رافقت الثورة الفلسطينية حركة فنية كبيرة كانت لها أبعاد وأصداء إيجابية على غير صعيد. ومما لا شك فيه أن الوقت لا يزال مبكراً لتقييم هذه الحركة-النهضة لأننا، أولاً، ما نزال نعيش غمارها ولا بد أن يمر ردح طويل من الزمن حتى تستكمل هذه النهضة شخصيتها، وثانياً، لأن الإنتاج الفني الفلسطيني مشتت في مختلف بقاع الأرض ويحتاج جمعه ودراسته إلى وقت وجهد طويلين. ولا أعتقد أن أحداً من النقاد العرب قد بدأ يعمل في هذا السبيل. إذن التقييم أو النقد الشامل في هذا الوقت الحاضر لا يمكن أن يفي الفن الفلسطيني حقه ولا بد أن يكون مبتوراً مهما اجتهد الناقد في بحثه.
الناحية التي سنتناولها في هذه الكلمات، ولو بإيجاز، تتعلق بالفن (الجرافيكي)، أي بالأعمال الفنية التي تنسخ طباعياً على مئات، بل آلاف النسخ، وتهدف أكثر ما تهدف إلى إيصال رسالة أو فكرة ما إلى أكبر عدد ممكن من الناس بطريقة سهلة تعتمد على الاستيعاب النظري السريع. مثال ذلك الإعلانات الصحفية والطوابع البريدية وبطاقات المعايدة والملصقات. وسنركز بصورة خاصة على هذه الأخيرة.
* * *
أول ملاحظة يمكن أن نبديها بثقة هي أن الثورة الفلسطينية انطلقت في عصر، بل عقد من الزمن لم يشهد تاريخ الإنسان أكثر منه اهتماماً وتأثراً بوسائل الإعلام، وبالتالي استعداداً لتبني كل ما هو غير غريب وجميل ومنطقي بنفس الوقت، إن الصحف والمجلات وسائر المطبوعات، بالإضافة إلى الراديو والتلفزيون، تنقل يومياً من وإلى جهات العالم المختلفة مئات الأفكار السياسية والاجتماعية والتجارية التي يستوعبها الإنسان المعاصر بسرعة وبديهة مذهلتين. هذه الوسائل السمعية-البصرية لم تكن يوماً موضع توجيه واهتمام مثلما كانت في السنوات القليلة الماضية.
الجو الإعلامي العام إذن كان مهيئاً عند قيام الثورة الفلسطينية بإيصال أهدافها وأخبارها بسرعة إلى عدد كبير من المجتمعات العربية والدولية. وقد تنبهت الثورة على الصعيد القيادي وغيره من المستويات إلى هذه الناحية المهمة فأولتها عناية خاصة. وطبعاً لسنا هنا في موضع تقييم نتائج هذه الحركة وبحث الوسائل الإعلامية الصهيونية المضادة والمهيمنة عالمياً والتي نجحت، حتى مؤخراً، في طمس الكثير من الحقائق وتشويه عدالة قضيتنا الكبرى.
* * *
ومما لا شك فيه أن سيلاً كثيفاً من الأبحاث والدراسات رافق الثورة الفلسطينية بشكل قلما شهدته أي حركة ثورية أو فكرية مماثلة في التاريخ. وكان من الطبيعي أن تنتج عن هذه الأعمال حركة طباعية واسعة شملت عواصم عربية عدة ولعبت فيها العاصمة اللبنانية دوراً أساسياً، ذلك أن عدداً كبيراً من دوائر الإعلام الفلسطينية وغيرها اتخذ من بيروت مركزاً رئيسياً له. ولا نبالغ إذا قلنا إن قسماً محترماً من القطاع الطباعي في بيروت اعتمد في تطوره في السنوات الأخيرة على ما نتج عن الثورة من حركات إعلامية واسعة. وحيث أن هذه الدوائر أولت الناحية الفنية اهتماماً خاصاً، فقد تم إخراج المطبوعات الفلسطينية -إذا صح التعبير- على مستوى يمكن وصفه، إذا ما قورن بالمستويات العالمية، بأنه جيد في غالبيته وممتاز في بعضه. وكفن ثورة، يعتبر هذا المستوى غير عادي حيث أنه قلما نتج عن أية حركة ثورية مطبوعات بهذا المستوى.
ولا بد لنا هنا من الإشادة بالمراكز والمؤسسات البحثية والدراسية والإعلامية الخاصة التي تبارت في رفع مستوى منشوراتها الطباعية حتى نستطيع الوصول إلى المجتمعات الغربية بسهولة أكثر.
