العم خليل

Louay Kayali

صالح الحاج صالح

كاتب من سوريا

طيلة سنوات عمره التالية لفترة "جنونه" فُرِضَ عليه العيش كرجلٍ فاقد الأهلية، وتم تبصيمه على توكيلٍ لأصغر إخوته بالتصرف بحصته من الأرض التي ورثها من أبيه، وكلما أراد أخاه بيع قطعةً من أرض العم خليل، يروّج أنّه وجد له عروساً درويشه مثله. تباع الأرض ويُقبض ثمنها ولا تظهر العروس الدرويشه.

للكاتب/ة

اشتراكك بنشرتنا البريدية سيحمل جديدنا إليك كل أسبوع

الأكثر قراءة

عشرة أفلام عظيمة عن المافيا (ترجمة)
10 أفلام تشويق إيروتيكية رائعة (ترجمة)
10 أفلام عظيمة عن الوحدة (ترجمة)
قصة لغسان كنفاني: أرض البرتقال الحزين
عن السيرورة والصيرورة

من أجل صحافة ثقافية فلسطينية متخصصة ومستقلة

10/10/2022

تصوير: اسماء الغول

صالح الحاج صالح

كاتب من سوريا

صالح الحاج صالح

مقيم في هولندا. نشر عدة مقالات في موقع الجمهورية. شارك مع ستة كتاب سوريين بكتاب عنوانه "صفحات من دفتر قديم".

تقول الرواية الشفهية المتناقلة في العائلة، أنّ العم خليل، ابن عم والدي، تاه في ليليةٍ شتويةٍ باردة في بريَّة الجولان  لمدة أربعة أيام بلياليها عندما كان يرعى بغالاً للجيش، تاه ولم يعرف طريق العودة إلى القطعة العسكرية التي يخدم بها، ولمّا وجدوه كان فاقداً عقله! شهر كامل حتى وصلت البرقية التي تقول “على ولي أمر الجندي خليل …، والده …، والدته … القدوم لاصطحابه لأنه لم يعد مؤهلاً لإكمال واجبه في الجندية”.

بهذا الاختصار الشديد تُخْتَم الرواية العائلية والرواية الرسمية حياة شباب العم خليل، أما بقية حياته التي أدركناها، فترة “جنونه” وما تلاها، كانت تقع تحت أبصارنا وأسماعنا. حياةَ رجلٍ ممسوس، مربوط القدمين بمربط فرس حديدي يُخَشخش أثناء تجواله في القرية على غير هدى، وفي بعض المساءات وهي كثيرةٌ على كلّ حال، كان عويله وصُراخه يخيفنا، عندما يجتمع عليه أشقاؤه وأبناء عمومته بتكبيله وشدِّ وثاقه، وضربِه بعصا مقروءٍ عليها لطرد الجن من جسده بناءً على وصفةٍ مجربةٍ من الشيخ علي وكيل الطريقة القادرية بالمنطقة، والشيخ علي هذا، ومريدوه، اختصوا بإقامة الموالد النبويّة، وطرد الجن من الأجساد التي تسكنها بالرقى الشرعية، ومعالجة عقر النساء، وعقم الرجال، وحل المربوط منهم عن زوجاتهم، هذا رغم أن الشيخ علي بحد ذاته، كان عقيماً، ولم ينجب أبداً من زوجاته الثلاث. 

وكان لوصفة الشيخ علي ملحقاً فيما يخص إخراج الجن التي تأبى الخروج من الأجساد التي تسكنها بالرقى الشرعية وذلك بإقامة مولد يوم أربعاء، وفي نهاية المولد كان يُمدَّد العم خليل وتنزع عنه ثيابه ويغطى نصفه الأسفل بعباءة الشيخ، ثم يضرب بِـگُردَته (١).

كنّا نرى نَصْل السيف الحاد يغوص في بطن العم خليل مع تمتمات الشيخ علي التي لا نفهم منها سوى اللّازمة التي تنهي بها، الله حي، الله حي، الله حي، الله حي لتصبح أحي … أحي … أحي …، مجاريةً سرعة نصل السيف الذي يعلو ويهبط على بطن العم خليل بسرعة البرق وبانتهاء تلك الحَنْدَه يتم رصد البطن بإبهام الشيخ المبلل برضابه، عندها يقوم العم خليل مترنحاً كالمخمور دون أي أثر يظهر على جسده. أَعجزنا فهم ذلك رغم يقيننا أن گُـردَة الشيخ كانت تغوص في البطن. ويفسِّر مريدو الشيخ أنّ الـگُردَة  لا تسبب ألماً للأجساد التي تُفنى وتتحول إلى ترابٍ عندما يتوفاها الله، وأثرها يقتصر على الروح المبتلاة والمعذبه  بها حتى تثوب إلى رشدها، وعلى أجساد الجن الناريَّة التي يصيبها الهلع من ضربات گردَة الشيخ المصحوبة بتمتماته فتخرج مولولةَ، أو يرصدها ويحجزها في أقماع السَّماسِم إلى يومٍ معلوم، وأَنسب وقتٍ لذلك بعد مغيب الشّمس عندما تلوبَ الجِن والسَّعالي باحثةً عن أجسادٍ غير محصنةٍ بتمائِمَ لتبيتَ فيها!

