقراطية العقل، قبل أن تكون ديمقراطية العاطفة”.

قد تبدو جنوب أفريقيا، في وضع مقايضة العدالة بالصفح، أو على الأقل ترجيح كفة الصفح على العدالة، والمستقبل على حساب الماضي. لكن هذا المنزع يعبّر عن منطق يعطي الأولوية لمواجهة تحديات الوضع الجديد عوض النزوع الاسترجاعي إلى مظالم الماضي، كما يكشف عن رؤية عملية للعدالة. ففي مقابل الطابع المثالي للتطلّعات المعيارية للجنوب أفريقيين، تعكس صيغة العدالة التصالحية جوابًا واقعيًا عن سؤال: ما العدالة؟ يبدو أن مهندسي تلك الصيغة نأوا عن رؤية كانطية متعالية، وعن المثالية التي تتخلل رؤية جون رولز، ليتوسّلوا بالرؤية العملية لأطروحة أمارتيا سن، عدالة يمكن الاتفاق على مضمونها، وتساعد في تقليص الظلم بما يسمح بإعطاء فرص أفضل لأطياف “أمة قوس قزح”.

تدبير الذاكرة في سياق العدالة الانتقالية دراسة مقارنة للتجربة المغربية

تقع الذاكرة في صلب تدابير العدالة الانتقالية المتعلقة بكشف حقيقة الماضي الأليم، وإعادة قراءته، وإنصاف ضحاياه، وتحقيق المصالحة الوطنية، والعمل على تفادي عودة أساليبه القمعية في المستقبل عن طريق الإصلاح السياسي وبناء المجتمع الديمقراطي.

كان تدبير الذاكرة من أهم أعمال هيئة الإنصاف والمصالحة لأنها ربطت بها بقية آلياتها، وخاصة في ظل تبنيها العدالة الإجرائية التعويضية بدلًا من العدالة الجزائية. وإذا كانت قد حققت نتائج مهمة في الكشف عن كثير من الحقائق التاريخية المرتبطة بالانتهاكات الواسعة لحقوق الإنسان التي عرفها المغرب في سنوات الرصاص، وعلى مستوى سماع شهادات الضحايا والإنصاف وجبر الضرر والمصالحة الوطنية، فإن منجزها ظل ناقصًا، ولازمَه النسيان، وذلك لأسباب سياسية. فقد جاءت في سياق الاستمرارية السياسية وفصل العدالة الانتقالية عن الانتقال الديمقراطي الذي يعتبر بمنزلة مرحلة انتقالية محددة زمانيًا تتضمن مجموعة من الترتيبات والإجراءات التي تهدف إلى الانتقال من دولة سلطوية إلى دولة ديمقراطية تحترم حقوق الإنسان، وفي خضم المعضلات التي عرفتها العدالة المتعلقة بجرائم الدولة، وفي إثر التراكمات التي حققتها تجارب العدالة الانتقالية التي تأكد من خلال نماذج منها أنها وجدت، بتفاوت بين الحالة والأخرى، صعوبات في إنجاز المهمات المناطة بها، بما فيها التجارب التي أحدثت في سياقات القطيعة والثورة. وتبيَّن من خلال التطورات التي عرفها المغرب، بعد إنجاز عدالته الانتقالية، أنها أسهمت في التحول الديمقراطي بوصفه عملية تراكمية وصيرورة معقدة تستهدف دمج الديمقراطية في المنظومات السياسية والاجتماعية والثقافية والأيديولوجية وتحويلها إلى ثقافة وسلوك لدى الأفراد والجماعات. لكن هذا التحول ظل بطيئًا وغير منتهٍ ورهين صراع بين ديناميتين، الأولى إصلاحية والثانية محافظة. ومن ثمّ، فإذا كان المغرب قد اجتاز، مقارنةً بالكثير من دول محيطه العربي الإسلامي، أشواطًا كبيرة على سكة التمهيد للانتقال الديمقراطي، فإنه يعرف في الوقت نفسه بعض المؤشرات التي تعاكس ذلك.