كما لا بد لنا هنا بالقول إننا لا نعني بتعبير “فن الثورة” أي حركة أو اتجاه فني واضح المعالم ومخطط له من أفراد أو هيئات ولا نعني حتى أن هذا الفن هو بالضرورة من نتاج فنانين فلسطينيين دون غيرهم. هذا الفن يعني لنا الوسيلة الجمالية التي تستخدم في نقل أو تفسير فكرة أو واقع مؤيد للشعب الفلسطيني.
فمن مميزات فن الثورة أنه جمع عدداً كبيراً من الفنانين والمصممين العرب اشتركوا أحياناً في إخراج أعمال موحدة جاءت مثالاً في التقنية والجمالية. وإذا اعتبرنا أن الإعلانات المؤيدة للشعب الفلسطيني والتي ظهرت في كبريات الصحف الأميركية والأوربية جزءاً من هذا الفن لا بد لنا من الإشارة إلى بعض الفنانين الأجانب المقيمين بيننا والذين أسهموا إسهاماً فعالاً بنقل صورة الواقع الفلسطيني بشكل تتفهمه العقلية الغربية بسهولة.
غير أن القسم الأكبر من فن الثورة كان ولا يزال من أعمال فنانين فلسطينيين نادراً ما يسمع الإنسان بهم أو يعرف شيئاً عن شخصياتهم. وقد أبدع هؤلاء بصورة خاصة بتصميم الملصقات التي عكست أكثر من غيرها من وسائل الإعلام الطباعية مراحل القضية الفلسطينية بوضوح وببساطة وأحياناً بعفوية جريئة.
وأهمية الملصقات كوسيلة إعلامية لا تحتاج إلى الكثير من الشرح، فتوزيع الملصقات لا يقتصر على المكتبات أو الأفراد المهتمين بالقضية كما هي الحال في الكتب أو على قراءة صحف معينة كما هي الحال في المقالات أو الإعلانات الصحفية أو على الأصدقاء والمعارف كما هي حال بطاقات المعايدة، بل يتعدى كل هؤلاء إذ أن نشره يمكن أن يتم في الشوارع والساحات ويمكن أن يدخل القاعات العامة والصالات وحتى البيوت. ويمكن أن يكون متحركاً حين يلصق على وسائل النقل العامة أو يرفع في المظاهرات والمسيرات الشعبية. والملصق الجميل الإخراج له طابع الديمومة إذ أنه يحتفظ به ضمن إطارات كعمل فني يفرض نفسه بنفسه.
أهمية الملصقات الأساسية إذن تكمن في كثرة وسهولة انتشارها وبالتالي في عرضها بل فرض رؤيتها على كل فرد من المجتمع يستطيع القراءة.
والأهمية الثانية تكمن عموماً في بساطة الملصقات من الناحية الإخراجية. فباستطاعة صورة معبرة واحدة أو بضع كلمات متقنة الصياغة نقل موقف أو بث فكرة بحيث يمكن استيعابها شعبياً وعلى مختلف المستويات الثقافية والاجتماعية بسهولة عفوية.
* * *
إذا استعرضنا مئات الملصقات التي صدرت في هيئات فلسطينية أو مؤيدة خلال العشر سنوات الماضية يلفت نظرنا التطور المرتب وغير الشعوري الذي طرأ على الأجواء والموضوعات التي عولجت. وقد كانت تعكس هذه الملصقات ولا تزال الشعور الفلسطيني العام الذي رافق كل مرحلة من نضاله.
ونقتصر في قولنا هذا على الملصقات التي عالجت مواضيع عامة وشاملة وليس ملصقات المناسبات التي صدرت كردة فعل سريعة على حوادث معينة كاستشهاد فدائيين في معركة ما مع العدو أو كتعليق على سياسة منحرفة أو خطاب عدائي من قبل بعض الدول والشخصيات، فهذا النوع من الملصقات، مع فعاليته وضرورته، لا ينطوي عادة على أي قيمة فنية إذ أن تحضيره يتم بسرعة فائقة والغاية الأساسية منه هو الإعلان عن نبأ أو موقف وليس التأثير المدروس على الرأي العام.
* * *
مرت مواضيع الملصقات الفلسطينية في نظرنا بثلاث مراحل وأجواء واضحة المعالم رغم وجود بعض الشواذات. وكانت هذه المراحل انعكاساً مباشراً لنفسية الشعب الفلسطيني في فترات مختلفة من حياته.
