للمرّة الأولى تقترب عارضة الأزياء الأمريكية بيلا حديد من فنّ التمثيل، في الموسم الثالث والجديد من مسلسل “رامي”. في حين أنها منذ صغرها عُرفت بمسار وظيفي محدد جعلها محط كلام الفضاء العالمي، وموضوعاً شائكاً في حقل الجماليات، ذلك أنّ عرض الأزياء هو مسار لا تزال إشكاليات الذكورة والأنوثة تدور حوله. وليست المرّة الأولى التي نسمع فيها، بأنَّ مشاهير عالميين ورثوا التمثيل، أو انتقلوا إلى فنون الآداء، والمسارح وعالم السينما. لكنَّ مع بيلا، اتصل دورها التمثيليّ التي ستقوم بآدائه، بهويّتها المختلطة. فعند وصولها إلى موقع التصوير في يومها الأول، شعرت بيلا على الفور بالانتماء إلى المكان، كونها هي المرّة الأولى التي تلتقي فيها مع ممثلين متشابهين في الهوية واللغة والتفكير. قالت: تمكنتُ من رؤية ذاتي.
هويتان أم هوية واحدة؟
يروي أمين معلوف الكاتب اللبنانيّ في كتابه “الهويات القاتلة” رحلةَ انتقاله من لبنان إلى فرنسا، وكم من المرات التي اعترضه البعض ليسأله عن أصله إن كان فرنسياً أم لبنانياً، ليجيب معلوف بصبرٍ أنه الإثنان معا، وأنه يقف على مفترق بين بلدين. ولد في لبنان، وعاش فيه حتى سنّ السابعة والعشرين، ويعيش منذ أكثر من اثنين وعشرين عاماً في فرنسا، ويشرب ماءها ونبيذها، ويكتب الروايات بلغتها. فكيف له أن يستأصل جزءاً من كيانه؟ وعارضة الأزياء حديد في السياق ذاته، تعرّف نفسها بالقول:كنتُ على اتصال مع عائلتي الفلسطينية حين كنّا نسكن في واشنطن العاصمة، وقد انتُزعت مني بعد انتقالي إلى كاليفورنيا. وتضيف إنها كانت الفتاة العربية الوحيدة في مدينة سانتا باربرا، تعرضت لمضايقات عنصرية في سنّ المراهقة، وأنها لم تتمكن قط من رؤية نفسها في أي شيء آخر، ولفترة طويلة افتقدت هذا الجزء منها، مما جعلها حزينة ووحيدة جدًّا.
وبالإمكان هنا تفسير ما شعرت به بيلا في موقع تصوير مسلسل “رامي”، حين فاجأها طاقم العمل بقميص كُتب عليه: “الحرية لفلسطين”، وبكاؤها، في أحد أبعاده، لا يتجاوز كونه نصًا مكملًا لأجوبة معلوف أعلاه من جهة، وإشباعاً لهويتها المهمّشة، لا سيما في صغرها، من جهة أخرى. فبيلا التي ولدت في الولايات المتحدة الأمريكية لأب فلسطينيّ وأم هولندية، لم يُسمح لها بأن تعيش بانسجام مع هويتها التي لم يعد يمكن القول أنها مسلَّم بها، إنما مُعطى مكتسب من التاريخ والجغرافيا والثقافة.
السينما… دعوة إلى الحرية
في معرض المقابلة التي أجرتها مجلة الأزياء “GQ“، تُظهر حديد كيف أصبحت صديقة لـ”رامي يوسف” المخرج والممثل الكوميدي الأمريكي من أصول مصرية، عندما أرسل لها بريدًا إلكترونيًا للمرة الأولى في يناير من هذا العام وسألها عمّا إذا كانت مهتمة في التمثيل. وبعد محادثة طويلة وافقت على العرض بحماس شديد. في حين تشترك بيلا مع يوسف بشبكة متداخلة من الأصدقاء والمقربين. واللافت قول صديقهم الموسيقيّ الكنديّ مصطفى في حديثه مع المجلة: “كانت بيلا في قلب عالم لا يعترف بما يعنيه أن تكون مسلمًا عند أي من التقاطعات، لذلك من الرائع أن تكون بيلا محاطة بمجتمعها”.