العدالة الانتقالية في ليبيا: تشريعات عدة بلا مردود في الواقع

عانى الليبيون، أفرادًا وجماعات، انتهاكات ممنهجة لحقوقهم السياسية والاجتماعية والاقتصادية، خلال حقبة العقيد معمر القذافي. وتسبب الانهيار السريع للنظام مع نشوب الثورة، إلى جانب التفتُّت الاجتماعي والثقافي، في الكثير من المظالم المجتمعية. وعقّد الواقع الاستثنائي للدولة الليبية، بعد عقود من هيمنة القذافي، جهود إنشاء منظومة للعدالة الانتقالية في ليبيا بعد الثورة؛ فلم تقتصر انتهاكات حقوق الإنسان على فترة حكم النظام السابق، إنما تبعها العديد من الانتهاكات التي يرقى معظمها إلى جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية خلال الحرب الأهلية وبعد إطاحة النظام. ويضاف إلى ذلك مشكلة الميليشيات والجماعات المسلحة؛ ما عرقل جهود نزع السلاح وتحقيق العدالة والمحاسبة. يفاقم ذلك كله فشل الحكومات المتعاقبة منذ الثورة في إحكام سيطرتها على الأوضاع الأمنية، وتورّط جهات تابعة لها في عدد من الانتهاكات، بما في ذلك استمرار الاعتقالات والاحتجاز غير القانوني والتعذيب والقتل خارج القانون.

ليست ليبيا فريدة في ذلك بين الدول، فمنذ تسعينيات القرن العشرين، شهد العالم سلسلة من عمليات الانتقال السياسي، وكافح من خلال هذه العمليات، وما يسبقها ويرافقها من إشكالات تتعلق بالأفراد والدول، للتغلب على تركة ثقيلة، “تراوح بين الاغتصاب والعنف المنزلي، والفظائع الجماعية للحروب القذرة والإبادة الجماعية والصراعات العرقية التي ترعاها الدولة”.

فكيف يمكن إيجاد التفاهم الاجتماعي بشأن نظام جديد يرتكز على سيادة القانون؟ وما التحركات القانونية التي لها أهمية في تغير شكل المجتمع والدولة وجوهرهما؟ وما علاقة تعامل الدولة مع ميراثها من القمع وآفاق إيجاد نظام ليبرالي؟

بناء على ذلك، تتضح الأهمية القصوى للعدالة الانتقالية في ليبيا؛ فهي مفتاح استقرار هذه الدولة. كما أن التجربة الليبية ذات قيمة استثنائية بالنسبة إلى برامج العدالة الانتقالية في مرحلة ما بعد الصراع في المنطقة في دول مثل اليمن وسورية.

المجلد الثاني
 

صدر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات من “سلسلة دراسات التحول الديمقراطي” كتاب “العدالة الانتقالية والانتقال الديمقراطي في البلدان العربية، المجلد الثاني: التجربة التونسية” لأمين بمشاركة مجموعة مؤلفين، وهو من تحرير مهدي مبروك. يقع الكتاب في 680 صفحة ويشتمل على إرجاعات ببليوغرافية وفهرس عام.

يعدّ مسار العدالة الانتقالية ركنًا من أركان تجارب الانتقال الديمقراطي، حيث يساهم في صوغ ملامحه عدد من الفاعلين، مثل النخب والمجتمع المدني ووسائل الإعلام وضحايا الانتهاكات أيضًا، ويسعى إلى ترسيخ أسس الانتقال الديمقراطي عبر عديد الآليات التي تهدف إلى تفكيك منظومة الاستبداد والقطع معها من أجل بناء نظام ديمقراطي لا تتكرر فيه تلك الانتهاكات. وعلى الرغم من نبل أهداف مسارات العدالة الانتقالية وما تقوم به من كشف للحقيقة خاصة، فإنها تواجه دائمًا بالاستنكار والرفض، ولو كان في فترات محدودة زمنيًا. ولفهم خصوصيات التجربة التونسية في هذا الشأن، خصص المركز العربي هذا المجلد الثاني لتحليل مسار تشكّل العدالة الانتقالية في تونس ودور مختلف الفاعلين ضمنه ومآلاتها التي ما زالت تثير العديد من الأسئلة.

يبحث هذا الكتاب الذي يتألف من اثني عشر فصلًا في المدونة القانونية الوطنية والدولية التي أطرت مقاربة العدالة الانتقالية ورسمت ملامحها، ويطمح إلى تحليلها، كما يهدف إلى تقويم أداء مهمات هيئة الحقيقة والكرامة، إضافة إلى تركيزه على دور المجتمع المدني والنخب ووسائل الإعلام وضحايا الانتهاكات في هذا المسار.