في تلك المساءات التي يُضرب فيها العم خليل ويعلو عويله، كُنّا نَتلطى بأمهاتنا المبسملات المُحوقلات ممسكين بأذيال أثوابهن، مستعجلين قراءة المعوَّذات التي حفظناها بسن ٍمبكرةٍ، دون سواها، كي نحتمي بها من سكان الخرائِب عندما ندخلها أثناء اللَّعب في النَّهار، ومن الخوف عند الخروج للتبول في اللَّيالي المظلمة. 

رواية الأهل هذه رافقتنا، لعدة سنوات، نحن الجيل الثالث من العائلة، جيل المدرسة حسب تسمية أهلنا لنا، مدحاً وسخريةً بنفس الوقت، قد أربكتنا لصعوبة فهمنا لها، ولمخالفتها منطق تصوِّرنا عن الجِّن الذي نحسبه لا يجرؤ على ولوجٍ جسدٍ تمّت حمايته بحجبٍ وتمائمَ مخاطةً بالمهد منذ الولادة، ومدلاةٍ بشريطٍ أخضر في الرقاب، ومنها الكثير،عادةً، ما يكون مدفوناً عند عتبات الأبواب وبين طيّات المفارش. روايتنا التي تصورناها عن العم خليل، وعن سبب جنونه، والذي لم نكن نَحسبهُ بالأصل في ذلك الوقت أنَّه عمّاً من الأَعمام، ولم نكن نعرف أنّ اسمه خليل، وكان اسمه عندنا “أبو علي المهبول” أوالمهبول فقط. 

روايتنا تلك عن العم خليل تقول أنّ سعلوةً، ظهرت له على شكل امرأة فائقة الجمال، تزوجته لجماله وفتوته، حسب بعض إنحيازاتٍ في الرواية الشفهية عن فترة شبابه قبل ذهابه للجنديَّة، وأنّ هذه السِعلوّة التي أُعجبت به تزوره كلَّ ليلةٍ وتنام معه، وله منها أولاد يعيشون معها تحت الأرض بعيداً عن الأعين، ولا يستطيع أحدٌ رؤيتهم إلا هو، ولتأكيد روايتنا، صدّقنا كلّ ما عنَّ على بالِ أحدنا قصةَ اخترعها لتوّه. مثلاَ يقول أحدنا: (تِدْرون لمّا نشوف المهبول يسولِف حالو، ويزعل، ويضرب ويضحك ويصرخ.. هو لا يسولف حالو ولا شي، هو يسولف أولاده، ولما يضرب الهوا يضرب أولاده) ويُعقّب آخر (وتدرون ليش يضربون المهبول عند غيبة الشمس؟ حزركم مشان شنهو؟ مشان ما تفوت السعلوة جوّاه) “أي داخله”.

أمّا عن إجبار العم خليل على  المبيت في قاووش البغال مقروناً بها و فوق روثها لسنواتٍ وسنوات، فكانت لدينا قناعة بأن رَبْطِه بمرابطَ الخيول والبغال والحمير أمرٌ لا بدّ منه لحمايته من السِّعلوّة التي لحست عقله، ولا توجد طريقة أخرى لإبعادها من المبيت بجانبه،إلّا هذه، وذلك بعد فشل المَوالِدَ المقامة من اجله، وإبطال مفعول عشرات الحجب المتدلاة برقبته والمعلقة بثيابه، لسببٍ لا يعلمه إلا الله، ونذهب بتهويماتنا بعيداً لاعتقادنا أنّ البِّغال والخيول تَهْجِس حضور الجنّ والسَّعالو إلى المكان، وتبدأ بالنخير والرَّفسِ حتى تغادر تلك الكائنات غير المرئية المكان ويخيب مسعاها، أو تُفْلَت تلك من مرابطها كما حدث أكثر مرّة وهي تسحل العم خليل ورائها..