المرحلة الأولى : هي أطول المراحل، فقط امتدت من أوائل الخمسينات حتى اندلاع الشرارة الأولى للثورة. وكان من الطبيعي أن تعكس ملصقات هذه المرحلة البؤس والتشرد أكثر من غيرهما من النواحي الإنسانية. فصورة الفلسطيني كانت دائماً هي صورة اللاجئ المظلوم الذي يبغى عطف الناس وتأييدهم. كانت هذه الملصقات تسعى لإفهام العالم بالاجحاف اللاحق بالشعب الفلسطيني. إنها المرحلة التي كانت تظهر فيها فلسطين بشكل إنسان مصلوب والفلسطيني إما بشكل شيخ عجوز ظهرت آثار الخوف والتعب على وجهه أو بشكل طفل يحمل حمامة بيضاء في يده وكأنه يتسول أو يطلب الشفقة. وحتى الملصقات المتفائلة فكانت تعكس آمال وطنية أكثر من واقع ملموس.
ورغم طول هذه الفترة فقد ظهر فيها العدد القليل من الملصقات والجيد منه فنياً كان نادراً. وكانت معظم هذه الملصقات تصدر في مناسبات أليمة كذكرى وعد بلفور أو ذكرى تقسيم فلسطين وكان توزيعها يتم على نطاق محلي ضيق.
المرحلة الثانية : هذه المرحلة هي في الواقع المرحلة التي شهدت انطلاقة الملصقات الفلسطينية في المعنى الإعلامي الصحيح وفيها وصلت المستويات الفنية إلى أعلى قممها. فمع انطلاقة أول شرارة للثورة بدأت الملصقات الجميلة الإخراج والمدروسة فنياً وإعلامياً تظهر في كل مكان. وكانت هذه الملصقات، كما هو متوقع، تعكس الثقة الجديدة التي اكتسبها الشعب الفلسطيني نتيجة الانتفاضة الشجاعة. فصورة الفلسطيني تغيرت فجأة من الإنسان المشرد المسكين إلى الشاب القوي الثائر المفتول العضلات. أصبح الشعب الفلسطيني مارداً لا يطلب الشفقة من أحد. صور الشهداء الشباب احتلت مكان الرجل العجوز. والصبية الفلسطينية بدأت تظهر مع رفيقها الثائر وهي تحمل الكلاشينكوف بدل من ظهورها في خيمة البؤس وهي في حيرة من أمرها. حتى الأطفال أصبحوا أشبالاً في مخيمات التدريب.
هذه المرحلة الرومنطيقية والمبنية في نفس الوقت على واقع ملموس، اشترك في تصويرها بعض الفنانين العراقيين بجانب إخوانهم الفلسطينيين، فجاءت أعمالهم ممتازة ومعبرة عن أماني الأمة العربية كلها، ومما لا شك فيه أن بعض هذه الملصقات سيخلد لجمالياته وحسن إخراجه.
وقد رافق هذا النوع من الملصقات البطولية، وخاصة بعد هزيمة 1967، نوع آخر من الملصقات الإعلامية المدروسة والتي اشترك في تنفيذها بجانب الفنان، رجل الفكر والسياسة. فملصقات ما بعد 1967 لم تعد تقتصر على إفهام العالم أن الفلسطيني من الآن فصاعداً هو رجل كفاح وثورة، بل تعدته لتعكس أعمال العدو الهمجية وأقواله المتضاربة. وقد سخرت هذه الملصقات أحياناً بطرق ذكية وبسيطة بسياسة إسرائيل فجاءت مقنعة وفعالة إلى أقصى الحدود.
ومع أن هذه المرحلة لا يمكن أن تنتهي ما دامت هناك قضية وهناك حاجة للإعلام عنها، نستطيع نظرياً القول إن انتصار العرب في حرب أكتوبر 1973 شهد انطلاق مرحلة مميزة في هذا الحقل.
المرحلة الثالثة: مميزات هذه المرحلة نستطيع التعرف عليها من خلال الملصقات الفلسطينية المرفوعة حالياً في مدن العالم العربي. الثورة الآن أفهمت العالم من هو الفلسطيني وما هي أهدافه الوطنية المشروعة. وأفهمته كم هو مستعد للتضحية والكفاح للوصول إلى هذه الأهداف.
الملصقات طبعاً تستمر في الظهور. إنها اليوم تعتمد البساطة والواقعية المبنية على الثقة بالمستقبل. ملصقات هذه الفترة توحي بارتياح أن الفلسطينيين أصبحوا شعباً معترفاً به وبحقوقه. مثلاً، كلمة “فلسطين” مكررة على ملصق واحد بألوان مختلفة دون أي تعبير آخر تعكس الزهور بمرحلة جديدة. وجه المناضلة ليلى خالد على ملصق يعلن عن “عام المرأة العالمي” يعبر ببساطة عن دور المرأة الفلسطينية في وطنها وفي العالم. خارطة فلسطين أصبحت جذابة تحت أضواء العالم ولم تعد الإنسان المعلق على الصليب. الملصقات الفلسطينية في هذه المرحلة تعلن بثقة أن الشعب الفلسطيني سائر إلى النصر لا محالة.