سياسات مكافحة الفساد في إطار العدالة الانتقالية في تونس

لم تشذّ العدالة الانتقالية المرتبطة بمكافحة الفساد عن الانطباع المبني على عدم نجاحها في تحقيق أهم أهدافها، غير أن ذلك يجب ألا يؤدي إلى إعلان الفشل النهائي لهذا المسار؛ نظرًا إلى تواصل مسار الانتقال الديمقراطي في تونس الذي يعتبر المجال الوحيد الممكن لتطهير الحياة العامة والحياة السياسية من الفساد.

يتيح ترسيخ التجربة الديمقراطية في تونس فرصة أخرى لمعالجة أفعال الفساد التي ارتُكبت قبل قيام الثورة، لكن يبقى النجاح في تحقيق هذه الغاية مرتبطًا بشرط جوهري يتمثل بإعادة قراءة الأسس النظرية التي تقوم عليها العدالة الانتقالية، على نحو يؤمّن المرور من سياق الحلول الثورية إلى سياق الحلول الإصلاحية. من البدهي أن تقدم الدولة والمجتمع في سياق العدالة الانتقالية مجموعةً من الحلول النسبية والمتناسبة مع منطق العدالة الانتقالية باعتبارها مختلفة عن العدالة التقليدية أو “الشكلية”، مثل تغليب العفو والمُضيّ في المصالحة، في مقابل تحقيق مكاسب مستقبلية متعددة، مثل استرجاع بعض الأموال المنهوبة والمضيّ في تحقيق العدالة الاجتماعية والتنمية الاقتصادية، خاصةً تأمين الانتقال نحو الديمقراطية.

كان لزامًا على الدولة أن تسعى لتحقيق أهداف العدالة الانتقالية، من كشف حقائق ومحاسبة ومصالحة، وهو ما لم يحصل؛ ولذلك تأرجحت العدالة الانتقالية المتصلة بالفساد بين متطلّبات العدالة الانتقالية المرنة ومتطلّبات العدالة الشكلية الصارمة، خصوصًا في ما يتعلق بالمصالحة الاقتصادية التي تعتبر روح العدالة الانتقالية. وساهم عدم إنجاز المصالحة الاقتصادية في استمرار تداول حجم من الأموال في الحياة العامة مصدرها الفساد؛ فبقاء رجال الأعمال المتورطين في الفساد تحت طائلة الابتزاز السياسي يدفعهم إلى البحث عن الحماية والحصانة من طريق تمويل السياسيين الذين يحققون لهم تلك الغاية.

بناءً على ما سبق، يمكن تأكيد أن إعادة إطلاق جهود المصالحة الاقتصادية أضحت اليوم ضرورة لتطهير الحياة السياسية من المال الفاسد؛ ما من شأنه أن يدعم مسار الانتقال الديمقراطي. ويتطلب ذلك استكمال مسار العدالة الانتقالية على نحو مطابق لقواعد قانون العدالة الانتقالية ومبادئ الدستور، وبطريقة تُحيّد الاعتبارات السياسية الظرفية.

في مقابل ذلك، تبرز أهمية الدولة الديمقراطية في كونها الإطار الأنسب لإيجاد بيئة طاردة للفساد؛ فهذه الدولة ليست خالية من الفساد، لكن ترسّخ الآليات الديمقراطية الإجرائية واتساع نطاق الحريات والفصل الواضح بين السلطات، تُعتبر عناصر تضمن المساءلة والمحاسبة وتساعد في المحاصرة الناجعة للفساد. وعلى النقيض من ذلك، يؤدي الاستبداد وغياب الديمقراطية إلى التغييرات العنيفة التي لا تضمن انتقالًا ديمقراطيًا ولا مكافحة فساد.

العدالة الانتقالية: المجتمع المدني والنخب

لئن وجدت هيئة الحقيقة والكرامة دعمًا من فاعلين خارجيين وأحزاب ومنظمات ذات توجهات أو ميول إسلامية في الأساس، فإن طيف اليسار بأحزابه ونخبه ومنظماته الحقوقية والجمعياتية وجد نفسه في مأزق؛ إذ بتصنيفه سهام بن سدرين (رئيسة الهيئة) متواطئةً مع الإسلاميين والسلفيين، أوقع نفسه وتابعيه في خلطين: الأول أنه أرجع مسألة العدالة الانتقالية إلى بوتقة الصراع الأيديولوجي، مغفلًا بذلك أولويات المرحلة الانتقالية؛ والثاني اختزل منظومة العدالة الانتقالية في شخص رئيستها حتى استحالت هيئة الحقيقة والكرامة هيئة بن سدرين، وبناءً عليه هيئة تابعة للإسلاميين. أما جماعة النظام السابق فوجدوا لهم عزاء في موقف اليسار، وأضافوا إليه تلفيقات البوليس السياسي ضد بن سدرين، كي يشككوا في منظومة العدالة الانتقالية برمّتها التي تقودها “عميلة الصهيونية” و”مندسّة النهضة والمتطرفين”، بحسب زعمهم وتصريحاتهم عبر مواقع التواصل الاجتماعي.