ولكي نجعل لروايتنا وتهويماتنا شواهد قارةً في أذهاننا، يؤلف من خاف من الخروج ليلاً للتبول في ليالي الشتاء المظلمة قائلاً:

– من سَمِع دربكة ‌البغال ونخيرَ الأفراس ليلة البارحة؟ 

– شو صار؟ 

-البغال انفلتت من مرابطها …أكيد السِّعلوة كانت عند “المهبول”

– أي والله ،أنا سمعت الدربكة.

– وأنا!

– وأنا!  

كنا نخافه، ونرهبَ جانبه رغم أَنّه لم يلحق أذى بأّيٍّ منَّا، بل نحن من كان يلحق الأذى به، أحياناً.

من قال أنّ الصِّغار أبرياء وغير عدوانيين عندما يستطيعون ؟

كنّا كلما اقترب بتجواله من مكان لعبنا يهمس من يراه أولاً (اهربوا، چَاكم المهبول).

 لحظتها تغوص أقدامنا في وحلٍ لا نستطيع الفِكَاك منه بسهولة، ويعلو صراخنا مستنجدين، صراخٌ لا يخرج من حناجرنا من شدة الخوف، ومن استطاع الانفلات من وحل الوهم، ويصبح آمناً يبدأ يرمي الحجارة على العم خليل، خاصةً إذا كان خارج بصر الحبّابة زهرة، والدة العم خليل وحاميته. 

أحياناً كُنّا نتراهن على من لديه الجرأة على نترِ  زَرَدِ الحديد الذي يسحله وراءه ويَتَسبب في تعثره، والمرّات القليلة الذي استطاع أًحدنا فعل ذلك، يكون العم خليل ساهماً بالنظر إلى صورته المنعكسة في ماء آلگُوْلَة (٢). ومنْ تجرأَ  ونتر الزَّرد يصبح البطل، هو من يقرر اللعب ومكانه.

في محيط آلگولة، مرآته السحريَّة، كان العم خليل يطوف حولها طيلة النهار، متأملاً وهادئاً وهاذياً بكلام غير مفهوم، جاراَ وراءه زَرَدَ الحديد، وأحياناً يتوقف ليخاطب من خلال سطح مائها كلّ الموجودات التي تنعكس صورها في الماء. 

أمام مرآته السّحرية تلك يتدفق منه الكلام بلا رابط. يصيح علينا أن لا نخوض بالماء كي لا نصاب بالبرد، ومن لا يرتدع يفحش عليه بالكلام بأمه وأهله، وبنفس الوقت يرفع عينه إلى السماء إذا مرت غيمة عابرة انطبعت صورتها في مرآته السحرية ويخاطبها آمراً. إلى أين تذهبين؟ هناك گاعي “أرضي”. اذهبي وأمطري فوقها، ثم ينفجر ضاحكاً بصوتٍ عال متابعاً حماراً ينزو على أنثاه، مقلداً حركته باستخدام عصاه التي يحملها  لذود الكلاب عنه، وأحياناً يهم بالركض وراء قطة دخلت مجال مرآته السِّحرية وبعد خطوتين يفقدها ويبحث عنها في الماء ولا يجدها.

يَتَعكّر مزاجه ويندفع إلى الماء ضارباً سطحه بعصاه، أو يلتقط حجراً ويرميه على  رأس أحد المكلفين بإعادة عقله عندما تظهر صورته في الماء، عند قدميّه. ولمّا تتشوه الصورة وتَنْطَعِج ملامحها نتيجة تموّج الماء تكون تلك أسعد لحظات يومه، ويخاطب الصورة بانتشاء ملاكم حطم وجه غريمة ( تِستاهل يا كلب، كَسَّرت راسك) وحين يعاود الماء ركوده وتستعيد الصورة ملامحها من جديد، يجنّ جنونه، يرفسها  بقدميّه ويُباطُحها  مُتَمَرغِلاً معها بالطين (كلب، رجل  الشر..، ابن القح..، آني ماني  مهبول، آني ما ني مهبول ).

 آلگـولة عالمه الخاص الذي يستطيع التحكم به، عالم خاضِعٌ بالكامل لإرادته، لا أحد هنا يقاطعه أو يعترض على قولٍ يقوله، أو يعبأَ بسبابٍ يلفظه، وأيضاً لا أحداً يبقى بمجال رؤيته إذا لم يرغب بوجوده، يقول للصورة:انقلع..ويخطو خطوةً واحدةً ليختفي الذي ظهر أمامه على سطح الماء. وبخطوة وراء أخرى يستطيع رؤية من يرغب بمعرفة ماذا يعمل إلى أن يختفي داخل إحدى الدور المحيطة بمرآته السحرية. أما النساء اللاتي يظهرن في مرآته، سواء كنّ من القريبات أو البعيدات، وخاصة إذا كانت إحداهن تلقي بماء الغسيل على التراب أمام بيتها، أو تحمل سطل ماء على رأسها قادمةً من البئر، ينادي عليها باسمها أو لقبها بصوتٍ عال ( يا فلانة، مبيّن أنك امْعَرْسَّة بالليل، كيَّفتي مو؟) مناداته هذه لها ردة فعل واحدة من كلِّ النساء( مهبووول ما عليك عتب .. الله يسامحك ) مع ابتسامة خفيفة تغطيها بطرف الهبريّة(٣).