تعبّر بيلا حديد عن أسفها في أنها لم تنشأ في بيئة مسلمة، خاصّة بعد طلاق والديها، وتتمنى لو أنها كانت قادرة على البقاء مع والدها للتعرف على الثقافة الإسلامية، تقول:”كنت أتمنى أن أكبر وأن أكون مع والدي كل يوم وأن أدرس وأن أكون قادرةً على العيش في ثقافة إسلامية، لكن لم يتم إعطائي ذلك.” وإنَّ أحد أسباب انضمامها إلى التمثيل في مسلسل رامي، هو إعادة اتصالها مع هويّتها التي طمسها الزمن ولم تستطع الذاكرة ترويضها. ويوضح يوسف أنَّ بيلا تشعر بارتباط عميق وإحساس بالانتماء إلى التقاليد الثقافية والطقوس الدينية الإسلامية حين تكون في مسجد أو أثناء الصلاة، ففي المرة التي أتى فيها رامي يوسف إلى منزلها في شهر رمضان، سمحَ لها بالصلاة معه، وكانت هذه المرّة من أجمل لحظات حياتها.
بالعودة إلى المسلسل، فإنَّ ما تشترك به بيلا وصديقها يوسف، هو اللعب تحت الأضواء، ليعيدوا تنظيم وتخليق هويتهم المهمّشة على طريقتهم الخاصّة. فالحاجة إلى الفضاء التمثيلي يعيد اتصالهما مع حقيقة هويتهما والبحث داخل مكنونات تراثهما. وهذا ما يميز رامي في قدرته المذهلة على طرح المواضيع الأكثر روحانية وحساسية في عصر أصبح فيه احترام الغيرية والانفتاح على الآخر، يجري عرقلته بنوع من الخوف الكابوسي إذا استعرنا العبارة من الفيلسوف السلوفاني سلافوي جيجك.
جسد بيلا… والدفاع عن هويتها الفلسطينية
في السنوات الأخيرة، واظبت بيلا حديد على تأييدها ودعمها الكامل للشعب الفلسطينيّ والقضية الفلسطينية، وشاركت في نشر العديد من الميديا والفيديوهات والصور في أحداث كثيرة، تُظهر حجم الجرائم المرتكبة من قِبل الاحتلال الاسرائيلي، عبر حساباتها على الإنترنت. لتصبح حديد من أكثر المشاهير الأمريكيين المدافعين عن الفلسطينيين، كونها تعتبر نفسها واحدة منهم.
وفي الحديث عن الموضة والأزياء، يُشار عادةً إلى إشكالية تنميط المزاج العالميّ، وإلى الممارسات الثقافية داخل المجتمعات الطبقية بامتياز، ذلك أنَّ الذوق يرتبط عادةً بالعامل الاقتصاديّ كما يشير عالم الاجتماع الفرنسي بيير بورديو، وفي الحقيقة نحنُ لسنا بصدد الحديث عن هذه الإشكاليات، إنمّا ولنترفعّ عنها يمكننا أن نصغي لصاحبة الجسد، الذي باتَ يشكلّ حقيقة سياسية تحاول حديد أن تدافع من خلاله عن هويتها المركّبة الأمريكية والفلسطينية المسلمة، دون تهميش واحدة على حساب أخرى. وقد عُرفت بيلا، بدفاعها عن النساء اللواتي يرتدين الحجاب في فضاء الأزياء تقول في هذا الموضع: “كنّا نشهد المزيد والمزيد من التقدير للحجاب على الأغلفة في عالم الموضة، فعلينا أن نعترف أيضًا بالإساءة التي تتعرض لها النساء المسلمات من جميع الأعراق في دور الأزياء خاصة في أوروبا وأميركا.”
وعلى الرغم من اتهام حديد بمعاداة السامية وشنّ الهجوم عليها -آخرها، كان ادعاء رئيس منظمة شبكة القيم العالمية الحاخام شمولي بوتيش بتشويهها لسمعة الدولة اليهودية، وتحريضها على التطهير العرقي- تواصل بيلا الدفاع عن قضيتها الوطنية، قائلةً: أنا محظوظة جدًا لأنني في وضع يمكنني عبره التحدث بالطريقة التي أجاهر بها. ففي النهاية، ما هو السقوط؟ أن أفقدَ وظيفتي؟
في النهاية، قد تكون تلك الهوية المركبة لبيلا حديد، وسيلة غير مباشرة لإسكانها خارج حدود الهويات بالمعنى المتداول عليه في العالم اليوم، أيّ ذلك الأفق المغلق بإحكام. وإذا أردنا أن نستعير العنوان الشهير للمفكرالفلسطيني إدوارد سعيد، الذي يحمل الجنسية الأمريكية، ربما تكون بيلا حديد في نهاية الأمر شأن إدوارد سعيد: خارج المكان.