ويُعدّ تطبيق العدالة الانتقالية أحد أهم جوانب التحول الديمقراطي في تونس؛ إذ أكد الدستور التونسي (27 كانون الثاني/ يناير 2014) أهمية هذه الآلية في المادة 148، النقطة 9 التي تنص على “أن الدولة تتعهد بتنفيذ نظام العدالة الانتقالية”. وجرى إقرار هذا النظام، بالفعل، في القانون الأساسي عدد 53/ 2013، في ما يتعلق بإسناد العدالة الانتقالية في تونس وتنظيمها. وينص هذا القانون على إنشاء لجنة تسمى “هيئة الحقيقة والكرامة”. إضافة إلى انتهاكات حقوق الإنسان، يمتد اختصاص الهيئة أيضًا إلى انتهاكات تتعلق بتزوير الانتخابات والفساد المالي واختلاس الأموال العامة. إن هذا الاختصاص المسند إلى الهيئة مفهوم باعتبار الترابط الوثيق بين نظام الدكتاتورية والجريمة المالية. فيكفي في هذا المجال الرجوع إلى تقرير اللجنة الوطنية لتقصي الحقائق حول الفساد والرشوة للوقوف على مدى تحصّن شبكات الفساد والجرائم المالية بالنظام السياسي القائم آنذاك، علاوة على ضلوع عدد غير قليل من كبار المسؤولين في الدولة في جرائم ضد المال العام. وعادة ما ترافق تجاوزات هذه البطانة الفاسدة كلها اعتداءات على حقوق الغير، من دون أن يجد المعتدى عليهم سبيلًا لإعلاء أصواتهم والمطالبة بحقوقهم.

إن التجربة التونسية لم تشذّ عن عدد من تجارب الانتقال الديمقراطي التي تكون ميزتها الأساسية ذلك الصراع بين مساند ومنتقد ومعترض. وتؤكد أيضًا أن أول أهداف عودة النظام السابق، قبل استكمال مسار العدالة الانتقالية، إيقاف المسار وإرباكه. تتميز التجربة التونسية، على هناتها، مع القانون الأساسي عدد 53/ 2013 بأنها طبّقت المنظومة الشاملة للعدالة الانتقالية القائمة على كشف الحقيقة وتحديد المسؤوليات وجبر الضرر للضحايا وإصلاح المؤسسات. ويُقرّ المهتمون بمسألة العدالة الانتقالية بأن هذا النموذج يبقى من أكثر النماذج صعوبة وتعقيدًا، ولذلك يكون عرضة لانتقادات جمّة، ومن مختلف الأطراف، إلا أنه يبقى الأفضل لتحقيق المصالحة الشاملة، وهو ما لم يتحقق في التجارب المقارنة التي اعتمدت نماذج مختلفة. ومهما يكن من أمر، فإن نجاح نموذج أو فشل آخر يبقى رهين استراتيجيات الفاعلين والموارد التي بحوزتهم، وسرعة التكيف مع إكراهات السياق. ولذلك سيبقى الصراع بين من يؤمنون بفكرة النظام الديمقراطي ومن يحنّون إلى استرجاع الأنظمة المتسلطة، مفتاح نجاح تجارب التحول الديمقراطي في العالم.

التقييم والنظرة إلى المستقبل

شرعت هيئة الحقيقة والكرامة في تسليم أرشيفها إلى مؤسسة الأرشيف الوطني في 9 أيار/ مايو 2019، تحت إشراف رئاسة الحكومة، بعد أن سلّمت تقريرها الختامي إلى رئاسة الجمهورية ورئاسة مجلس نواب الشعب ورئاسة الحكومة.