في تجواله اليومي حول آلگولة يظل نظره مصوباً بشكلٍ دائم إلى ما بين قدميه أو إلى سطح مائها، باحثاً عن شيءٍ ضاع منه، عن حياةٍ فقدها ربما، عن أهله، عن عالمه المحطّم. أحيانا يبدأ بالنواح والنّدب واللطم كامرأة فقدت زوجها للتو، ثم يتوقف فجأةً صافناً متمعناً بصورته المنعكسة في الماء كأنّه اكتشفها لتوِّه، وقد يستهويه أحياناً أن يكون فارساً ممتطياً حصاناً في وسط الماء، وأحياناً يتحول بسلوكه إلى طفل يعبث بكل ماتَطاله يده؛ فمرّة استطاع إدخال رأسه بِنُصِيّة(٤) الحَبِّ. أعجبه الحال، وهو يسمع صدى صوته كأنه يتكلم من جوف بئر. طاف قليلاً متباهياً بتاجه متعثراً بكل خطوة يخطوها، ولمّا ملّ من لعبته وأراد التخلص من النُصيّة أعجزته كل الحيل بإخراج رأسه حتى دَلَّتهُ ابنة أخيه على جابية البئر(٥) وقادته إليها ، ضرب النصيّة بالجابية، مرّة وثانية وثالثة .. حتى تكسر خشبها وانفكَّ عنها طوق الحديد، وخرج بجروح تملأ وجهه ورأسه. 

 في كل مرة يكلِّ من الدوران حول آلگـولة يقعي على طرفها بعد أن يعاين سمتاً تظهر فيه الحبَّابَة زهرة، أمه، التي تجلس كل يوم في نفس المكان على سجادتها وبيدها سبحتها ذات التسع وتسعون حبة تراقبه وتدعو له، هنا ترق نظرته ويهدأ باله، ومن تحت ردنِ ثوبه ناصل اللون يخاطب انعكاس صورتها في الماء : يُوومْ جوعان. وهي بغريزتها بدايةً وبخبرتها مع مرور الوقت تُدرك جوعه؛ فترسل له خبزاً يضعه في حضنه، ويبدأ بلوك الخبز والنودان على حافة الماء، هاذراً بما يعنّ على باله.

 هنا عند طرف آلگـولة ومائها العكر سَرَد العم خليل قصته، سردها لشراغيف الضفادع، ولصور القطط والكلاب، للغيوم المارّة، وللوحل الذي يتمرغل فوقه، قصته التي لم يحكيها لبشري، قصته التي لم تكتمل في أذهاننا إلا بعد سنوات بعد تجميع أجزائها المتناثرة ووضعها في سياق متسلسل ومفهوم، قصةً فيها الكثير من الغرابة، كحكاية، لكنها حياتهُ، حياة العم خليل .

 كان يسرد قصته ووجعه وألمه، ونحن نفسِّر أنه يتكلم مع زوجته السعلوة وأطفالها، ونتعوّذ من الشياطين التي ملأت روحه، وإخوته وأبناء عمومته يضربونه في المساء، بالعصا المقدسة، كي يخرجوا الجنَّ من جسده.

قال في هذيانه للماء العكر المتجمع من أمطار الشتاء، الله يسامح أختي ” خزنه” هي السبب، أيقظتني بعويلها وهي تهز كتفي، اقعد يا خليل، اقعد يا مسخّم أبويَ مات، رأيتها بعينيَّ التي سيأكلهما الدود تشق زيجَ ثوبها وتندب. صحت عليها لما اندلق صدرها من شق الثوب، ورأيتها تخمش وجهها وتنتف شعرها صارخةً (أبويا مااات يا خليّل، أبونا مات..) وركضت مولولة نادبة. تحفزتُ بالرَّكض ورائها قبل أن تغيب عني، ولحقت بها بعد رَمشة عين، لكن التفاتةً واحدة كي أتخلص من الطرف الآخر لزرد البغل الذي ألفه حول يدي كي يوقظني في حال جفلت البغال الأخرى، وهي عادة اكتسبتها منذ الصِّغر بسرقة غفوة أثناء رعي الأغنام والدواب. تلك الالتفاتة أضاعت أختي عن ناظري، واختفت كأنها جنيّة، وأنا بين مصدِّقاً ما رأيت ومكذباً كنت أسبح بعرقي رغم البرد وفمي جاف. عاد صوت أختي الذي لا أزال اسمعه إلى الآن  صارخاً بي (أبي مات يا خليل.. أبونا مات.. الحقني يا مسخّم ، أُركض أُركض أبي مات ..أركض) أتبع صوتها ودبيب خطاها، أَركض منجوماً. يأتيني صوتها من اليمين فأغدّ السير نحوه، من الأمام فأركض لألحق بها، يأتي الصوت من الخلف واليسار فأتبعه، صوتها يحثني على الركض، أركض وأتعثر، أركض وأركض. أنا منذ الصغر أركض، أركض وراء الأغنام والماعز، أركض لأمنع الخراف والجداء من الإختلاط بأمهاتها قبل حَلْبِها، أركض خلف الخيول عندما تفلت من مرابطها مستجيبة لرائحة الأفراس المحمولة بالهواء، وظللت أركض وراء بغال الجيش كي لا تشرد وتضيع، أحياناً أسوطها عندما تحرن وأندم على ذلك.

وقال للماء :أذكر يوم سوقي للجنديّة مع ثلاثة من أبناء الديرة كأنه يوم حشر، النساء يندبن، وأمي تبكي وهي  تخاطب أخي وتلومه ( لماذا لم تدفع عنه البدل ؟ أنت دفعت البدل، وأعفوك من الجنديّة. ابن عمو دفع البدل وما راح الجنديّة.. ليش هو مو أخوك، وله حصة مثل حصتك ؟ بس الله يسامح الحجي سلَّمك كل شيء وقعد كل النهار ينود ويقرا قرآن، ليش القرآن بالقراءة؟ ولّا بالرحمة؟ )

تقطع لومها وشكواها، وتحضنني (مع السّلامة يا خليّل، مع السّلامة ). أَخواتي المتزوجات جِئن للوداع مع أولادهن وأزواجهن، حشد كبير من الرجال واجمون ويفركون أيديهم ببعضها، يدورون حول أنفسهم ويرددون بلا توقف (لا حول ولا قوة إلا بالله) أو ينشغلون بنهر النساء على عويلهن ليظهروا أنهم غير مبالين.

وعندما لاح غبار البوسطة في الأفق الشرقي زاد العويل، ومع اقترابها أكثر وأكثر تحول العويل والنواح إلى ندب ولطم، بعض الرجال تلثَّم بطراف محرمة المركزيت(٦) ليخفي دمعةً نزلت غصباً. وعند توقف البوسطة أمام الحشد مدّ نرسيس الأرمني -مالك البوسطة وسائقها – رأسه وقال : (عرب أنت مهبول، هذا زلمة رايح عالجنديَّة مو رايح يموت، هذا يروح ما يفهم يرجع يفهم). 

وقال: هناك في ديرة غير ديرتنا التي نعرفها، سألونا من له دراية ومعرفة برعي البغال وسوقها، قلت أنا، وتمّ تكليفي بها، وقال القائد، بعد أن بصمت على ورقةٍ هذه البِغال أصبحت بعهدتك، تحافظ عليها وترعاها وتسوقها ليلاً كل يومين مرَّة إلى أعلى، إلى ذاك التل، هل تراه؟. تذهب ليلاً  وتعود في الليلة التالية. هناك نبني “حصناً” نراقب منها اليهود، وقال سننقل هذين المدفعين إلى المكان بعد انتهاء البناء. بصمت على ورقة عُهدة تضم أربع بغال، وقلت لنفسي يا أبو علي صحيح البِغال هي البِغال هنا وهناك، لكن هذه بغال الحكومة ليست بغال أهلك، أهلك يسامحونك إذا مرض بغل أو ضاع، أمّا هذه البغال هي جندي مثلها مثلك كما قال القائد. 

مرَّت أشهر وأنا أرعى بغال الحكومة، ألفتها وألفتني، وبمجرد شمِّها لرائحتي أو سماع صوتي تتبعني. لم تعد تحرن معي  مثلما تفعل مع الآخرين، ولم أفقد إلا واحداً منها عندما تعثّر ودقت سبطانة مدفع قائمته الخلفية. قلت للضابط أستطيع تجبيره، لم يقتنع وأطلق رصاصةً بين عينيه. 