تجدر الملاحظة أن كثرة الصراعات داخل الهيئة وكثرة صداماتها مع مؤسسات الدولة ونقص الكفاءة القانونية على مستوى مجلسها، عوامل أسهمت في تنمية هذه الإشكالات كلها، وجعلت التقييمات المقرّة بفشل الهيئة طاغية على التقييمات المساندة لها، لكن على الرغم من كل ما ذُكر، فإنه وجب تثمين ما وقع إنجازه عبر التعريف بالتقرير الختامي للهيئة والدفع من أجل تنفيذ التوصيات المدرجة فيه لترسيخ المسار الديمقراطي وتكريس منظومة حقوق الإنسان في مجتمع ديمقراطي، حيث إن بعض الاتجاهات الحديثة أضحى يطالب باستكمال المسار أو استئنافه، ولعل أغلبية هذه الأصوات مكوّنة من الضحايا، وهم أول المعنيين بمسار العدالة الانتقالية.

يجب ألّا يكون هذا الاتجاه في منأى عمّا حققته الهيئة من رصيد على مستوى قاعدة البيانات والشهادات المسجلة، بغض النظر عن جودتها النوعية، وكذلك على مستوى الشهادات العلنية، وما أرسته من ثقافة المصارحة ومواجهة أهوال الماضي، بما تحمله من عذابات وأوجاع وآلام، إلا أنه لا يمكن أن تحتكر هيئة الحقيقة والكرامة، أو غيرها حتى وإن كانوا مجموعة الضحايا، مسار العدالة الانتقالية؛ فالعدالة الانتقالية ملك للمجتمع التونسي أساسًا، ومن خلاله المجتمع الكوني المؤمن بحقوق الإنسان وكرامته ووضعها فوق كل اعتبار، فمطالب العدالة الانتقالية هي مطالب مجتمعية عامة وليست مطالب فئوية، وإن لم تنجح الهيئة في تحقيق هذه المطالب، مثل كشف كامل الحقيقة وتأكيدها عبر مساءلة المسؤولين عنها ومحاسبتهم، لنتمكن من تحقيق مصالحة وطنية شاملة بين أبناء شعبنا، بانتماءاتهم وتوجهاتهم المختلفة، ليتمكن شبابنا وأطفالنا من حفظ صورة مشرفة عن أسلافه المناضلين والضحايا، تجعل من مجتمعنا نسيجًا موحدًا يملك ذاكرة جماعية متجانسة لا يرقى إليها الشك أو الدحض.

وإنّ أيّ استئناف لمسار العدالة الانتقالية أو استكماله يجب أن يكون قوامه الاعتداد بمنجزات هيئة الحقيقة والكرامة والاتعاظ من أخطائها، ولا بد أن يكون الجهاز الذي سيشرف على هذا المرفق فوق مستوى الشبهات ويتمتع بالكفاءة، وله ما يكفي من الخبرة والتجربة العلمية والعملية ومشهودًا له بالتعالي عن التجاذبات وبولائه للوطن وللقانون. ويمكن كذلك أن تتخذ العدالة الانتقالية منهجًا آخر بأن تتعهد الدوائر القضائية المختصة في العدالة الانتقالية بالملفات محل عهدة هيئة الحقيقة والكرامة، على الأقل في ما يتعلق بمحاسبة المسؤولين الذين لم يقبلوا بالانضواء تحت لواء العدالة الانتقالية في نسختها القديمة، ومساءلتهم عن الانتهاكات الجسيمة.

إن الخيارات متعددة حول مستقبل العدالة الانتقالية، وهو ما يفرض ضرورة الحوار وإبقاء الهمم مستيقظة والإيمان راسخًا بالعدالة الانتقالية بديلًا حضاريًا من عدالة الانتقام والتشفّي، وهو ما يفرض التفاف الجميع، بمن في ذلك من ساهم في المسار سلبيًا أو إيجابيًا حتى تُتاح الفرصة لتنقية المناخ وبناء أعمدة الثقة والتسامح والعدل ليكون القانون رافعة للفصل الأخير من فصول العدالة الانتقالية في تونس.

هوامش

موضوعات

الأكثر قراءة

عشرة أفلام عظيمة عن المافيا (ترجمة)
10 أفلام تشويق إيروتيكية رائعة (ترجمة)
أين نحن في السير قدما...
الصحافة الثقافية وما نناضل من أجله

GOOGLE AD

نكـتـب لفلسطين

اشتراكك بنشرتنا البريدية سيحمل جديدنا إليك كل أسبوع

اختيارات المحرر

من أجل صحافة ثقافية فلسطينية متخصصة ومستقلة

اشتراكك بنشرتنا البريدية سيحمل جديدنا إليك كل أسبوع