كانت ليلة باردة، وكل شيء حولي كان أسوداً بلون الكُّحل، السماء سوداء والأرض سوداء، الحجارة سوداء والبغال التي أرعاها لونها أسود، منذ مجيئي إلى هذا المكان وأنا أرعاها في الليل والنهار، دربتها على حفظ الطريق الذي نسلكه، وكانت هي من يقودني بطريق العودة إلى المكان. إلا تلك الليلة التي أيقظتني بها أختي “خزنه” ولحقت بها، ليلةَ  ضاعت بغالي وضعت، عدت باحثاً عنها ولم أجدها، درت في العِتْمة ولم أجدها. البرد جمَّد أطرافي، والخوف من شرودها تجاه اليهود شلّ تفكيري. صوت دبيب حوافرها يتناهى إلى سمعي ويجرني نحوه، وعويل أختي مع أصوات بكاء ونواح واستغاثة تحوّل إلى فحيح في أذني جعلني أدور في المكان وحول نفسي. لا أذكر كم لبثت في الركض باتجاهات مختلفة تلك الليلة، ولا كم ليلة ضِعْت. ليلتان ثلاث وربّما أربع ليالي. وعندما وجدوني وأنا أرعى العشب من الجوع، أحاطوا بي ضربوني و كبلوني وقالوا لي يا فراري يا خائِن أين البغال؟ وقرروا أنني بعتها لليهود! 

وقال: وجدتُ نفسي في السَّاحة بين خيام المعسكر وأذني اليمنى مدقوقة بمسمارٍ على عمود العلم. لم أستطع التزحزح من مكاني، وكل حركة كانت تسبب لي ألماً شديداً، وكان هناك دم جامد يمتد أسفل أذني. أمنيتي أن أجلس. أحاول الجلوس، لكن الألم يرجعني إلى الغيبوبة وفقدان الوعي. أصحو وتعاودني الرغبة في الجلوس، وبدون أي محاولة وبمجرد مرور الرغبة بالجلوس في  خاطري، يغمى عليّ وأدخل إلى غيبوبة جديدة، ومرة بعد مرة بين رغبة بالجلوس وفقد الوعي، هذيت أو حلمت أن تدَقْ أذني وأنا جالس، لكنهم ضحكوا مني في الحلم وقالوا ( خاين، باع بغال الجيش لليهود ويريد الجلوس)  وأغرقوني بالبُصاق. بعدها لم أجرؤ حتى على طلب الذهاب إلى الخلاء، فسال ماء دافئ  أدفأ قدميّ المتجمدتين من البرد للحظات، ولا أذكر لماذا أغرقوني بالماء بعد أيامٍ من صلبي على عمود العلم وهم يغطون أنوفهم؟

لم ارتعب، وربما لم أصحو لأدرك ما أنا به كي أرتعب، كانت الجبال ترقص حولي، والحجارة السوداء تكلمني، وكنّا أنا وثلاثة بغال نطير في السماء، قدماي تلامسان الأرض، أحياناً، أجفل من برودتها وأعاود الطيران مع  البغال الثلاث باحثاً عن البغل الرابع، وكانت الغيوم تسقط عليّ، عندما جاء ملكان ومدداني على فراشٍ قطعا يديّ ورجلي وأدفآها، وأطعماني طعاماً لم أذقه بحياتي.

أحياناَ في ذروة هذيانه المحموم يَجْفَل ويلمّ قدميه. يتزحزح من مَطرحِه طاوياً جسده. ويدفن رأسه بحضنه. يلتقط حجراً وبجمع يديه يضرب رأسه حتى يدميه. ويبدأ بجعيرٍ مخيف. هاذراً (مو آني، مالي علاقة، لم أفعل شيئاً، هذا دم، هذا دم كثير،هذا دم كثير) مشيراً إلى ماء آلگولة.

وبراحة كفه يسدّ  أُذنه المَصْلومة والمُكَرمَشه كقطعة دهنٍ امتصها الذُّباب.

 نتجمد من الخوف وتهبط قلوبنا من جعيره، وفجأةً ينهض ويرفس سطح الماء بقدمه، صارخاً (يا كلاب هذا دم، هذا دم كثير، غطوا الدَّم بالتراب!.. حرام غطوا الدَّم بالتراب! ادفنوا الدم كي لا تلعقه الكلاب..الكلاب تَنْكَلِبْ إذا لعقت الدم، غطوا الدّم مثل دم أضاحي العيد، هذا دم ادفنوه بالتراب وأنا مو مجنون)

عندما يدخل في نوبته هذه  كنّا نسدّ آذاننا، كما يسد إذنه المَصْلومة، ونتمنى أن يهدأَ ويصمت، ليس تعاطفاً ورأفةً بحالهِ وإنما صمته يُذهب خوفنا.

 فجأةً ينهدُّ كما ثار متابعاً هذيانه مواصلاً تَذَكُّر ماذا جرى له. وقتها لم يكن أحداً يعرف أنه ارتحل بدون بغاله  قبل شهرٍ من ضياعه وضياعها، مع مدفعين بشاحنةٍ إلى اتجاه آخر غير اتجاه التَّلّة التي يُبنى فوقها الحِصن، وبمسافةِ أبعد منها وأعمق، إلى الوراء، إلى الداخل، إلى طرف مدينة السويداء.

تَذكُّر تختلط  فيه أصوات قذائف المدافع والطائرات مع نواح أخته ودربكة حوافِر البغال وعويل القتلى، لينتهي بنجمٍ أخضر يقوده ويسير به على وجه الماء، ويضعه على طرف آلگـولة غافياً كجييفةٍ حملها الماء من مكان بعيد، وألقاها على حافته، وعندما تبدأ الكلاب بنهش الجيفة الملقاة، يستفيق. 

تذكُّرهُ هذا الذي يتكرر كل يوم في الصحو أثناء تجواله حول آلگولة ويأتيه في أحلامه ،رواه مرة ً لجدي بعد سنواتٍ وسنوات على شكل حلمٍ يزوره بشكل متكرر كي يكتب له حجاباً. 

خلال سنوات إخضاعه والعمل على إعادة عقله كان يتم إخفاءه في قاووش البِغال ومنعه من الخروج نهائياً خاصةً عندما يوجد ضيوف في الأوضة؛ فمن العار على العائلة أن يكون لديها رجل مجنون! 

في مكان إخفائه هذا عن الأعين الغريبة، كنا نَتَلصص عليه ونراقبه حذرين ممنين أنفسنا أن نحظى ولو مرة واحدة برؤية زوجته السعلوة وأولاده، لم يحالفنا الحظ، لكن مرة رأيناه وقد عرى نصفه الأسفل برفع ثوبه إلى الأعلى مباعداً ساقيه عن بعضهما، ويده تهتز بحضنه بحركةٍ سريعةٍ، كنا متأكدين أن السعلوة بحضنه لكننا لا نستطيع رؤيتها، ولمّا انهمد واستلقى على ظهره كاشفاً لنا ماذا كان يهز بيده، أدركنا ما كان يفعل. وكشيءٍ غامضٍ لم ندرك مبعثه انتابنا شعور بالخجل والعيب، خاصةً، لمشاركة مجايلاتنا البنات في تلصصنا ورغبتهن في رؤية السعلوة أيضاً، التي لم تكن  لحظة انهماده، وخرجنا من مشاهدتنا تلك بإحساسٍ مبكر أننا نغادر سن الطفولة.

بعد مرور وقت لم نَتَبيّنه تماماً لانشغالنا بهموم جديدة،مثل كتابة الوظائف المدرسية وتكليفنا برعي البَهْم(٧) في الربيع، والمشاركة بالحصاد ودرس البيادر في الصيف، وارتقاء مخاوف جديدة سيطرت على حياتنا كالخوف من أستاذ المدرسة الذي استقرّ الأوضة، وكأن الله سلطه علينا فقط ليراقب لعبنا، وينغص حياتنا داخل المدرسة وخارجها، كما كانت السعالي تؤرق حياتنا ليلص ونهاراً. في هذا الوقت تمَّ التخلي عن ربط العم خليل بزَرَد ِالحديد، ولم يعد أحداً يضربه، وأصبح كائناً غير مرئي لا يثير اهتمام أحد، وتحوّل هو إلى شخص هادئ زائغ النظر، يهرب من النَّظر في وجه مُحدِّثه، ويَكُدَّ بأي عمل يتم تكليفه به دون أي اعتراض منه، يطيّن الدور، ويَدْرس البيادر ويسقي القطن، واعفي من الرعي والعناية بالبغال والأغنام والكدش باتفاق ضمني.

ولمّا آنسناه وآنسنا ورحنا نلتقي به، نحن نرعى أغنامنا، وهو يسقي القطن، كان لدينا أملٌ بعد تخلينا عن فكرة ضَبْطه بمعاشرة السّعلوّة أنْ نرى أذنه المصلومة. 

في البداية كنّا حذرين من الاقتراب منه، فذاكرتنا مليئة بالخوف منه، لكنه بادرنا ذات مرة وأوما لنا عندما كنا نبحث عن أعشاش الصَّعو والقطا على كتف الوادي الذي يفصل بين مكان الرعي وحقل القطن الذي يسقيه، اقتربنا منه مترددين. 

قال لنا:الصَّعو يبني عشَّه عند أسفل نباتات القندريس والبِّلان والعاقول، ليحتمي بها، وعندما تهجس الصَّعوةِ اقتراب خطرٍ من عُشّها، تفرّ من المكان، وتُحلِّق عالياً، ثمّ تخرًّ مهاجمة الخطر المقترب من عشّها. أما القطا لا تبني أعشاشاً، هي تبعد الحصى والحجارة برجليها وجناحيها ليصبح المكان تراباً ناعماً تبيض فوقه. وبقدرة الله بيضها بلون المكان. عيون الناس لا تستطيع التفريق بين بيض القطا والحصى المحيطة بالمكان. والقطاة تظل راقدة على بيضها، ولا تراها إلا عندما تدرج مسرعةً من مكانها عندما يقترب منها أحد، وتبدأ بمناورة تفوز فيها بشكلٍ دائم، فهي بدايةً تدرج على الأرض بتثاقل لتلحق بها، وعندما تقترب منها تفرُّ لمسافة قصيرة ثم تعاود التًدّرج لخطوات قليلة، ثم تفر وتدرج حتى تبعد الخطر عن مكان عشُّها.

وقال عندما تجدون عش قطاةٍ أو صَعوة أعلِّمكم كيف تربطون ” الجلاعيط ” في أعشاشها حتى تكبر. شَغَفَنا بما قاله أبعد عنا توجسٍ منه،وأصبحت مناداته “بعمو خليل ” تجري على ألسنتنا كأنها لم تكن إلا ذلك.

طيلة سنوات عمره التالية لفترة “جنونه” فُرِضَ عليه العيش كرجلٍ فاقد الأهلية، وتم تبصيمه على توكيلٍ لأصغر إخوته بالتصرف بحصته من الأرض التي ورثها من أبيه، وكلما أراد أخاه بيع قطعةً من أرض العم خليل، يروّج أنّه وجد له عروساً درويشه مثله. تباع الأرض ويُقبض ثمنها ولا تظهر العروس الدرويشه.

في نهاية ربيع عام 1989، في يوم شاركت السماء في أسوء ما لديها، بإثارة غبار كثيف تحوّل فيه النَّهار إلى ليل، ضاق صدر العم خليل المنهك بفعل الربو وبفعل المتعة الوحيدة التي حصل عليها طيلة حياتة ، باكيت غازي يومياً ، توقف قلبه ومات.

أثناء غسل جسده قبل دفنه رأينا لأول مرة أذنه المصلومة والمكرمشة كجلد حبة تين جاف، وفي وسطها ثقباً يخرج منها شعر أسود كثيف.

هوامش
(1)الـگُـردة: سيف قصير النصل  مكتوب عليه “الشهاب الثاقب ” 
(2) آلگـولة: أرض منخفضة وسط القرية تمتلئ بمياه أمطار الشتاء وتستمر حتى نهاية الربيع.
(3) الهِبريّة : غطاء رأس للنساء، مصنوع من الحرير، له عدة ألوان 
(4)النُصِيّة:مكيال للحبوب، وهي عبارة عن وعاء خشبي دائري الشكل، محاط طرفه الأعلى بسوارٍ من حديد، ويقطع قطرها الأعلى شريط حديدي أيضاً .
(5) الجابية حوض متطاول من الإسمنت أو الصخر المنحوت؛ يُملأ بماء البئر لسقي الدواب والخيول.
(6) المركزيت: اسم ماركة لغطاء الرأس الرجال في الصيف، أبيض اللون رقيق القوام، يستبدل بالجمدانة الزرقاء أو الحمراء في الشتاء.
(7) صغير الضان ( ذكور وإناث ) .. وكنّا نطلقها على صغار الأغنام والماعز، عندما يتم فصلها عن أمهاتها طيلة النهار ويسمح لها مرتين أو ثلاث بالاختلاط مع الأمهات نصف ساعة كل مرة للرضاعة.   

هوامش

موضوعات

الأكثر قراءة

عشرة أفلام عظيمة عن المافيا (ترجمة)
10 أفلام تشويق إيروتيكية رائعة (ترجمة)
عن السيرورة والصيرورة
10 أفلام عظيمة عن الوحدة (ترجمة)

GOOGLE AD

نكـتـب لفلسطين

اشتراكك بنشرتنا البريدية سيحمل جديدنا إليك كل أسبوع

Vector
Vector

اختيارات المحرر

Vector
Vector

من أجل صحافة ثقافية فلسطينية متخصصة ومستقلة

اشتراكك بنشرتنا البريدية سيحمل جديدنا إليك كل أسبوع